سمية العبيدي
بائعة السمك
1
وقفت في ( مشحوفها ) كرمح غرز في الارض . مستقيمة كعصا لا تهتز منها شعرة وهي تقبض على (الفالة ) لتصوبها نحو سمكة كبيرة . بعد ان غرزتها في الجسد الحي رفعت فالتها وفي طرفها تلبط بعنف تلك البنيّة الرائعة . اكتفت من الصيد . ربطت المشحوف عند بيت قريبتها العجوز, وبعد ان أهدتها السمكة الصغيرة التي تحتاجها ودعتها الى حين, وحملت سلة الخوص الكبيرة بما تحتويه من صيد فاخر. توجهت الى المدينة القريبة ودخلت السوق منتصبة القوام .
جلست في موضعها المعتاد تنتظر الرزق الحلال وبعد ما نفد ما لديها من سمك الا واحدة تركتها لتطعم اهل بيتها أخذت طريقها نحو (السلف) كانت امرأة جميلة نشطة لا تزال في عمر الشباب ولو انها قد انجبت صبيين وبنتا واحدة . واذ توجهت لبيت قريبتها لأخذ المشحوف - وعلى غير المعتاد - اعترض طريقها محيسن وهو شاب موسر من قريتها كان قد تقـــدم لخطبتها ورُفض لأنه يعاقـــر الخمر, وكان قد أكد أكثر من مرة انه سينتقم منها ومن ذويها بطريقته الخاصة, وكان ذلك طبعا قبل ان تتزوج ابن عمها حمد , كما هي العادة . كان الطريق خاليا ولم تعرف بمن تستنجد . حاولت ان تفلت لكنه امسك بقوة برسغها واخذ يعنفها وهي تتفلت منه . وبينما هي على هذه الحالة مر بها قوم من قريتها فابتعد محيسن عنها فورا وهرب وهو يخفي وجهه بطرف كوفيته كمن يخشى ان يشاهد معها . وبذا اعطى انطباعا بانه كان على موعد معها .
حين بلغ المشهد زوجها ركبه الغضب فاقسم على قتلها مع أطفالها لأنه كما ادّعى لا يعلم من أبوهم ؟! ذلك بعد ان طلقها ثلاثا على مشهد من اهل القرية أمام الشيخ في المضيف . وكان في رأيه ان من حقه قتلها لأنه ابن عمها ولن يغسل شرفه الا الدم . هـــذا فقد وقر في نفسه انها آثمة . بكت واقسمت انها بريئة امــام ابيـــها واخوتها وامام أعمامها وكل العشيرة فصدّق من صدق . ولكنَّ ظلا من الشك بقي في نفوس بعض الناس وخاصة زوجها
وفي تلك الليلة وبعد ان امتـــد الظلام ليشمـــل الماء والسماء والقصب والارض واحواض الرز لكزها ابوها بقدميه الخشنتين واشار لها ان قومي , فلما قامت وقد أوقعها أبوها في فم الفزع والرعب لقمة سائغة . قال لها بصوت خفيض جهزي ملابس لك وللأطفال ولنهرب فان هذا الاحمق يعتقـــد حقا انك آثمة . وربما حرّض اخوتك معه وأمالهم لصفـّه واتفقوا على قتلكم جميعا فكلهم حمقى .
أعدت (موشيّة ) - وهي ابنة وحيدة حيث ان امها أقسمت أن تسمي ابنتها (موش هية) لعل الموت ينصرف عنها فلا تموت كأخواتها السابقات - أعدت موشية بعض الملابس لها وللأطفال على عجل و وضع ابوها ما لديه من مال في صرّة صغيرة اودعها جيبه والقى ب - دشداشته النظيفة وبعض حاجاته - في صرّة ابنته وحمل مداسه بيمينه . ومضوا في الطريق لا انيس لهم سوى القمر الذي شاب فتقلص حجمه وخفت ضوؤه. كان يعرف مواعيد القطار الصاعد والنازل فقـــد حفظها تماما . وحتى ولو انه لم يكن قريبا من القطار عند مروره بهم ووقوفه بمحطتهم .فقد كان يعرف ذلك من صفارته التي تملأ الهور والافـــق بصوتها الذي يشي بالغربة والوحشة. ولمّـا وصلا حيث يقــف القطار لبضعة دقائق امتطوه بسرعة كبيرة . كان يعرف الوقت ليلا ونهارا على وجه التقريب على السليقة ولا يُخطىء الا في دقائق معـــدودة هذا ان أخطأ , ما كادوا يرتاحون قليلا من المشي والخوف حتى جاءهم من يستحصل اجرة الركوب . ولقد توسل - فرهود - أبوها بالمحصل ان يعفو الاطفال من اجرة الركوب لكنه رفض ذلك واخيرا اكتفى بثلاث تذاكر لكل العائلة . نام الاطفال بعضهم فوق بعض بمجرد ان سار القطار بهم .
بائعة السمك 2
كان له بعض الاقارب في المدينة الكبيرة غير انه آثر الا يقترب منهم ولذا حين نزل من القطار مع كل من معه أخذ يسأل العابرين عن دار للسكن وعندما دلـّه بعض الاخيارالى ما أراد فـُجع بما طـُلب منه اجرا لشهر واحد وما كان يستطيع ان ينصب لعائلته (صريفة ) كما يفعــل الآخرون خشية ان يتوصل اليه زوج ابنته وربما اولاده ذلك ان الصرائف تنصب عادة في أماكن محددة , لذا فقد أجر في احد الشوارع الفرعية - كراجا - بيعت السيارة التي كانت فيه وصُرف السائق الذي كان يسكن مع السيارة فلم يعد الكراج ذا نفع لاهل الدار . دفع اجرة الشهر واتكــل على اللـه . دخل الجميع الكراج وبعد ان حملق الاطفال قليلا فيما حولهم . مدّوا اجسادهم اخيــرا على ارض صلبة ونام الصغار فورا . وحين جاءت ربة الدار صاحبة الكراج ببعض الطعام كان الاطفال يغطون في نوم عميق . اكل الاب والابنة وتركوا طعاما للصغار فلم يهن عليهما ايقاظهـم من النوم بعد هذا التعب الطويل ثم استسلمـــا هما ايضا لسلطان النوم .
لم يناما الا شيئا من الليل . استيقظت المرأة فأخذت تفرغ ما في اكياسها وصرّتها من ملابس وحاجات اخرى جلبتها معها لضرورتها أفرغتها في زوايا الغرفة محاولة ترتيبــها ما امكن . اما الرجل فقــد ايقظته امور اخرى وبدأ يتساءل ان كان ما فعله عيــن الصواب . وماذا سيقول الناس في السلف عنه . دفع افكـار السوء عنه قائلا في نفسه فليقولوا ما شاءوا انا أعرفُ بابنتي منهم .
ثم انحرفت افكاره باتجاه آخر. كيف سيعيل الاسرة فالمال الذي معه لن يصمد أكثر مــن اسبوع في هـــذه المدينه حيث الطعام غير الطعام الذي اعتــاده والــذي يحصله من الارض والماء بشيء بسيط من الجهد ويكتفي به , هـــذا فضلا عن انه لم يعُد يستطيع ان يعمل بسبب مرضه وعمره غير انه اتكل على الرزاق الكريم . فلما اتمت ابنته عملها جلست قبالته فبدآ الحديث واتفقا ان تبحث موشية عن عمل منذ الغد .
بائعة السمك 3
خرجت موشيّة صباحا الى الحي تستكشف مواطن العمل المحتملة فيه ولمّا لم تجد من هو في حاجة الى خدماتها هناك انصرفت الى البيت خائبة بعد ان اشترت بعض الخبز والتمر .
بعد ان ارتاحت ساعة من نهارها . خرجت تارة اخرى الى بيت الحاجة صاحبة الكراج . سلمت عليها وعرفتها مرة اخرى بنفسها واسمها وطلبت منها مساعدتها في ايجاد عمـل لها قريب من البيت . رحبــت ربة المنزل بها ووضعت يدها على خدها فترة من زمن وفكــرت ثــم دلتـّها على بيت مجاور فيــه امرأة موسرة كبيرة السن وليس لها من يعينها في عمل البيت وتنظيفه فقد هاجر ابناؤها كلهم ثم تبعتهم ابنتـاها فلم يعـد في الدار سوى المرأة وزوجها . سكتت المرأة ثم قالت : أراك نظيفة فهل انت امينة ايضا لأني اذ اوصي بك خيرا فسأتحمل نتيجة اعمالك خيرها وشرها وارجو ان لا تخيّبي املي فتكون مساعدتي اياك وبالا عليَّ .
اجابتها موشيّة سأكون عند حسن ظنك بي ان شاء الله .
أخذتها الجارة الى دار كبيرة متسعة الاطراف يفوح العز من جنباتها وان كان عزا انتهى وزال . سردت الى ام طالب حاجة موشيّة للعمل ونظافتها وامانتها , فرحت ام طالب بموشيّة كثيرا وحددت لها اجرا مناسبا وحددت مواعيد العمل واوقاته . ولم تنس ان تذكر ان هـــذه الاوقات قد تتمدد بعض الاحيان حسب صحة الزوجين او مرضهما فقد تضطر الى المبيت في الدار ايام الازمات . رضيت موشيّة بالعمل واستلمته من فورها .
بعد ان ودّعت الجارة شاكرة عادت الى المطبخ لتتعرف على اركانه وتموينه وكيفية عمل ادواته فهي تراها للمرة الاولى .
كانت موشية امرأة ذكية وقد استوعبت المطلوب منها بسرعة . فكانت تحضر الوجبات التي يأكلها الزوجان وتنظف مكان نومهما ويقظتهما وتعد دواءهما وتعطيه لهما في الوقت المناسب وفي اوقاته التي حددها الطبيب لهــما كما كانت تتسوق لهما ما يريدان وفي الحـــق ان مطالبهـــما كانت محدودة بسبب مرضهــما فكان جُلّ طعامهما من الاحسية البسيطة والفاكهة التي لا تحتاج الا للتنظيف والتعقيم . ولما رأت موشيّة جهاز التلفاز للمرّة الاولى سرت به كثيرا وتعلمت ان تفتحه وتغلقه وانتبهت الى ما يُقال فيه من كـــلام بدأت تشعر بضرورة التحاق اولادها بالمدارس المتوفرة بكثرة فمضت الى المدرسة وسألت عن امكانية التحاق اولادها بها ومن حسن الحظ ان السنة الدراسية قد بدأت قبل مدة قصيرة فقط فالتحـق ولداها بها وابتدآ الدوام والانتظـــام فيها وقد اشتـــرت لولديها ما يلزم من ملابس من راتبها الاول وقد ساعدتها ام طالب بشراء حقائب مدرسية لهما .
كانت بقايا الطعام التي تتخلـــف كل يوم كفيلة بسد النقص فيما تعد لاولادها وابيها . ودأبت ام طالب على اكرامها بين حين وآخر. لم تكن موشيّة تعرف شيئا عن المدن فتعلمــــت كل شيء في فترة محدودة حتى انها تعلمت لهجة المدينة بسرعة . حاولت ام طالــب ان تحثها على التعلم فهي لم تزل في عمر الشباب وكان ذلك ضروريا لقراءة أسماء الأدوية الكثيرة وفعلت موشية هذا وكانت محطة التلفزة تعرض برامج تـُعنى بذلــك فانتظمت على متابعتها واستفادت منها كثيرا فان تعسّر عليــها شيء فكانت تلجأ الى ام طالب او الى جارتها الحاجة طلبا للمساعدة , كما ان ولداها كانا لها نعم العون فأخذ بعضهم يساعد بعضا ويتشاركون المعلومات مما عجّــل بتعلمهم جميعا .
أهدتها ام طالب بعضا من ملابسها القديمة فنعمت بها شاكرة . وقد تغيّر مظهرها كثيرا عمّا كان عليه .
بائعة السمك 4
ومن عادة الدهر ان يصفو ويتعكر وان تزول النعـم مهما طال أمدها . لقد حان اجل ابي طالب ومضى الى جوار ربه مما احزن الجميع . وقلق الاولاد على امهم لذا طلبوا التحاقها بهم . فباعت الدار بأثاثها واكرمت موشيّة وصرفتها . وقد ودعتـــها موشيّــة في المطار وعينـــاها مغرورقتان بالدموع .
بحثــت موشيّة عن عمل آخر وكان ذلـــك في غاية الصعوبة . وبعد حين اضطرت الى العودة لبيع السمك من جديد وهي مهنة تعرفها جيدا وطالـما مارستها فـــي
المدن القريبة من قريتها ولم يكن يعرفها احد من حسن الحظ ورجعت تلبس ما يليق بهذا العمل اثناء ممارستها اياه .كانت تنفق على ابنيها وابنتها الصغيرة التي التحقت بالمدرسة ايضا . وعلى والـــدها الذي اضَّر به المـرض للكبر والغربة التي عاناها ولم يكن يشكو ابدا مما جعلها تظنه سعيدا وقد تجاوز ازمـــة الغربة . غيـــر انه كان يخفي مشاعره عنها كيلا تتألم . مات والدها غريبا فبكته بكاء مرّا طــويلا . وخففــت الجارة الطيبــة من لوعة موشيّة وسألتها ان تسأل اللـه ان يرحمه , وان تنصرف للعناية باطفالها .
ما كادت تمر بضعة أشهر على عملها في بيع السمك حتى التحـــق بالباعة رجل من قرية قريبة من قريتــهم عرفته اما هو فلم يعرفها - كما ظنـّت - نظر اليها أكثــر من مرّة نظرات غريبة , غير انها لم تعــره انتباها بل لوت وجهها بعيدا عنه .
ذات يوم تبعها الى الدار لاحظته من طرف عينيها ثم انسلتَ بعيدا . وفي يوم آخر تحرّش بها فصدتـــه بعنف مما جعله يحمل لها غلا وحقدا كبيــرين مرّ الوقت ولم يحدث منه شيء مما جعلها تطمئن وتنسى انه من قرية مجاورة لقريتها . غير انـّه لم ينسَ وما هي الا بضعــة اسابيع واذا باقربائه يحلون عليه ضيوفا فهم في حاجة لاستشارة طبية لامهم المريضة . فكانوا يذهبـــون بها نهارا الى الاطباء والعلاج ثم يعودون ليلا لينامــوا في بيت قريبهم وفي اثناء فترة سمرهم حدّثهم بامر موشيّة من القرية المجاورة - وكلهم يعرفها لانهم جميعا يبيعون السمك في نفس المدن القريبة من قراهم - وانهما يبيعان السمك نهارا في نفس السوق , فاذا حل المساء خرجت الى الشارع بزي أهــل المدن وتحدثت بلهجتهم كما انها اصبحت تحسن القراءة والكتابة وصار حالها الى غير ما كانت عليه . هذا ما يدري من امرها وما لا يدريه يعلمه اللـه . قال ذلك بلهجة غريبة فيها من التلميح شيءٌ كثير وهو يتلاعب بحاجبيه الكثين وبقسمات وجهه , مما ولـّد لديهم انطباعا سيئا . ولما عادوا لقريتهـم تحدّثــــوا بهذا الامــر حتى وصل الهمس لآذان اخوتها وزوجـها فاتفقوا على امـــر بليل اسود مــن وجوههــم . خرجوا جميعا ليمتطوا ظهر ذات القطار كيلا يراهم احد ونزلوا المدينة الكبرى الغافية على ضفتي النهر الخالد باطمئنان وود . ساروا في زحمة المسافرين ثم تجولوا في دروب المدينة الآمنة . ينظرون الى بيوتها الجميلة وعماراتها العالية الى سوحها المنتظمة وشوارعها العريضة وحدائقها بأشجارها السوامق الى أسواقها المفعمة بالخير, الزاهية بالوان الفاكهة الشهية , حتى وصلوا الى سوق سمكها المقصود ملثمين بلا أوجه وانتظروا انصراف الباعة الى بيوتهم فتبعوا موشيّة عن كثب فلما وصلــت دارها انتظــروا في ركن خفي حتى يحضر أولادهـــا من مدارسهم . ثم انقضوا على الاسرة الآمنة انقضاض نسر على عش الفراخ فتركوا أربع جثث بوجوه مشوهة وأعضاء مقطعة وانصرفوا دون ان يعلم بهم احدٌ .
*****
تمت
سمية العبيدي
761 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع