إبراهيم الزبيدي
في أول هذا الحديث يكون من المنطقي أن نعترف بأن السلطة في العراق اليوم ليست في قبضة الطائفة الشيعية، بل هي بأيدي حفنة من السياسيين الشيعة المرتبطين، سريريا، بالنظام السياسي في إيران، بعد أن تمكنوا من استغفال طائفتهم الشيعية ذاتها قبل أن يختلسوا حقوق الطوائف والمكونات الأخرى.
وطبيعي أن يفرض هذا الواقع عليهم أن يُهملوا، ويعادوا أحيانا، جهات أخرى من داخل الطائفة الشيعية ذاتها، علمانية أو ديمقراطية، أو حتى دينية سياسية أخرى منافسة ومتمردة على سكة الولي الفقيه. والصراعُ الساخن بين المالكي وتيار مقتدى الصدر، والأقلُ سخونة ًمع مجلس عمار الحكيم، أوضحُ من الوضوح نفسه.
وهذا ما جعل ملايين الشيعة في المحافظات الجنوبية لا تقل فقرا عن غيرها في الوسطى والشمال، أو حاجة ً إلى العدالة والخدمات بكل أنواعها وأصنافها. فالمليارات الهائلة التي أهدرتها الحكومات الشيعية المتعاقبة، منذ سقوط نظام صدام وإلى اليوم، لم تنفق منها إلا أقل من القليل على المواطن العراقي الشيعي. وكان المفترض، لو كان هؤلاء الحكام طائفيين حقا، أن يكون تمسكهم بالسلطة من أجل إشباع أبناء الطائفة، قبل غيرهم، وعلاجهم وتعليمهم وإسعادهم وتوفير فرص الكسب والغنى والرفاه لهم ولأبنائهم. ولكنهم لم يفعلوا. بل لم يقوموا بإعمار وتحديث مدن شيعية عزيزة جدا على الوجدان الشيعي العراقي والأممي مثل النجف وكربلاء، وجعلها في مستوى ما فعله الإيطاليون بالفاتيكان، والفرنسيون بنوتردام، والسعوديون بمكة والمدينة، والإسبان بآثارنا العربية في الأندلس.
هذا فيما يخص مواقف السلطة الحالية من مواطنيها الشيعة. أما ما يجعلها عدائية ومتوجسة خيفة من أحزاب وتيارات وأطراف أخرى من الطائفة السنية فهو نزوع ثأريٌ لا إراديٌ قديم تعود جذورُه إلى أجيال سابقة من عمر الدولة العراقية التي هيمنت عليها حكومات سنية كان كثير منها طائفيا أو عنصريا وغير عادل وغير رحيم. يضاف إلى ذلك ما خلفته حرب الثماني سنوات مع نظام الخميني من أحقاد إيرانية، طائفية وقومية، على عرب العراق، سنة أولا وشيعة ثانيا، وهو ما دفع بمليشيات تشكلت بعد الغزو الأمريكي للعراق إلى ممارسة سياسة اغتيال الضباط والطيارين والأطباء والمهندسين الذين قاتلوا إيران وأبلوا بلاء حسنا في منعها من احتلال العراق وحكمه، بالطريقة التي تفعلها اليوم.
ويعترض كثيرون من قرائنا على اعتبار هذا الواقع التكويني المتنافر دافعا للبحث عن طرق أخرى أكثر ملاءمة وعدالة لإنقاذ الشعب العراقي من اقتتال واقع لا محالة إذا ما استمرت الرغبة الجامحة لدى المالكي، ومن خلفه إيران وأحزابها ومليشياتها، في فرض سياسة العصا على المكونات العراقية الأخرى.
يقول أحد قرائنا، وهو الأخ مازن أبو العيس:
" إن معظم بلدان العالم تتكون من قوميات وطوائف متعددة وهي بالدان تتمتع بالوحدة والسيادة والاستقرار. والامثلة كثيرة، الهند مثلا تحتوي على اكثر من 100 لغة و اكثر من 70 ديانة رئيسية وهي بلد موحد ونووي وفيه من التطور ما يؤهله ان يكون في مصاف الدول المتقدمة ومثل آخر سويسرا، هذا البلد الصغير الذي فيه ثلاث لغات رسمية والعديد من القوميات والطوائف ولم نسمع يوما ان هناك مشاكل طائفية او قومية في سويسرا بل على العكس تعد اكثر دول العالم استقرارا على الاطلاق. ومثل أخر البرازيل وبلجيكا...الخ، المشكلة في عقلياتنا كشعب، وليس في تعدد الطوائف
والقوميات. ومما يؤسف له ان تكون مثل هذه القناعات متبناة ممن يحسبون على طبقة المفكريين والمثقفين ".
ومن اللازم أن أوضح هنا أنني لم أكن يوما من دعاة الانفصال ولا الأقاليم. ولكن من غير العادل أن نقارن جماهير العراقيين بالسويسريين والبلجيكيين والبرازيليين وغيرهم. فالجمع القسري لمكونات أفقرها الحكام وجهلوها وأغرقوها بالمشاعر البدائية الطائفية والعنصرية والعشائرية والمناطقية وشحنوها بالعداء لباقي الشركاء، ينذر بالكارثة المقبلة إذا لم نفعل الشيء الصحيح وقبل فوات الأوان.
وليس عدلا أن نبقى نضحي بدماء عراقية زكية بريئة من أجل أن نحافظ على وحدة بائرة وغير قادرة على لمهم برحمة ومساواة وأمان، وبما يدرأ عنهم أخطار الاقتتال المرير.
وإذا كان بعضنا يجفل من فكرة التفريق (الحُبي) و(الودي) بين المكونات الثلاث فليبحث لنا عن صيغة أخرى تجعل لكل مكون من المكونات حكومة ً تستقل بشؤون أبنائها، وتتآخى وتتعاون مع المكونين الشقيقين الأخرين، على أساس المصالح المتبادلة.
وأمامنا تجمعات كانت متنافرة قوميا أو دينيا أو مذهبيا فالتقت وتوحدت وتفاهمت وانسجمت تحت ضغط الحاجة الاقتصادية والأمنية والمالية الملحة. وأقصد دول الاتحاد الأوربي الذي يصارع اليوم لمساعدة أطرافه المتعبة ماليا من بقائها تحت خيمة الاتحاد ولا تخرج منه أبدا.
إن هذه الدول نجحت في الاحتفاظ بوحدة أبنائها المختلفين، عرقيا ودينيا ولغويا وثقافيا، باعتماد العلمانية وسلطة القانون. فالعلمانية هي التي تضمن المساواة بين الجميع، وهي التي تمنع أي طرف من اختلاس حقوق الطرف الآخر، وهي التي لا تسمح لحكومة بأن تنفق من أموال المجتمع على طقوس تخص فئة واحدة من فئاته، رغم أن المبالغة برعاية تلك الطقوس تنمي الفرقة وتؤجج الأحقاد وتزرع المخاطر على طريق الدولة، وتهدد أمنها ومصيرها. والعلمانية تعني الديمقراطية الحقيقية وليست ديمقراطية الانتقاء والألتواء والغش والاختزال. ديمقراطية الحق والعدل والمساواة وليست ديمقراطية السكاكين والكواتم والسواطير. وبقناعتي المطلقة أن سبب بلاوي العراقيين هم قادة الأحزاب الدينية الذين اختطفوا السلطة وتمسكوا بها وصار من الصعب انتزاعها من بين أيديهم من جديد. فهم أساس الفرقة والخلاف، وأساس الفقر والجهل والتخلف المشين.
وكما ترون. يبالغ السياسيون الإسلاميون العراقيون في إظهار حبهم للديمقراطية وتمسكهم بأحكامها. وكثيرون منهم لا يكتفون بالكلام وحده، بل يلصقون "الديمقراطية" بأسماء أحزابهم وحركاتهم وتنظيماتهم، فيرتكبون بذلك خطيئتين كبريين:
الأولى بحق الدين الإسلامي نفسه. فهم يقولون، ربما بغير وعي ودون قصد، إن الإسلام غير ديمقراطي، لذلك فهو بحاجة إلى استيراد أنظمة سياسية من خارجه، وينسفون خصوصيته السياسية المتوارثة والمسماة بالشورى، وهي البعيدة كل البعد عن الديمقراطية الغريبة التي ُتعد في نظر الكثيرين منهم بدعة مستوردة من الغرب (الاستكباري) العلماني. (وكلُ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
والثانية بحق الديمقراطية وقيمها وأحكامها الحقيقية. لأنهم بادعائهم بأبوتها في العراق يجعلون المواطن البسيط يكره الديمقراطية ويلعن الساعة التي جاءت إليهم فيها. فإن كانت الديمقراطية هي الغش والكذب والتآمر والرشوة والاختلاس والاقتتال والمفخخات، فلا كانت ولا كان أصحابها.
وأغلب الظن أن هذا الخبط ناتج إما عن قصور في فهم الدين، أو في فهم الديمقراطية، أو في فهمهما كليهما، أو أنه عمل مقصودٌ بذاته هدفه خداعُ الجماهير والكسب غير المشروع.
إن الديمقراطية ليست الانتخابات المدولبة والمقولبة و(المبهدلة)، بل هي في النهاية ثقافة وسلوك وطبيعة. والسلطة الديمقراطية لا تولد إلا من رحم شعب ديمقراطي. (كيفما تكونوا يُولَّ عليكم).
ولأننا تربينا على الاستبداد والعصبية القبلية والطائفية والعنصرية، جيلا عن جيل، فمن الطبيعي ألا نلد إلا حكاما غير دمقراطيين.
وانظروا ماذا حل بالعراق، وماذا جرَّت عليه ديمقراطية الحكام المعممين الذين داسوا بأحذيتهم الطائفية المتعصبة على الديمقراطية، وعلى الدستور، وعلى المنطق والأصول، فمزقوا الصفوف وأعاقوا البناء وضيعوا الأمن والأمان، وبعثروا ثروات الوطن وجوعوا أهله وشردوا منهم الملايين.
شيء آخر. إن أغلب هؤلاء السياسيين الدينيين العراقيين تخرجوا من مدرسة الإمام الخميني السياسية التي تقضي بسحق كل من يخالف إرادة الولي الفقيه لأنه خارج على سلطة الإمام المنتظر، بموجب نظرية الخميني التي عارضها ويعارضها كثيرون من أئمة الشيعة ومفكريهم الكبار.
وأصل فكرة الولي الفقيه يتلخص بما يلي. إن من ثوابت الفكر الشيعي أن «الشرعية» الكاملة لا تقوم إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر. لكن الخميني أدرك أن ذلك يعني عمليا استحالة تحقيق العدالة قبل يوم الظهور. وعلى ذلك أقام نظريته التي تقول بإمكانية النيابة عن الإمام المنتظر، لحين ظهوره.
وبناء على ذلك فإن جميع الساسة العراقيين المؤمنين بسلطة الولي الفقيه لا يستطيعون، ولا يريدون، ولا يقبلون بغير ديمقراطية النظام الذي أسسه الخميني، وتابع ولايته ورعايته المرشد الأعلى من بعده.
وديمقراطية النظام الإيراني لها قواعدها الخاصة في تنظيم عملية الانتخاب، وفي تقنين الموالاة والمعارضة. فالموالاة واجب شرعي على الجميع. والمعارضة التي يمكن السماح بها هي فقط تلك التي تخرج من رحم النظام نفسه، على ألا تخرج عن حدود الأمور المعاشية والتنظيمية والإجرائية وغيرها من الأمور الهامشية، ولا ترقى، ولا يسمح لها بأن ترقى إلى شؤون السياسة العليا وأسرارها.
وبموجب هذه الطبيعة السياسية لا حرية لمعارضة من خارج النظام. أما في الترشيح وفي الانتخاب فالنظام نفسه هو الذي يقرر، وحده، من يترشح ومن ينتخب.
ومن أهم منجزات هذه الديمقراطية ما حدث في صيف 2008 عندما تظاهرت ملايين الإيرانيين في طهران والمدن الرئيسية الأخرى للتعبير عن غضبهم إزاء نتائج الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في ذلك الوقت. فقد فتك النظام بالمتظاهرين وفعل بهم نفس ما يفعله اليوم بشار الأسد بمعارضيه السوريين.
ومن المستحيل أن يقبل عراقي واحد يحترم نفسه وأهله ووطنه بديمقراطية وديمقراطيين من هذا النوع. وبالتالي فإن حياتنا لن تنصلح ولن تعود عزيزة وآمنة ومزدهرة، كما كانت، إلا إذا خرج هؤلاء من حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلا إذا تم فصل الدين عن الدولة، تماما ونهائيا، ودخل شعبنا في العصر الديمقراطي العلماني الحقيقي الذي يضمن المساواة لجميع المواطنين في الحقوق والواجبات، ويرفع عنهم سيوف القهر الديني والعنصري والطائفي، ويغسل عقولهم وقلوبهم من الأوهام والخرافات والأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيد الحكومة.
ولكن هذا، في قناعتي، ومع خالص احترامي لمن خالفني الرأي، غير ممكن وغير قابل للوجود في العراق، على الأقل في المدى المنظور. وإذا ما بقينا نتمسك بوحدة الوطن، غير الموجودة أساسا، وبهيمنة رجال دين من طائفة واحدة لا يريدون ولا يؤمنون بروح الشراكة فالأفضل للجميع أن يفترقوا، ولكن بتفاهم ورضا وسلام.
مع شكي الكبير في إمكانية تحقيق افتراق آمن بين ذئاب كاسرة. بصراحة لا أرى أفقا مضيئا يؤملنا بغدٍ أفضل، وأتمنى أن يكون لنا ذات يوم.
1703 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع