أ.د. ضياء نافع
تمثال ستوليبين في موسكو وميداليته
من التماثيل الجديدة التي اقيمت في موسكو في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تمثال لرئيس وزراء روسيا القيصرية ستوليبين , الذي تم تدشينه عام 2012 في مركز موسكو (حيث تقع بناية مجلس الوزراء او البيت الابيض الروسي كما يسميه البعض) , و بحضور الرئيس مدفيديف ( في حينه) ورئيس الوزراء بوتين آنذاك . ستوليبين هو واحد من الشخصيات السياسية البارزة جدا في الامبراطورية الروسية القيصرية , وقد شغل عدة مناصب كبيرة في حينه مثل منصب رئيس الوزراء , ووزير الداخلية ...الخ , وتم اغتياله عام 1911 في مدينة كييف الاوكرانية , حيث سافر للمشاركة بافتتاح تمثال للقيصر الكساندر الثاني (القيصر المحرر كما يسمونه لانه ألغى حق القنانة , اي عبودية الفلاحين الروس ) . لقد كان الجميع موجودين ( بما فيهم القيصر نيقولاي الثاني وعائلته ) في قاعة مسرح , وهناك أطلق احدهم اطلاقات نار من مسدسه على ستوليبين , وتوفى متأثرا بجراحه بعد فترة قصيرة في المستشفى , وتقول المصادر الروسية , ان ستوليبين توجه الى ناحية القيصربعد اصابته وقال انه سعيد بالموت في سبيل القيصر .
اقامت روسيا القيصرية تمثالا ضخما لستوليبين في مدينة كييف بعد اغتياله , الا ان البلاشفة ازالوا هذا التمثال عندما انتصرت ثورة اكتوبر 1917 , وكان اسم ستوليبين في العهد السوفيتي رمزا للفكر الرجعي المعادي للثورة . واتذكر الان الحوار الذي حدث مرة
بين مجموعة من العراقيين اليساريين في موسكو بالستينيات حول نوري السعيد العراقي , وكيف قارنوه بشخصية ستوليبين الروسي , اذ ان كلاهما – حسب ذلك الحوار - لعبا دورا كبيرا في مسيرة الاحداث السياسية, وكلاهما حاولا – وبكل قواهما - تثبيت النظام الملكي الذي كان سائدا في بلاديهما , وكلاهما حاولا ايقاف وعرقلة المد الثوري الجماهيري بمختلف الوسائل , ولهذا, فان المتحاورين وصلوا الى استنتاج مفاده , ان مقتل ستوليبين ساعد على انتصار ثورة اكتوبر الروسية عام 1917 , مثل مقتل نوري السعيد , الذي ساعد على انتصار ثورة 14 تموز في العراق .
الامور تغيّرت طبعا بعد انهيار الدولة السوفيتية عام 1991, وحاولت بعض العناصر القومية المتطرفة الروسية ازالة تماثيل الحقبة السوفيتية هنا وهناك, كما حدث بعد ثورة اكتوبر آنذاك , ولكن اغلبية الشعب الروسي كانت ضد تكرار هذه العمليات غير الحضارية في تاريخ الشعوب , وقد كنت شاهدا اثناء زيارة لموسكو في اواسط التسعينيات لنقاش جرى في جامعة موسكو التربوية ( وهي الجهة التي دعتنا واستقبلتنا آنذاك ) بين رئيس الجامعة ومساعده ومجموعة من عمداء كليات تلك الجامعة , وكان من الواضح وجود اختلافات كثيرة وعميقة بينهم بشأن ما كان يحدث في روسيا من احداث عاصفة , الا انهم كانوا جميعا – رغم اختلافاتهم الشديدة تلك حد التناقض - متفقين تماما على ضرورة ابقاء كل المعالم العمرانية في موسكو وبقية المدن الروسيّة كما هي , لأن هذه المعالم تعكس ( تعبيرا لعصرها وخصائصه الدقيقة بغض النظر عن الافكار السياسية التي كانت سائدة عندها ) , وكانوا يستشهدون بالمدن الاوربية العتيدة وكيف احتفظت بمعالمها رغم الاحداث الهائلة التي جرت هناك , وهو الرأي الذي انتصر فعلا رغم كل الخروقات التي حدثت هنا وهناك , وهكذا نرى الان تماثيل لينين لازالت في مختلف المدن الروسية , ومنها طبعا موسكو, ولا زال جثمانه مسجّى في مرقده الخاص الشهير وسط الساحة الحمراء بموسكو.
تغيّر الامور في روسيا الاتحادية قد انعكس ايضا باعادة النظر في بعض الافكار السوفيتية السابقة , وهناك نماذج كثيرة جدا حول ذلك , ومنها مثلا , الموقف تجاه ستوليبين, اذ ان هذه الشخصية السياسية دخلت التاريخ الروسي لانها ترتبط بمقترحات اصلاحية هائلة تقدّم بها ستوليبين في مختلف الامور, وخصوصا بشأن المسألة الفلاحية وتوزيع الارض على الفلاحين, وهي مسألة حسّاسة جدا في مسيرة روسيا , اذ ان المجتمع الروسي فلاحيّ بالاساس . الموقف من ستوليبين ابتدأ في برنامج تلفزيوني حاول ان يحدد اسماء شخصيات روسية بارزة في تاريخها , وقد شارك حوالي نصف مليون مشاهد بالتصويت , وكانت النتيجة تحديد ثلاثة اسماء هي - نيفسكي وستوليبين وستالين (وجاء بوشكين الرابع) . اما اقامة تمثاله , فقد تم طرح المقترح في مجلس وزراء روسيا الاتحادية , وكان رئيس الوزراء بوتين آنذاك , والذي اقترح جمع تبرعات لاقامة هذا التمثال وافتتاحه في الذكرى ال150 سنة على ميلاده , وتبرع بوتين نفسه براتبه لذلك الشهر , وساهم الكثيرون بحملة التبرع تلك .
ختاما لهذه المقالة , نود ان نشير , الى ان وزير الخارجية الروسي لافروف احتفل في مايس 2020 بالذكرى السبعين لميلاده , وقد جرى تكريمه من قبل الحكومة الروسية بمنحه ميدالية ستوليبين ( صدر الامر باقامتها عام 2008 ) , اي ان الدولة الروسية لم تكتف بتدشين تمثال له , وانما قامت بتأسيس ميدالية تحمل اسمه , ومنح هذه الميدالية الى لافروف تعني , ان الدولة الروسية تقرن اسم ستوليبين بالخدمة الوطنية المتميّزة لروسيا , فما أعظم هذا الاعتراف بهذه الشخصية الكبيرة , وما أعظم هذا الاعتذار امامه ...
1332 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع