رموز وأشباح - الحلقة ٢٠ و ٢١

                                               

                        أ.د. سيّار الجميل

رموز وأشباح -الحلقة ٢٠

تداعيات 8 شباط 1963 وانشقاقات البعثيين

عوامل الفشل

 مقدمة

هذه حلقة جديدة اخرى من حلقات كتاب " رموز واشباح " ، وستعقبها حلقة اخرى اخطر تتحدث عن انقلاب عسكري 18 تشرين الثاني 1963 ضد البعثيين بقيادة عبد السلام عارف واسبقياته اذ سبقه انقلاب حزبي بعثي بين البعثيين انفسهم .. وهنا ليدعني القراء الكرام اقول بأن كل المعلومات التاريخية الواردة هي معتمدة على مصادر ووثائق .. وهي تكشف ما جرى في العراق بعد 14 تموز / يوليو 1958 .


عبد السلام عارف يقطف الثمار

بعد 8 شباط / فبراير 1963 ، تفجرت خلافات داخلية بين جناحين بعثيين من المدنيين ، اولاهما يقوده عل صالح السعدي وجماعته ، والثاني يمثله طالب شبيب وحازم جواد وجماعتهما . وأمام تفاقم الخلاف الحاد بين الجناحين وتدهور الاوضاع السياسية الداخلية ، قام عبد السلام عارف في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1963 بحركة عسكرية سريعة انقّض فيها على البعثيين الذين اتوا به الى رئاسة الجمهورية ومنحوه رتبه المشير الركن وجعلوه قائدا عاما للقوات المسلحة .. فنجح في اقصائهم بتحالفه مع الضباط العسكريين ، واقصى من خلالها أغلب البعثيين عن الحكم ، وحل مليشيات الحرس القومي ( الذي اسماه باللاقومي ) ، وكان هو نفسه قد لبس لباسهم ووقف معهم في الشوارع ، كما قام بتسفير ميشيل عفلق وأمين الحافظ عن العراق بعد اعتقالهما لساعات ( ولم يمسسهما بأذى جراء تعليمات وصلته من مكان ما في العالم ، فالتزم بها ) ، وقد سمى البعثيون تلك الحركة بـ " ردة تشرين " ، اذ انها وقعت في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 وقالوا بانهم جلبوا عارف من بيته يوم 8 شباط 1963 لينصبوه رئيسا للجمهورية لأول مرة ويمنحوه رتبة ( مشير ) ، وبتوصيف من صدام حسين في ساحة الكشافة ( اعتقد عام 1970 ) قال بالحرف الواحد " خلينا عبد السلام ورانا ، مد ايده بالخرج " ( والخرج بالعراقي هو ما يحمله رعاة الاغنام لوضع حاجياتهم فيه ) !! في حين سمّى عارف نفسه اعلاميا ( ابو الثورات الثلاث ) .. وفي شهر شباط 1964 ، أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي ، وكان جهاز حنين قد تشكّل على يد صدام حسين ليباشر مهمته في التصفيات الدموية ( التي اسموها بالممارسات الثورية ) .

دعونا نعالج الحدث تاريخيا بتفاصيل موثقة

انشقاقات البنية السياسية للبعثيين وعوامل الفشل

لقد عصفت الخلافات السياسية الداخلية في قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم تكن عناصره متجانسة اجتماعيا وثقافيا ، اذ ان اعضاءه ينتمون لطبقات متباينة متمايزة اجتماعيا ، فضلا عن كونه خليط من اهل الريف والمدن فالاختلافات الثقافية الحادة انعكست على وجوده السياسي ، وبالرغم من ذلك كله ، فان جله كان من الطبقة البرجوازية الصغيرة ، ومع توالي الزمن ، انضم ابناء المتريفين اليه في المدن ، فغدت تركيبته صعبة جدا مما خلق جملة صراعات داخلية فيه ، وهي صراعات تباينت من بيئة عراقية الى اخرى . ومما اساء الى بنيته السياسية ان اغلب المنتمين الاوائل اليه كانوا من الطلبة الذين وصلت نسبتهم الى حوالي 50% في حين بدت نسبة الفلاحين فيه 5% و20% من العمال ، وان المتبقي 25% قد جمع معلمين وضباطا وعسكريين وموظفين واصناف من المهنيين والعاطلين ، وان اغلب الفلاحين من الجنوب ، ولكن اغلب العسكريين من سنة بغداد وما يعلوها وان القيادة الاولى كانت من 3 سنة و5 شيعة ، ومن مجموع 52 من قادة والكادر المتقدم للحزب ، كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين.

لم يقتصر الامر على تباينات البنية الحزبية ، بل على صراعاتها الخفية في دواخلها ، اذ ساوى الحزب بين الخيرين والاشرار ، وبين ذوي الكفاءات والجهلة ، وبين ابناء المدن وابناء الريف ، وبين الاذكياء والاغبياء ، فكانت البنية الحزبية محفوفة بالمخاطر والتوجهات جراء حركة المد والجزر في الافكار والتطلعات خصوصا وان نسبة عالية من الشباب الذين لم تتجاوز اعمارهم عموما على العشرين عاما كانوا من الطائشين - كما وصفهم مؤسس البعث ميشيل عفلق بعد الذي جرى في 8 شباط / فبراير 1963 ، واكتشف بأنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب !! وقال عفلق في اجتماع مغلق عام 1964 وهو يصف احوال ما بعد 8 شباط في العراق : " بدأت اشعر بالقلق من فرديتهم وطريقتهم الطائشة في تصريف الامور . واكتشفت انهم ليسوا من عيار قيادة بلد وشعب ، بل انهم يصلحون لظروف النضال السلبي " ! وتحدث عن نزوات البعثيين العراقيين واهمالهم وارتجالهم ونزاعاتهم الشخصية وتسابقهم الى المناصب والمغانم .. ( راجع كتاب بطاطو ، ج3 ، ص 325 ، 328 ) ، كما وان حكم عبد الكريم قاسم وما جرى فيه من ممارسات خاطئة ، دفعت نقمة البعض من الشيوعيين الارتماء في احضان البعثيين . وعليه ، فان من الصعب ان يكون هؤلاء ممثلين لبنية سياسية قوية اولا ، كما انهم غير قادرين على حمل ايديولوجيا سياسية ثانيا ، فضلا عن ان عناصرها قد برزت ممثلة لتكتلات جهوية او عشائرية او طائفية ثالثا كما توضح ذلك لاحقا من تاريخ البعثيين في العراق .

عبد السلام عارف تغدّى بالبعثيين قبل ان يتعشوا به

كان عبد السلام بالنسبة للبعثيين ورقة مهمة لهم ، فهم غير معروفين ارادوا التسلّق على سمعته التي حصدها يوم 14 تموز 1958 وايضا بعد محاكمته امام المهداوي عام 1959 كونه يمثّل زعيما للتيار القومي .. بعد يومين فقط من تنصيبه رئيسا للجمهورية من قبلهم ومنحه رتبة مشير ركن وهو عقيد ركن ، وجد نفسه يصطدم معهم ، وخصوصا مع علي صالح السعدي الذي طالب بازاحة عارف عن منصبه ، اذ توقّع بأنه سيسبب متاعب لهم وخطورة عليهم ، وهدّد السعدي بالاستقالة اذ لم تستمع القيادة الى رأيه ، لكنه انصاع لرأي جمعي رفضت موقفه .. وقد وصلت المعلومات كاملة الى عارف من قبل حازم جواد وقد اخبره ان السعدي ينوي التخلص منه وقتله . ومنذ الايام الاولى افتقدت الثقة كاملة بين عارف والحزب ، وبدأ عارف يخطط للاطاحة بالبعثيين .

ويبدو ان الاخير وجد في بعض القادة البعثيين العراقيين العسكريين مادة خصبة للتوغل في خطته .. ناهيكم عن ان عارف كان على علاقة قوية بالناصريين والحركيين الذين كانوا على افتراق سياسي وايديولوجي حاد مع البعثيين ، وخصوصا بعد مباحثات الوحدة الثلاثية التي جرت في القاهرة بقيادة جمال عبد الناصر ، فجرت افتراقات في العراق جراء سياسة عبد الناصر ، خصوصا وان القيادة القطرية للحزب قد انقسمت حول تشكيل جبهة قومية واسعة تضم البعثيين مع القوميين والناصريين والحركيين ، وهي التي طالب بها حازم جواد وطالب شبيب ورفضها السعدي وكتلته ، وتأزم الموقف بعد اتهامه بالتعصب والتهور

كان التخندق السياسي واضحا ، فالبعثيون قد انقسموا في ما بينهم ، وكانوا قد غدوا اعداء الّداء من قبل الاسلاميين العراقيين سنة وشيعة وخصوصا الذين خاب رجاءهم منهم ، ومن ممارسات الحرس القومي ، دعك من مواقف الشيوعيين والقاسميين المضادة من البعثيين ، وكان الشيوعيون ينتظرون اي لحظة يطاح من خلالها بخصومهم البعثيين .. وبالرغم من ان عبد السلام كان ضد الشيوعيين والقاسميين ، الا انه وقف على مسافة محددة من الجميع باستثناء الخط الساخن للبعثيين بقيادة السعدي الذي كان يفتقد يوما بعد آخر مكانته الثورية المزعومة ، وخصوصا بعد الممارسات غير المسؤولة لعناصر الحرس القومي في اماكن عدة من العراق .. كما اشتعلت الحرب بين النظام والكرد في 10 حزيران / يونيو 1963 .

الحرس القومي : قشة قصمت ظهر البعير

بعد قرابة 4-5 شهور صعبة ، اي في حزيران / يونيو 1963 ـ تبلورت مواقف جديدة لدى قيادة الحزب ليس بفعل ممارسات الحرس القومي ، ولكن ازاء الفوضى السياسية والصراع بين الجيش وقوات الحرس القومي ، اذ قامت القيادة العليا للقوات المسلحة بتوجيه برقية تحذير الى قيادة الحرس القومي في 4 تموز 1963 تهددها بحل الحرس القومي ان لم تتوقف قيادته وعناصره عن كل ما يعكّر صفو الأمن العام وراحة المواطنين، اذ بلغت النقمة حدا كبيرا من قبل الناس وخصوصا في المدن وضواحيها ضد تصرفات الحرس القومي . ولقد استهان القائد العام لقوات الحرس القومي منذر الونداوي بالبرقية وطالب قيادة الجيش بسحبها والغائها متحديا وقال بأن الحرس القومي قوة شعبية لها قيادة مستقلة، ولا يحق لشخص اصدار الاوامر ، فالسلطة معتمدة شعبياً في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة فقط . هنا ، وصل الامر بعبد السلام عارف نقطة اللاعودة في وضع حد للبعثيين وقلب نظامهم السياسي بأي ثمن ، علما بأنه نفسه قد لبس في الايام الاولى لباس الحرس القومي ووقف معهم في الشوارع . وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، مما جعل عبد السلام عارف يصمم على قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن .

اليمين واليسار في البعث العراقي

بدأ الانقسام يتعمّق داخل قيادة الحزب ، اذ اتفق كل من احمد حسن البكر وحازم جواد وطالب شبيب ( ومعهم عبد السلام عارف الذي لم يكن بعثيا ) للاطاحة بعلي صالح السعدي، واخراجه من الوزارة ، ومن مجلس قيادة الثورة، لكن الظروف لم تكن مؤاتية لهم بتنفيذ هذه الخطوة . وفي 13 أيلول / سبتمبر 1963 انعقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى خلاله انتخاب ثلاثة أعضاء بعثيين جدد ، هم هاني الفكيكي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي وكانوا من جناح اليسار الذي يقوده السعدي في حين فاز حازم جواد، وأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف من جناح اليمين ، ولم يفز طالب شبيب . فتبلور الانقسام بين اليمين واليسار في الحزب ، واخذ اليسار التقرب من الماركسية وتبرئة نفسه من دماء الشيوعيين . وفي اكتوبر / تشرين الاول عقد على مدى اكثر من اسبوعين المؤتمر القومي للحزب في دمشق ، وسيطر اليسار على المؤتمر وقراراته وشن الهجوم العنيف على اليمين وعلى رمزه المؤسس ميشيل عفلق ، وطرحت افكارا راديكالية قوية بتعاون السعدي وحمود الشوفي اذ ضمنا اصوات العراقيين والسوريين ، مما جعل عفلق يبدو محبطا من حزبه ، وفقد الرجل المؤسس قدرته في التأثير والمبادرة .

وبدأ الصراع على الارض

لقد قادت الخلافات الحزبية المبدئية والسياسية بين الجناحين العراقيين المدني والعسكري بعدما غدا مركز علي صالح قويا جدا داخل القيادتين القطرية والقومية ، وأخذ جناحه الراديكالي يطرح افكاره اليسارية والاشتراكية نحو استقطاب اقصى ، اخذ الجناح اليميني وخصوصا من الضباط البعثيين يبدون محبطين جدا وتباعدت مواقفهم وانتزعت ثقتهم الرفاقية ، وقد قاد الانقسام الاول الى انقسام اخر عند البعثيين المدنيين ، وتباعدوا عن مواقف السعدي، وبدا التخندق البعثي واضحا في ثلاث كتل تمثل قوى سياسية في بنية مفككة ممثلة بـ : خندق منذر الونداوي قائد الحرس القومي وحمدي عبد المجيد ممثل اتحاد العمال ، ومحسن الشيخ راضي، ممثل اتحاد الطلبة إلى جانب السعدي، وخندق كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وطاهر يحي رئيس أركان الجيش ، وحردان عبد الغفار التكريتي قائد القوة الجوية وعبد الستار عبد اللطيف وزير المواصلات ومحمد المهداوي قائد كتيبة الدبابات الثالثة .. معارضين لجناح السعدي ، وخندق ثالث ممثلا بـ أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش يقف على الحياد، مما جعل السعدي يتهمهما بدفع الحزب نحو اليمين، و هما يؤيدان من يعارضه خفية ( وكان البكر صديقا لعبد السلام عارف اذ كان ينقل اليه كل ما يدور في كواليس الحزب ) .

كان احمد حسن البكر قد اتفق مع عبد السلام عارف على ازاحة السعدي ، فصدر إجراء تعديل وزاري يوم 11 أيار / مايس 1963، اعفي بموجبه السعدي من منصب وزير الداخلية وتنصيبه وزيراً للإرشاد، وجرى تنصيب خصمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية. فكانت تلك هي الضربة الاولى للسعدي ، ثم جرت محاولة إخراجه من كل من الوزارة ومجلس قيادة الثورة، ثم محاولة القضاء على قوات الحرس القومي بقيادة منذر الونداوي، وكان السعدي يعتمد عليها اعتماداً كلياً. ويحدثني احد الذين عرفوا منذر الونداوي معرفة عميقة عن قرب لاحقا بأن الرجل كان بعثيا حقيقيا وملتزما ونزيها وغاية في الشجاعة والاقدام ، ويأبى الثرثرة وتعظيم الذات اذ يلازمه الصمت في اغلب الاحيان ، وهو جنتلمان في علاقاته سواء ايام بقائه سفيرا ام ايام بقائه في اسبانيا ..

واخيرا : الاسئلة التاريخية

ان اهم ما يمكن ان يتساءل المرء عنه : ما الذي دعا المؤسس ميشيل عفلق وصف البعثيين العراقيين عام 1963 مثل هذه الاوصاف كونه مارسها هو نفسه عندما وصل العراق برفقة امين الحافظ رئيس الجمهورية السورية ؟ ولماذا انتقدهم في اجتماع مغلق وليس في العلن ؟ وسنرى في الحلقة القادمة دوره هو نفسه في الاحداث المريرة .. وهل سيأتي انقلاب عبد السلام عارف من فراغ ضد البعثيين ام سبقه انقلاب حزبي بين البعثيين انفسهم بتدبير من ميشيل عفلق نفسه ؟

ان أهم ما يمكن الخروج منه تاريخيا والتعرف على تجربة حكم البعثيين الاوائل عام 1963 والتي لم يتعلم منها البعثيون كثيرا ، انهم ليسوا جميعا كما وصفهم ميشيل عفلق نفسه باسوأ الاوصاف فالبعثيون ثلاثة اصناف من البشر : صنف يحمل جملة قيم مبدئية وله شجاعته ونزاهته وعمق وطنيته وعشقه للعراق واهله وله تضحياته ، وقد وجدنا الكثير من هؤلاء الذين ان لم يعترفوا بالاخطاء ، فهم صامتون .. وصنف يحمل حماقته وأنويته وفرديته وعدوانيته ويريد اذى كل من يقع فريسة بيديه ، وله طيشه ونزعته الشريرة في ممارسة العنف كجزء من الثقافة البليدة التي يحملها ، ويبقى يدافع عن الاخطاء بقباحة متناهية .. وصنف كبير من الوصوليين والمتسلقين والمداهنين والانتهازيين الذين يهربون او يتبدلون او يبيعون كل البعث بعدة قروش .. هؤلاء طلاب منافع ومناصب ولا يهمهم لا العراق ولا الامة العربية وما اكثرهم ..

ملاحظة : قائمة المصادر والوثائق المعتمدة في نهاية الفصل من كتاب رموز واشباح وهي كثيرة .

----------------

رموز وأشباح -الحلقة 21

أخطر أسبوع في العراق المعاصر :

من الانقلاب الحزبي الى الانقلاب العسكري

11- 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963

انقضاض عبد السلام عارف على البعثيين

أ.د. سيّار الجميل

مقدمة : اسبوع خطير في تاريخ العراق المعاصر

نكمل في هذه " الحلقة " من " رموز وأشباح " ما كنا قد عالجناه سلفا في الحلقة السابقة من تطورات الاوضاع الخطيرة في العراق وانشقاقات البعثيين عام 1963 ، وكيف حل المأزق بالبعثيين وواجهوا طريقا مسدودا اثر التشظيات السياسية التي حلّت بهم ، وسنعالج في هذه الحلقة حالة البلاد على مدى الاسبوع الاخير من حكمهم الاول للعراق ، اي بين 11- 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 ، معتمدا في ذلك على مصادر ووثائق مهمة ، وساكون كالعادة أمينا في معالجة الموضوع وموضوعيا في تحليل الاسباب والحوادث والشخوص والنتائج .. واعطاء كل ذي حق حقه بعيدا عن القدح والذم ، خصوصا وان " الموضوع " قد مضى عليه اكثر من نصف قرن ، وقد غدا في عداد التاريخ وخرج من نطاق السياسة وحدودها ..

اسبوع الصراع بين البعثيين 11- 18 تشرين الثاني 1963

في يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمير 1963 ، انعقد مؤتمر قطري استثنائي من اجل انتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية ، لكي يصبح العدد 16 عضواً بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [ المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي [ . وما ان بدأت اعمال المؤتمر ، الا ودخل 15 ضابطا مسلحا المؤتمر يقودهم العقيد محمد المهداوي ، وتحدث الى المؤتمرين قائلا : " لقد اخبرني الرفيق ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب، أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما" . وهاجم المهداوي المؤتمر القومي السادس كونه مؤامرة ضد الحزب ، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة تحت اسنة حراب ضباطه ! فكانت مسرحية كوميدية ساخرة بانتخاب قيادة جديدة على مزاج ميشيل عفلق واشترك الضباط المسلحين بالتصويت وبعضهم بم يكونوا من البعثيين أبدا ! فتولى القيادة الجديدة حازم جواد وفوز انصاره . واستمرت المهزلة وسط هرج ومرج المعارضين البعثيين باعتقال كل من علي صالح السعدي ومحسن الشيخ راضي وحمدي عبد المجيد وهاني الفكيكي وابو طالب عبد المطلب الهاشمي نائب القائد العام للحرس القومي ، واخذوا مباشرة الى مطار المثنى ليكونوا على متن طائرة عسكرية نحو منفاهم في مدريد ! .

ما ان سمع البعثيون بالاخبار التي تكتمت عليها مصادر الحزب ، حتى امتد الصراع إلى شوارع بغداد ، في حين كان ميشيل عفلق يعد حاجياته ليطير الى بغداد وبصحبته امين الحافظ رئيس الجمهورية العربية السورية وبمعيتهما صلاح جديد وبعض اعضاء القيادة القومية . وفي صباح يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمير 1963 ، اندفعت أعداد غفيرة من البعثيين المؤيدين لجناح اليسار ومن مؤيدي علي صالح السعدي واغلبهم من الحرس القومي نحو شوارع بغداد، ليقيموا الحواجز والعوارض في الشوارع ، كما تمّ احتلال مكاتب البريد والبرق والهاتف ودار الإذاعة، فضلا عن مهاجمتهم مراكز الشرطة مستولين على الأسلحة والاعتدة والذخائر فيها. وفي ذات الوقت ، كان منذر الونداوي يسرع الخطى نحو قاعدة الرشيد الجوية وبمعيته طيار آخر، ليحلقا بطائرتين حربيتين، ويقومان بقصف القاعدة المذكورة، مدمرين 5 طائرات كانت جاثمة فيها. والسؤال هو : لماذا لم يعتقل منذر الونداوي اذا كان حاضرا في المؤتمر القطري مع السعدي وجماعته ، اذ لم يكن منذر بمعيتهم ، ولا يعرف سبب ذلك حتى اليوم ، اذ يقال انه هرب الى سوريا بالسيارة وقام بتهريبه احد معارفه .

وفي الساعة 11 من صباح اليوم المذكور ، أذاع صالح مهدي عماش وزير الدفاع بياناً من دار الإذاعة العراقية يحذر فيه رفيقه أحمد حسن البكر من محاولة ليقتل البعثيين بعضهم الآخر وهذا لا يفيد إلا أعداء البعث ، كما وجه نداءً للعودة إلى العلاقات الرفاقية، وإلى التفاهم والأخوة. ولكن كانت لغة السلاح هي الاقوى ، اذ كانت فرضت قوات الحرس القومي قد فرضت سيطرتها المطلقة على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل لحسم الصراع ، وغدت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الاحداث الفوضوية ابان تلك اللحظات الصعبة والحرجة من حكم البعثيين وتاريخهم في المرحلة الاولى ، وكانت قيادة البعثيين واغلبها من جناح اليسار تطالب بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق، ليمارسوا مهامهم الحزبية والرسمية،ولكنها لم تفلح في ذلك ابدا ، وهنا اضطرت إلى الموافقة لحالة القضية إلى القيادة القومية كي تبت فيها.

ميشيل عفلق يقود العراق بلا شرعية !

كادت الشمس تغيب يوم 13 تشرين الثاني / نوفمير 1963 وكان نهارا صعبا عندما وصل ميشيل عفلق والرئيس السوري أمين الحافظ وبعض اعضاء القيادة القومية للحزب بغداد في محاولة لحسم الصراع بين القادة البعثيين العراقيين .. وكان عبد السلام عارف يترصد الاخبار في قصره الجمهوري الذي اتخذه مقرا رئاسيا له ، وهو القصر الذي بني للملك فيصل الثاني كي يتزوج فيه ، وقد قتل من دون ان يدشنه ، وأهمله عبد الكريم قاسم ولكن كان عارف اول ساكنيه .. تجاهل عبد السلام وصول عفلق والرئيس الحافظ ( الذي كانوا يسمونه بأبي عبدو ) دون ان يجري لهما والرفاق المرافقين اي استقبال رسمي كما يقول البروتوكول الرسمي دبلوماسيا ، ولم يلتق بالوفد الذي شعر بالاجواء المكفهرة ، وان وجودهم ببغداد كان ثقيلا وكان الذكي فيهم يحس بأن ثمة ما يدبر في الخفاء ضد البعثيين . واعتقد ان الانقلاب الداخلي الحزبي الذي حدث ضد السعدي وجماعته وتسفيرهم كان بتوصية من ميشيل عفلق ، ولكن بدا للاخير ان البعثيين العراقيين سيأكل احدهم الاخر ، فجاء الى العراق رفقة امين الحافظ ليتسلم ليس زمام الحزب ، بل لكي يتصّرف بالعراق كله ، فقد اصدر قرارا مع رفاقه في الوفد يقضي بنفي كل من حازم جواد وزير الداخلية وطالب شبيب وزير الخارجية متهما اياهما باحداث الفتنة والانشقاق ، كما اصدر قرار بحلّ القيادة القطرية للحزب والتي جرى انتخابها تحت اسنة حراب 15 ضابطا ، وحلّ القيادة القطرية السابقة بقيادة السعدي ، واعلن عن تسلّم القيادة القومية للمسؤولية وتمتعها بكل الصلاحيات لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة ! واعتقد ان ذلك كان من اخطاء عفلق الجسيمة عندما منح الحق لنفسه التلاعب بشؤون العراق بعيدا عن الشرعية الرسمية التي لم يؤمنوا بها بحجة انهم يتبعون ما كانوا يسمونه بـ " الشرعية الثورية " ، اضافة الى انهم تجاهلوا عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة ، وتجاهلوا كل الاعراف الوطنية والدستورية والتاريخية التي يؤمن بها العراقيون الى جانب سيادة البلاد واستقلالية العراق .. انهم تدخلوا تدخّلا وقحا في شؤون العراق الداخلية عندما اخذ عفلق منذ وصوله بغداد وعلى مدى ثلاثة ايام يقيل وزراء وينصب آخرين بدلهم ، فكان ذلك كافيا لاهتياج للعراقيين واستياء ضباطهم وقادتهم الذين التفوا حول عارف لاستعادة كرامة البلاد . او ان البعثيين قد جعلوا من انفسهم جسرا لعبور عارف ليكون سيدا للعراق ! كانت العلاقات بين البعثيين المدنيين والعسكريين قد تمزقت ، اذ وصلت الخلافات الحادة بين الطرفين الى اوج السماء ، وفجأة اصبح كل البعثيين العسكريين اعداء للحزب يستوجب قطع رقابهم في حين دعا اتحاد العمال الذي يسيطر عليه اليساريون من البعثيين الى سحق رؤوس البعثيين البرجوازيين الخونة ، ودعوا الى تأميم كل صناعات البلاد .. كان التيار البعثي المتمرد مهتاجا وكأنه يفرش الطريق امام عبد السلام عارف بالورود والرياحين من حيث لا يدري !

انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 : "ثورة " عند عارف و "ردة " لدى البعثيين

حركة انقلابية ناجحة قام بها رئيس الجمهورية العراقية انذاك ضد البعثيين الذين جاءوا به الى السلطة يوم 8 شباط / فبراير 1963 .. ونجح في الاطاحة بهم جراء انقساماتهم الحزبية وانشقاقاتهم السياسية ، وقد استطاع عارف ان يستميل بعض العسكريين منهم لضرب الجناح المدني من البعثيين مستفيدا من النقمة الشعبية الواسعة عليهم ، اذ كانوا قد مارسوا ادوارا غاية في السلبية والعنف في التعامل مع الناس . ان اقصاء عارف للبعثيين قد رفع مكانته في نظر الناس اولا ، ولكنه غدا الهدو رقم واحد للبعثيين لاحقا ، فقد اطلقوا على حركته الانقلابية تسمية " ردة تشرين " واعتبروه خائنا ومرتدا عليهم ، وهم الذين جاءوا به الى السلطة قبل اشهر ، في حين اعتبرها عارف نفسه " ثورة " ، وأخذ يسمّي نفسه " ابو الثورات الثلاث " ، اي ثورة 14 تموز 1958 وادعى ان انقلاب 8 شباط 1963 ثورة ، وهذه هي ثورته الثالثة ! ولكن مع عودة البعثيين ثانية الى حكم العراق عام 1968 ، كرسوا اعلامهم كله لترسيخ مفهوم الردة ، واساءوا كثيرا لعبد السلام عارف والحكم العارفي ! كلمة أود ذكرها للاخوة البعثيين انني اكتب تاريخا يزدحم بالمثالب التي لا يمكن التغاضي عنها من اجل ارضاء عواطفكم ، فالواجب الاعتراف بها لا الدفاع عنها .

الحركة الانقلابية : عبد السلام عارف يطيح بالبعثيين

كان لابد للرئيس عارف ان يتحّرك ويضرب ضربته ، والمعروف عنه جرأته وشجاعته التي تصل الى حد التهور ، وهو يرصد ما وصل اليه حزب البعث من التناحر ، وان الفوضى تعم كل البلاد وان ميشيل عفلق قد تجرأ وبدأ يصدر القرارات كما يشاء ، وان استياء الجيش وكل المؤسسات وقيادات البلاد كان كبيرا من تصرفات القيادة البعثية ، فقرر عبد السلام عارف التنسيق مع عدد من كبار القادة والضباط الذين يثق بهم ان يضرب ضربته ويقضي على حكم البعثيين وانهاء وجودهم ، وقد قرر ساعة الصفر ، كما واستخدم المناورة مع ضباط بعثيين كانوا يطمحون للبقاء في السلطة دون ادراكهم نواياه وخطته التي اتفق فيها مع كل من الضباط التالية اسماؤهم :

1/ الزعيم عبد الرحمن عارف قائد الفرقة الخامسة- شقيق عبد السلام .

2/ الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى.

3/ العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.

4/ الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية ( بعثي ).

5/ اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش ( صديق البعثيين )

فضلا عن عدة ضباط آخرين من ذوي الميول القومية.

في فجر يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 ، حامت طائرات عسكرية في سماء بغداد ، وقامت بقصف مقر القيادة العامة للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت ارتال من الدبابات، والمصفحات لتستولي على جميع المرافق العامة في بغداد، وايضا زحفت الدبابات الى مقرات الحرس القومي، وقد حاول البعثيون مقاومة الانقلاب في البداية ، ودافع بعضهم باستماتة في حين اختفى آخرون بعد ان توقفت الاذاعة عن الارسال وبدأت تذيع الاناشيد الوطنية والقومية وتتلى البيانات واحدا بعد الاخر ، يقول هادي خماس : " ساهمت في حركة 18 ت2 1963 مرافقاً للرئيس عبد السلام محمد عارف لاحتلال المرسلات، وبعد احتلالها قدمت الرئيس لإذاعة البيان الأول ثم أذعت بصوتي البيان مرة ثانية والبيانات الأخرى. ، ثمّ عُيّنت مديراً للاستخبارات في 21/11/1963، وانتخبت عضواً في مجلس قيادة الثورة وسكرتيراً للمجلس الوطني. " واهم البيانات التي طالبت الحرس اللا قومي كما اسماه الانقلابيون بتسليم انفسهم الى اقرب مراكز الشرطة والقاء اسلحتهم .. كان نهارا صعبا ، ولكن فرحا غامرا قد عمّ الشارع العراقي ، وقد حسم الامر عند غروب الشمس ، اذ لم يستطع الحرس القومي المقاومة باسلحة خفيفة ارتال الدبابات والمصفحات الزاحفة والتي تساندها الصواريخ والطائرات. واختفى منذر توفيق الونداوي اذ هربه احد اصدقائه الى سوريا ليلا ، فبقي في دمشق فترة بعد ان حكم بالاعدام في العراق ، ثم عاد الى العراق ، وفي المطار قال : جئت لكي احاكم واعدم ، فانقذه اصدقاؤه بارجاعه من حيث اتى قبل ان تكتشفه سلطات عارف ..

بعد ان هدد عبد السلام عارف البعثيين بانزال اقصى العقوبات قال لي احد الاصدقاء ممن كانوا ضمن قواطع الحرس القومي انه حفر حفرة في حديقة بيت اهله ورمى فيها سلاحه مع لباس الحرس القومي ، وهرب نحو قريبه في احدى بساتين ديالى وهو يتابع قوله ان أفراد الحرس القوا سلاحهم، وتخلصوا منه، اذ رموه في الحقول والمزارع والمزابل والانهر .. واحكم الجيش سيطرته على البلاد ، والقي القبض على اعداد كبيرة من البعثيين واودعوا السجون في حين هرب بعضهم الى خارج العراق .. والقي القبض على ميشيل عفلق والرئيس السوري امين الحافظ وكل اعضاء القيادة القومية واودعوا الاعتقال ، وكان العراقيون يتوقعون محاكمة عفلق وجماعته واعدامهم ، ولكن امر عبد السلام عارف بتسفير عفلق وامين الحافظ وصلاح جديد وغير العراقيين ..

لقد احكم عبد السلام عارف سيطرته على البلاد مساء 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 ، وتلاشت مقاومة البعثيين ، وخصوصا الحرس القومي ، ومنح عارف لنفسه صلاحيات استثنائية كبرى على مدى سنة كاملة تتجدد تلقائيا واعتمد على عشيرته كثيرا وهم من الجميلات ، ونصب شقيقه الاكبر منه سنا عبد الرحمن وكيلا لرئيس الاركان ، كونه لا يحمل اركان حرب ، ونصّب ابن عشيرته سعيد صليبي قائداً لحامية بغداد، ونّصب نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة. واتى باللواء العشرين ليجعله الحرس الجمهوري الخاص به ..

حكم عبد السلام عارف والتركيبة العسكرية الجديدة

بدأ الرئيس عبد السلام عارف حكمه بالاعتماد على ائتلاف عسكري ضم الضباط العراقيين القوميين والناصريين، وبعض الضباط البعثيين الذين ساهموا بالانقلاب على سلطة البعث ، الذين عدّوا من قبل البعثيين خونة وجاحدين ومتآمرين ، اذ نصّب طاهر يحيى رئيساً للوزراء، ونصّب حردان التكريتي نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، فيما نصّب أحمد حسن البكر نائباً لرئيس الجمهورية، ونصّب رشيد مصلح وزيراً للداخلية وحاكماً عسكرياً عاماً .. ومن الملاحظ ان هؤلاء وغيرهم جميعاً هم من تكريت واطرافها ، وهم من قيادات البعثيين العسكرية . ويقال ان صدام حسين التكريتي كان مناصرا لقريبه البكر منذ تلك الايام ، وبقي لصيقا به .

أما العناصر القومية المشاركة في الحكم ، فكان على رأسها الزعيم الركن محمد مجيد مدير التخطيط العسكري، والزعيم الركن عبد الكريم فرحان الذي جرى تنصيبه وزيراً للإرشاد،وعارف عبد الرزاق الذي نصّب قائداً للقوة الجوية، والعقيد الركن هادي خماس الذي نصّب مديرا لجهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم صبحي عبد الحميد الذي نصّب وزيراً للخارجية .

التصفيات النهائية

قام عبد السلام عارف بابعاد العناصر البعثية عن الحكم بالرغم من تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 وخياناتهم لرفاقهم من المدنيين ، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمئن أبدا لوجودهم معه في السلطة، ولقد بدا واضحا ان عملية إشراكهم في الحكم من قبله ليس سوى كونها مناورة كي ينجح انقلابه ضد البعث ، وان يتثبت حكمه ، وقد عرفهم من اشتراكهم معه خيانة مبادئهم اولا وسعيهم للسلطة ثانيا .. فكان ينتظر اللحظة المناسبة لينقضّ عليهم ويتخّلص منهم .. وقد اكتشف لدى العراقيين كرها شعبيا واسع النطاق لتجربة البعثيين والحرس القومي وما صدر من ادبيات تدينهم ، فما ان وجد حكمه ثابتا وقويا بدأ يوجه ضرباته ضد البعثيين في الائتلاف معه . كيف ؟

اعفي يوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 1964 ، المقدم عبد الستار عبد اللطيف من وزارة المواصلات، وفي يوم 16 منه ازيح حردان التكريتي من منصبه كقائد للقوة الجوية، وفي 4 كانون الثاني 1964 قام عبد السلام عارف بالغاء منصب نائب رئيس الجمهورية وتخلص من احمد حسن البكر الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية. وفي 2 آذار 1964، أعفى عارف حردان التكريتي من منصب وزير الدفاع ، وحلّ بدله طاهر يحيى بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي وزير الداخلية والحاكم العسكري العام الذي ربط مصيره بمصير عارف، اذ بقي يهاجم البعثيين ويترصدهم ويكشف عن جرائمهم، وان خلافا صعبا حدث بين رشيد مصلح واحمد حسن البكر ، سيكلفه ذلك تعذيبه وقتله شر قتلة لاحقا ! حكى لي احد الاصدقاء الذين عاشوا في اسبانيا وعرفوا عبد الستار عبد اللطيف عن قرب انه عاش لوحده اسوأ عيشة وعرف بلؤمه وخيانته لعبد الكريم قاسم ، اذ كان مكتبه في وزارة الدفاع مقابل مكتب الزعيم قاسم وكان يحفه بالتبجيل والتعظيم ، ولكنه كان يتآمر عليه ، وفي يوم 8 – 9 شباط 1963 ، كان في الاذاعة مع الانقلابيين البعثيين يصرخ مطالبا باعدام قاسم : اعدموه اخ .ال ... !!!

أصبح عبد السلام عارف سيدا للعراق والحاكم المطلق في البلاد، ومع اقصائه للبعثيين حل بدلهم الناصريون الذين غدوا في مقدمة النظام ومن مدلليه ، وراح عبد السلام عارف واثقا بهم ويمنحهم المناصب ويخشى سطوتهم ، واخذ يقلّد الجمهورية العربية المتحدة في نماذجها الاقتصادية والاشتراكية من دون معرفة الفوارق بين مصر والعراق وخصوصا في مسألة التأميم ، حيث أقدمت الحكومة بتطبيق مشروع الاقتصادي العراقي د. خير الدين حسيب رئيس المؤسسة الاقتصادية الذي اطلق عليه اسم " شاخت العراق " تيمنا بالاقتصادي الالماني شاخت . وكان حسيب من اشد الناصريين العراقيين بخطواته في تأميم المصارف وشركات التأمين مع 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة ، كما أقدم النظام العارفي الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز/ يوليو 1964، على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد.

اسئلة تبحث لها عن أجوبة

هل كتب تاريخ 1963 وما جاء من بعده كتابة تفصيلية وعلمية وحيادية وموضوعية امينة ؟ هل عتم العهد السابق لكل من احمد حسن البكر وصدام حسين على هذه المرحلة المهمة ؟ ولماذا ؟ هل شوهّت حقائق وتواريخ واسماء ومعلومات خلال العقود الماضية من السنين ؟ ولماذا كان كل ذلك الغباء من قبل القيادات البعثية الاولى بوضع ثقتهم بعبد السلام عارف الذي عرفهم منذ البداية ، وتمسكن معهم حتى تمكّن منهم .. وخصوصا بعد ان كشفوا كلّ اوراقهم امامه ..

واعتقد ان البعثيين في تجربتهم الاولى عام 1963 قد انشقوا على انفسهم لأكثر من مرة ، ولام احدهم الاخر منذ توليهم السلطة وحتى بعد اسقاطهم علي صالح السعدي وجماعته من دون ان ينتقدوا تجربتهم الاولى المريرة في الحكم جميعا نقدا موضوعيا هادئا .. فان كان المؤسس عفلق قد انتقد تجربة الشباب العراقية ، فقد اوقع نفسه ايضا في اخطاء لم تغتفر عندما وصل العراق ، واتخذ جملة قرارات بنفسه متدخلا بشؤون العراق تدخلا سافرا ، وهو لم يمتلك اية شرعية رسمية ! ناهيكم عن فشل خطته الانقلابية التي نفذها محمد المهداوي ومعه 14 ضابطا مسلحا في اقتحام المؤتمر القطري ببغداد واعتقال السعدي وجماعته وتسفيرهم .. لقد بقي الانقسام بين البعثيين لعقود طوال من الزمن ، اي بين اليمين واليسار ، وسيادة اليمين وتشويه صورة اليسار .. بل وبدا من يمثل الخندق الثالث انتهازيا ووصوليا وقد وصف بالخيانة باصطفاف بعض البعثيين مع عبد السلام عارف في ازاحة رفاقهم البعثيين عن السلطة ممثلا ذلك باحمد حسن البكر وحردان عبد الغفار التكريتي وطاهر يحي وغيرهم ، وبقي صالح مهدي عماش يغّرد لوحده .. وبعد ان ترسخت قوة عارف في السلطة ازاح من تعاون معه من البعثيين مما جعلهم يحنقون عليه وراحوا يتخندقون ثانية مع اليمين الذي يقوده عفلق ، ولما نجح اليمين بالعودة الى الحكم ثانية عام 1968 ، وصف البكر انقلاب 8 شباط 1963 بـ " عروس الثورات " . وقال لي احد الاصدقاء وهو من المطلعين ومن ذوي التجارب والخبرة السياسية معلقّا : لو بقي عبد السلام عارف على قيد الحياة ، لما وجد البعث له اية فرصة ثانية في الحكم ابدا ! .

وتدل النتائج التي اسفر عنها انقلاب عبد السلام عارف في 18 تشرين الثاني / نوفمبر ان عبد الناصر كان على معرفة تامة بما كان يجريه عارف في بغداد ، وكان الثمن اشراك الناصريين في الحكم ، والذين تصاعد نفوذهم في عهده الى درجة خطيرة .. ولكنه شعر بخطورتهم على نظامه على الارض عندما جرت حركة انقلابية ناصرية فاشلة قادها رئيس الوزراء عارف عبد الرزاق وكان ناصريا قحّا ، وشعر عارف بالاحباط منذ تلك اللحظة التاريخية التي شكّلت علامة فارقة في علاقته مع عبد الناصر ( وسنأتي الى تحليل ذلك في الحلقات المقبلة ) .. وان هيمنة العسكر كانت واضحة تمام الوضوح على الحكم ، وان الجهوية لعبت دورها في اعتماد عارف على معارفه وابناء ارومته العشائرية ، وانه كان اذكى من البعثيين في كسب واستمالة عسكريين بعثيين الى جانبه امثال البكر وحردان وبعد اداء المهمة ، عزلهم وقلل من شأنهم ، فادعى البكر انه اعتزل السياسة الى الابد !! .. وقد اخبرني احد المشاركين في الحدث ان صدام حسين التكريتي كان من ضمن اتباع البكر يوم 18 تشرين الثاني 1963 . ان كل الذين شاركوا عبد السلام عارف في حركته الانقلابية ، دفعوا ثمنا باهضا على ايدي البعثيين لاحقا عندما عادوا للسلطة عام 1968 ، وخصوصا ما فعله احمد حسن البكر ، اذ انتقم منهم شر انتقام وخصوصا حردان وطاهر يحي ورشيد مصلح وهادي خماس وقافلة من الساسة العارفيين والناصريين والوحدويين الاشتراكيين وغيرهم .. وبقي الحزب منشقا على نفسه ، اذ استمر الصراع بين اليمين واليسار باقسى صوره ..

ملاحظات

كل المصادر والوثائق المعتمدة ستثبت قي كتاب " رموز وأشباح " عند صدوره لاحقا بحول الله .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1172 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع