الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
عيد في زمن الجائحة
العيد هو اسم لكل ما يُعتاد ويعود، وسمي بهذا الاسم لأنه يعود كل سنة بِفَرَحٍ مُجَدَّد. ولفظة "عيد" لا تُطلق إلا مع الفرح السرور، ومنه قوله تعالى على لسان المسيح عيسى (ع): (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 114)، ومن المؤكد أن السيد المسيح قصد بذلك اجتماع الناس على السرور.
والعيد يعقب كل عمل عبادي يسبقه، حيث يُراد أن يُلبس هذا المظهر الاجتماعي لباسا عباديا ليرتبط به العبد في أجمل أوقاته، وهو العيد. فالصائم بعد الجهد في الطاعة والعبادة ينتظر جني ثمار ذلك، فاجتمع بهذا المعنى للعيد المفهوم العرفي والأمر العبادي الذي لم يكن منفصلا عن مفهوم الناس لمعنى العيد، وهذا المعنى في السبق والاجتهاد لنيل ثماره وقطفها.
مُنغصات العيد:
لا يخلو العيد أحياننا من المنغصات، وبخاصة فقد الأحبة وفراقهم، ولسان حالهم يقول:
عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ جِئْـتَ يا عيـدُ ... بما مضـى أم بأمْـرٍ فيكَ تجديـدُ
ومُنغصات عيد هذه السنة ذات طابع شمولي، وليس فردي، وتشمل أرجاء العالم بعد أن ألقت جائحة كورونا بظلالها الثقيلة على كوكب الأرض، حيث لا صلاة عيد، ولا تزاور بين العوائل بسبب منع التجوال. كما تعاني أغلب العوائل من الضائقة المالية بسبب تبعات الجائحة. ولعل من أكبر المتضررين في هذا الظرف القاسي المنتجعات السياحية التي يمثل العيد بالنسبة لها موسما مهما.
أما الشريحة الأكثر تضرا في الظرف الحالي في العيد فهم فلذات الأكباد، فالعيد بالنسبة للطفل حدث غير عادي يترقبه بكل توق ليلبس ملابسه الجديدة وليأخذ العيدية ويشتري الألعاب والأطعمة التي تُدخل البهجة في نفسه.
يا عيدُ هَلاّ تَذَكرتَ الذي أخَـذَتْ ... منّا الليالي وما من كأسِنا انسَكَبا
وهل تَذَكَّرتَ أطفالاً مباهِجُهُـم ... يا عيدُ في صُبْحِكَ الآتي إذا اقتربا
هَلاّ تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمـسِ تملؤُهُ ... بِشْراً إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ؟.. قد ذَهَبا
يقول الدكتور عبد الرحمن العشماوي في قصيدته (عندما يحزن العيد) راثياً حال الأمة الإسلامية بما يشاهده من معاناتها:
أقبلتَ يا عيد والأحزان نائمـة ... على فراشي وطرف الشوق سهرانُ
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي ... قلوبنا من صنوف الهمِّ ألـــوانُ؟
ويقول الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين:
هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ ... ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهـم ... مَـنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟!
أما الشاعر عمرو خليفة النامي فقد كتب قصيدة (يا ليلة العيد) وهو بين قضبان السجن وتطوف بخاطره وخياله صورة أطفاله وهم ينتظرونه في ليلة العيد، ويصور الشاعر نفسه كأنه يُبصر أولاده والدمع ينهمر من أعينهم شوقًا إليه، فكيف يكون حال الأطفال بالعيد والآباء غائبون عن فلذات الأكباد:
يا ليلة العيد كم أقررتُ مضطربًـا ... لكن حظي كان الحــزن والأرقُ
أكاد أبصرهم والدمع يطفر مـن ... أجفانهم ودعاء الحـب يختنـقُ
يا عيد، يا فرحة الأطفال ما صنعتْ ... أطفالنا نحن والأقفـال تنغلـقُ
ما كنت أحسب أن العيد يطرقنا ... والقيد في الرسغ والأبواب تصطفقُ
كليجة العيد:
الكليجة هي السلام الوطني للأعياد والمناسبات السعيدة في العراق والدول المجاورة، وهي ليست مقتصرة على المسلمين فقط بل هي عنوان الأعياد لكل ألوان الطيف العراقي الجميل. والكليجة كعك يُصنع من الدقيق ويُعجن بالزبد بالدهن والزيت ويُحشى بالتمر أو الجوز أو جوز الهند أو السمسم مع الهيل. وفي الاْردن وفلسطين هناك "المقروطة" وفي تونس والجزائر وليبيا تسمى "المقروط" وهي تشبه الكليجة العراقية.
تعدُّ الكليجة ملكة الحلويّات الشعبيّة واستخدمها العراقيون منذ القِدم. وقد اُستخدمت كمادة غذائية سهلة الحفظ وتتحمل الخزن الطويل فضلا عن كونها غذاء متكامل، وقد اُستخدمت في السفر الطويل (مثل مواسم الحج).
وكلمة "كليجة" أو " كوليجة" (فارسية) ذكرها القزويني (ت 682هـ) بصيغة الجمع (كليجات). كما ذكرها ابن بطوطة (ت 779 هـ) في رحلته أثناء زيارته للعراق خلال حكم ابو سعيد آخر حكام المغول وذكر في كتابه "تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار": "ولأهل العراق حلوى لطيفة يصنعونها من العجين و يحشونها جوزا وتمرا ويسمونها الكوليجة....".
العراقيون والعيد:
للعيد رمزية وخصوصية خاصة تعوَّد عليها العراقيون وتناقلتها الأجيال. فقد كان الآشوريون يحتفلون في أعياد رأس السنة الآشورية، وكان هناك ساحة خاصة للاحتفالات وسط العاصمة نينوى تجرى عليها طقوس العيد، وتبدأ الاحتفالات عادةً بتوجه فتيات حاملات للورود نحو المعبد.
وتشير الرُقم الطينية إلى أن الملك (اسرحدون) احتفل مع رعيته بأعياد رأس السنة، وهو العيد الرئيسي للآشوريين، لمدة ثلاثة أيام متوالية في ساحة معبد (اي-شارا). وتشهد أيام العيد تكريم الأبطال والحكماء في الساحة العامة، وكان الآشوريون يمارسون الرماية والصيد وركوب الخيل والمسابقات الجمالية.
وكانت نساء العامة يرتدين الخلاخل، وهو تقليد استمر بين النسوة الريفيات في العراق حتى الوقت الحاضر، أما نساء الأثرياء فكانوا يرتدين حلياً تزين صدورهن، مصنوعة من مواد نفيسة وأحجار كريمة كالعقيق الأبيض وسلاسل الذهب. فيما كان يضع الرجال التعويذة السحرية في الرقبة على شكل عفريت كتب عليها عبارات سحرية لإبعاد الارواح الشريرة.
وكان الرجال والنساء من الأغنياء يرتدون الأساور في معاصمهم التي صيغت على اشكال الورود، تبدو وكأنها ساعات الرسغ التي نرتديها حالياً، كما أن ارتداء الأقراط للرجال والنساء كان أيضاً شائعاً وهي ذات شكل هلالي تصنع من الذهب أو الفضة. واستعمل الآشوريون مرايا ذهبية وفضية كانت تصقل بنوع خاص من الجلد وكذلك الأمشاط المصنوعة من الخشب. وكان هناك عادة (تلوين البيض) بالوان زاهية وجميلة، وقد انقرضت هذه العادة ولم تبقَ إلا في بعض القرى المسيحية.
ليلة العيد:
من الليالي الجميلة (ليلة العيد)، حيث يترقب الجميع قدوم العيد، وتنهمك النساء بتهيئة البيوت وإعدادها للعيد كما تنهمك في عمل (كليجة العيد). ولروعة ليلة العيد فقد غنَّت أم كلثوم رائعتها (يا ليلة العيد أنستينا) سنة 1939 في فيلم (دنانير) ثم غنتها أم كلثوم في 17 سبتمبر 1944 أمام الملك فاروق في حفلة النادي الأهلي، فأنعم عليها بوسام الكمال ليصبح لقبها "صاحبة العصمة":
يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا
هِلاك هَلْ لعنينا فرحنا له وغينينا
وقلنا السعد حيجينا على قدومك يا ليلة العيد
وهناك فيلم مصري عنوانه "ليلة العيد" وهو من إنتاج عام 1949، بطولة شادية، وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو، إخراج حلمي رفلة.
لقد كانت الأسواق تشهد زخما شديدا وتبقى مفتوحة في ليلة العيد إلى مطلع الفجر، حيث يقوم الرجال بالتسوق وشراء تجهيزات العيد من كرزات وحلويات وجكليت ما شابه. وكان الخياطون ينتظرون قدوم الزبائن لاستلام ملابسهم، والحلاقون يزداد الزخم عليهم على نحوٍ كبير، وباعة الكرزات والحلويات تغص محلاتهم من شدة الازدحام.
أما اليوم، في ظل الجائحة، فحركة الأسواق في ليلة العيد خجولة جدا. نزلتُ يوم أمس إلى منطقة كانت تشتهر بالازدحام الشديد في مثل هذه الأيام، فوجدت حركة التسوق فاترة جدا، ثم ذهبت إلى مول حديث به العديد من العاملين فكان عدد الزبائن فيه لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
العيد في الموصل في الزمن الجميل:
كان للعيد طعم مختلف عن الحاضر، ففي صبيحة العيد يخرج الناس لأداء صلاة العيد ثم ينتقلون لزيارة المقابر لقراءة الفاتحة على موتاهم. ويتجمع الجميع في بيت كبير العائلة، وتتنافس النساء في صناعة أطباق الطعام. ومن الأمور التي يحرصون عليها ارتداء الملابس الجديدة وإعطاء العيديات.
وكان مركز الاحتفالات بالعيد في أيمن الموصل في منطقة (تلة ريمـــه) الذي عليه اليوم مستوصف (باب الجديد)، وكانت تكثر فيه المراجيح والنواعير وفتّال الهوا وينشط فيه الباعة الجوالون لبيع أطعمة العيد مثل (العنبة والصمون) والمكسرات وأنواع الشرابت، كالنامليت وشربت الزبيب وعرق السوس والتمر هندي ونومي البصرة البارد.
وهناك مناطق أخرى مخصصة لسباق الخيل والعاب الفروسية ويتواجد فيها الطبالون والزمارون حيث تقام الدبكات الشعبية. وكان يتوسط حلقات الدبكة شخص يضع على رأسه (شربة ماء) ويرقص محتفلا وسط الجمع، وكلما رأى شاباً متحمسا في الدبكة وقف أمامه قائلا: شوباش من فلان بن فلان، فلا يتركه حتى يأخذ منه مبلغا يُلصقه على جبينه ويستمر بالرقص.
ومما كان يُغنى في الدبكات:
لبْسَنْ جديد الموده وحَدْرَن عَلْ العيد
راحن إلْتلّـة ريمـــه إبّاب اجديد
لــو ينطوني عشيري جَنّه مـــا ريد
أكضــــي العمر متوَنّس واظل فرحان
وكان الناس ينتقلون بالعربات ويعبرون الجسر إلى قرية النبي يونس (ع) و(بئر البنات) (مكانه اليوم في منطقة الفيصلية بجانب دائرة الجوازات) ليكملوا احتفالهم هناك، حيث تقام الدبكات الشعبية. وكانت عربات الخيول تلاقي رواجا كبيرا في العيد وكذلك الزوارق الخشبية وسط دجلة، وكان الأطفال يشترون الطبلة (الدنبك) من (باب الجسر) ليطرقوا عليها معبرين عن بهجتهم.
وكان من منهاج العيد للأولاد الذهاب إلى دور السينما لمشاهدة أفلام المغامرات، فيما يتخذ الرجال من المقاهي مقرات للقاءاتهم ويمارسون العاب الدومينو والطاولي والورق. وكانت العوائل تقوم خلال العصاري والامسيات بزيارات بعضهم البعض حاملين أواني المعجنات التي تتبارى النساء في جودة صنعها مثل (الكليجة والبقلاوة والشكرلمة).
لقد كانت تلك أبرز طقوس العيد في مدينة نينوى الآشورية قبل ثلاثة آلاف سنة، ومن بعدها في مدينة الموصل، والتي ما يزال بعضها قائم. وقد ألغت الفضائيات الكثير من طقوس أخرى، لتمحي عن الخارطة الشعبية أبهى وأجمل طقوسها في احتفالات العيد. ثم جاءت الجائحة في هذه السنة فجمَّدت فعاليات العيد، وكلنا أمل في عودة العيد إلى سابق عهده لتعود الابتسامة المعهودة لثغور فلذات الأكباد، وكل عام وأنتم بألف ألف خير.
765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع