نصوص ثمينة في تراث علي الوردي (١)

                                                

                       الدكتور وليد محمود خالص
                               باحث متفرغ

    

نصوص ثمينة في تراث علي الوردي(١)

يحفل تراث علي الوردي بنصوص ثمينة ، هي من عبرة التاريخ الذي قرأه الوردي بوعي ، ومسآلة نقدية من جهة ، ومن تجربته الواسعة ، وخبرته العميقة بالمجتمع ، وما يموج به من تيارات ، وأحزاب ، ومقولات ، وأفراد ذوي مشارب متنوّعة من جهة أخرى . ويهمّنا في موضعنا هذا ، نص ورد في الجزء الثالث من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) في الصفحة الخمسين بعد الثلاثمائة ، حين أفرد مبحثا جيدا عن (الماسونية) ، من حيث تاريخها ، وتطورها ، وانتشارها ، وأبرز رجالها ، ووصولها الى الوطن العربي . وفي هذا النص ينقل الوردي ما كتبه (شاهين مكاريوس) ، وهو ماسوني ، معرق في ماسونيته ، وذلك في كتابه (الآداب الماسونية) . يقول : (--- عندما نرى كثرة انتشار الماسونية في العالم ، لا بدّ أن نسأل : ما هو السبب الذي جعل الناس ينتمون اليها بهذه الكثرة ؟) . وهو سؤال وجيه ، لا غنى عن طرحه في خضمّ كثرة الأقاويل ، وتناقضها ، عن الماسونية ، وطقوسها المعلنة ، والسرية معا ، وارتباطاتها التي تخفى الاّ على القلّة القليلة . وقبل أن يجيب الوردي على هذا السؤال ، يأتي بجواب (شاهين مكاريوس) نفسه ، حين يقول : (انّ الدوافع التي تدفع الناس الى دخول الماسونية مختلفة ، أهمّها ثلاثة هي (1) حبّ الاطلاع على الأسرار الماسونية . (2) الرغبة في الحصول على المساعدة التي تقدّمها الماسونية لمن ينتمي اليها . (3) الاعجاب بالماسونية ومبادئها .) ، ويعلّق الوردي بقوله : (--- وفي رأي شاهين أنّ الذين يدخلون الماسونية من أجل الاطلاع على أسرارها ، أو نيل مساعدتها قليلون ، أمّا الذين يدخلونها بدافع الحبّ لها ، والاعجاب بمبادئها فهم الأكثرون ، وهويصفهم بقوله : هم الفريق الأعظم ، والحمد لله ، من الماسون ، وهم الركن الأكبر للبناء الفخيم الذي أسّسه لنا الأجداد العظام في العصور الخالية) . ولم يترك الوردي هذا الحكم يمرّ مرور الكرام ، بل عمد الى الوقوف عنده ، وتحليله ، بل تشريحه ، وهنا مكمن أهميته ، وفرادته . يكتب : (--- حين ندرس هذا القول في ضوء ما نعرفه عن الطبيعة البشرية ، يصعب علينا الموافقة عليه . فالواقع أنّ أكثر الذين يدخلون الماسونية هم من الذين يطمعون أن ينالوا منها المساعدة ، أو المنفعة على وجه من الوجوه . أمّا الاعجاب بها ، وبمبادئها فيأتي في الدرجة الثانية . ولست أقول هذا في شأن دخول الماسونية فقط ، بل هو يصدق على كلّ عمل يقوم به الانسان في الغالب . فمن طبيعة البشر بوجه عام أنّهم يركضون وراء مصالحهم المادية ، أو المعنوية ، ثم يتظاهرون أنّهم انما فعلوا ذلك حبّا بالمباديء السامية ، والمثل العليا . لا أنكر وجود بعض الأفراد الذين يعشقون المباديء السامية ، ويضحّون بمصالحهم في سبيلها ، ولكنّ هؤلاء قليلون جدا ، أمّا أكثر الناس فهم مثلي ، ومثلك من الذين يقولون ما لا يفعلون) . ويسند هذا النص ، نص آخر ورد في الصفحة الثانية والسبعين بعد الثلاثمائة ، وهو في مبحث الماسونية أيضا . فقد هوجمت الماسونية هجوما شديدا بعد اطلاع كثير من المثقفين عليها ، وألّفت الكتب في الردّ عليها ، وكشف بعض من خباياها ، ولكن – يقول الوردي - : (يبدو أنّ هذه الحالة قد تغيّرت الى النقيض منها على أثر الانقلاب العثماني في عام 1908 . فقد أخذ الماسونيون يرفعون رؤوسهم فخارا زاعمين أنّهم هم الذين قاموا بالانقلاب ، وأنّ الدولة أصبحت في يدهم) ، والمهم في هذه النقطة قوله : (--- وصار الكثير من الناس يتزلّفون اليهم (أي للماسونيين) كما هي عادتهم في مثل هذه الظروف) . فما الذي يريد الوردي قوله ؟ وبماذا نخرج من النصين ، وخصوصا الأول منهما ؟

انّ (شاهين مكاريوس) متحيّز للماسونية ، بحكم موقعه فيها ، وايمانه بمبادئها . فهو حين يختار الدافع الذي لم يرتضه الوردي ، انما هو مقتنع به ؛ لأنّه – بسبب تحيّزه – لا يرى سواه ، بل لا يرغب في أن يرى غيره ، امعانا في تبجيل الماسونية ، واضفاء هالات من النورانية ، والتقديس عليها . فكأنّ الوردي يرى أنّ (مكاريوس) معذور الى حدّ ما ، اذ ليس بمكنته أن يرى من الأمر الاّ وجها واحدا ، مع أنّ له وجوها أخرى ، لم يتمكن من رؤيتها ، أو لم يرغب في رؤيتها ، بسبب الغبش الذي ران على رؤيته . ونريد ب (الغبش) هنا ، ما يقترب من التحيز غير الواعي الذي لا يشعر به الانسان ، وهو يدافع عن فكرة ما ، يراها هي (الحق) ، وماعداها (باطل) ، ويندرج هذا ، تحت ما اصطلح عليه ب (امتلاك الحقيقة) . فليست هناك (حقيقة) غير ما يؤمن به ، وليست هناك (حقيقة) غير ما يدافع عنه ، فاذا اجتمع المختلفان ، سواء في جلسة خاصة ، أم في المجتمع الكبير ، فستبدأ المماحكة ، والجدل (البيزنطي) غير المفضي الى نتيجة ، بل يزيد الخلاف تعميقا ، والفجوة اتساعا . واذا تسلّم من يعتقد أنّه يمتلك الحقيقة سلطة ما ، فهنا تسكب العبرات ، على مقتضى القول القديم ؛ لأنّه سيستخدم تلك السلطة ، حينذاك ، لفرض ما (تكلّس) عنده على الآخرين ، وهو سعيد بهذا ، راض به ، مصرّعليه . سعيد بهذا القسر ، والاكراه ؛ لأنّه يطبّق به (الحق) ، و (الحقيقة) ، محاولا جذب الآخرين الى (الهدى) الذي غفلوا عنه ، و(الطريق) السويّ الذي ضلّوا طريقهم فلم يصلوا اليه ، وسيد عمله – على قولة الجاحظ – هو أن يأخذ بأيديهم اليه ، فان تحقق هذا بالاقتناع (القشري) فبها ، ونعمت ، والاّ فالقوة هي السبيل (القويم) لردّهم الى (جادّة الصواب) ، فهو يحاول انقاذهم ممّا هم عليه من (ضلال) ، فالغاية ، بنظره ، نبيلة ، سامية . ولعل هذا ما كان يقصده (أولييفه روا) حين تحدث عن (المؤمن المنطقي) الذي يختلف اختلافا جذريا عن (المؤمن العقلاني) ، فالأول هو نموذجنا هنا . ولا شكّ في أنّ هذا كله من رواسب (المنطق الصوري) الذي يولي اهتمامه للشكل ، مغفلا المضمون ، فالهمّ ، والهمّ كله هو اثبات الصورة ، أمّا ما تحويه هذه الصورة من اشكاليات ، وتناقضات فليس مهمّا . ألا يقوم بناؤه (المنطقي) على مقدمتين ، ونتيجة ؟ بلى ، فهذا كاف ، وليكن ما يكون . وبما أنّ الوردي رافض هذا المنطق ، ثائر عليه ، فهو يرى المسألة الواحدة من جوانبها المختلفة ، فكيف له أن يتفق مع (مكاريوس) ، أو غيره من المؤمنين المنطقيين ؟ ولعلّ ما نشهده اليوم من صراع فكري ، يصل الى حدّ الاقتتال بدعوى (العنف المقدس) ، وهو لا يعدو أن يكون (جهلا مقدسا) ، وبعبارة (أوليفييه روا) نفسه ، ذاك الذي يتفرّع من هذا ، كأنّه ثمرته المرّة . أقول : لعلّ ما نشهده اليوم ، ليس سوى تأكيد حاسم لما قرّره الدكتور علي الوردي قبل نصف قرن تقريبا ، وكأنّ ذلك التحيز ما يزال يضرب أطنابه فينا ، حين يدّعي كل فريق (امتلاك الحقيقة) ، وليست هذه (الحقيقة) ، عند التحقيق ، سوى وهم ، وسراب ، وضلال عند الآخرين . وماأدراك ؟

الگاردينيا: أهلا وسهلا بالأستاذ الدكتور وليد محمود خالص في حدائقنا .. ننتظر جديدكم يا الغالي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع