جائحة كورونا.. القشَّة التي قصمت ظهر البعير

                                                

               الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                    أستاذ متمرس/ جامعة الموصل

   

جائحة كورونا.. القشَّة التي قصمت ظهر البعير

قبل قرابة ستة أشهر ظهر بشكل مباغت فيروس كورونا على مسرح الكرة الأرضية ولم تعر أهمية لذلك الظهور الجهات الرسمية، وفي 30 يناير/كانون الثاني 2020 أعلنت منظمة الصحة العالمية عن تفشي الفيروس، وفي 11 مارس/آذار تحوَّل الوباء إلى جائحة. وفعلت جائحة فعلها ولعبت بمقدَّرات دول العالم قاطبة وفتكت بأكبر دول وأغناها وأكثرها تطورا، وأصبح المثل العربي (القشّة التي قصمت ظهر البعير) ينطبق على معظم بلدان العالمين الأول والثاني؛ وهما الدول الصناعية المتقدمة في العالم. ومنيت الولايات المتحدة بخسائر مالية هائلة وانهارت أسعار العقود الآجلة من النفط الأمريكي وهبط سعر برميل النفط بالسالب ووصل إلى (-37) دولار للبرميل، وهو أمر يحدث بالتاريخ لأول مرة!.

والبعير (سفينة الصحراء) حيوان صابر تكيَّف على أكل الأشواك وله قدرة عجيبة على تحمّل الظروف الصعبة والمعيشة في الصحراء حيث ارتفاع درجات الحرارة وقلة الماء والغذاء.

هناك رواية عربية تراثية تقول أن رجلا كان لديه بعير وأراد أن يسافر إلى منطقة أخرى، فجعل يُحمّل بعيره أمتعة كثيرة. فبدأ البعير يهتز من كثرة المتاع الثقيل، وأخذ الناس يلومون صاحبه على ذلك. إلا إنه لم يكترث لهم، بل أخذ حزمة من التبن فجعلها فوق ظهر البعير وقال: هذه خفيفة وهي آخر المتاع، فما كان من البعير إلا أن سقط أرضا وإنهار. فتعجب الناس وقالوا "قشَّة قصمت ظهر البعير". وأخذ الغرب هذه المقولة وقالوا "Straw that broke the camel's back" كمقولة ذات أصل عربي.

أما علماء الرياضيات فقد وجدوا في هذه المقولة ضالتهم المنشودة في توضيح فلسفة واحدة من أحدث نظريات الرياضيات وأكثرها إثارة للجدل؛ وهي "نظرية الفوضى Chaos Theory" التي وضعها الرياضي وعالم الأرصاد الجوية الأمريكي إدوارد نورتون لورنتزEdward Norton Lorenz (1917-2008) وذلك في العام 1961. وتدرس (نظريةُ الفوضى) العواقبَ المستقبلية الهائلة التي يمكن أن تصنعها تغيُّرات بسيطة في الحاضر. إنها فكرة واقعية تقودنا نحو فهمٍ جديدٍ وعميقٍ للعلوم الطبيعية، ويُعبِّر عنها ما يُعرف " بتأثير الفراشة Butterfly Effect" الذي لخَّصه ابن قيم الجوزية (1292-1350)م بقوله:

كلُّ الحوادثِ مبدأُها من النظرِ ... ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ
وما يحدث الآن من فوضى واضطرابات في الولايات المتحدة والتي أشعلها مقتل (جورج فلويد) على يد الشرطة أحدث مثال على ذلك.

البلدان العشرة الأوائل بعدد الإصابات بجائحة كورونا:
وبعد أن فعلت (قشَّة) كورونا فعلها في بلدان العالم وكشفت عن عوراتها، تُظهر النتائج الرسمية المعلنة لغاية 1حزيران/يونيو 2020 أن الولايات المتحدة USAتحتل موقع الصدارة في العالم بعدد الإصابات وعدد الوفيات، تعقبها البرازيل Brazil، ثم أربع دول من بلدان العالم الأول هي روسيا Russia وإسبانيا Spain والمملكة المتحدة UK وإيطاليا Italy، تعقبهم الهند India. وتأتي فرنسا France وألمانيا Germany بالمرتبتين الثامنة والتاسعة، في حين تأتي تركيا Turkey بالمرتبة العاشرة.

والملفت للنظر أن أعلى نسبة وفيات بالنسبة لعدد المصابين هي في فرنسا 15.3% تليها إيطاليا 14.3% ثم المملكة المتحدة 14.0%. أما الولايات المتحدة فتبلغ نسبة الوفيات فيها بالنسبة لعدد المصابين 5.8%، في حين أن أقل نسبة وفيات بالنسبة لعدد المصابين في هذه الدول فهي في روسيا؛ حيث بلغت 1.1%. وباعتقادنا فإن التفاوت الواضح بين هذه النسبة جدير بالملاحظة. كما أن ارتفاع نسبة الوفيات بالنسبة لعدد المصابين في فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة جدير بالملاحظة، على العكس من ألمانيا التي نسبة الوفيات فيها بالنسبة لعدد المصابين متدنية بلغت 4.7%، علما أن جميع هذه البلدان من بلدان أوربا الغربية ومتجانسة تقريبا فيما بينها في العديد من الجوانب.

أما بخصوص بريطانيا العظمى، فقد اهتزت اهتزازا شديدا أمام (قشَّة) كورونا، وكان على رأس المصابين ولي العهد (الأمير تشارلز) ورئيس الوزراء (بوريس جونسون) ووزير الصحة (مات هانكوك). وقد لعبت الكوادر الطبية ذوات الأصول العراقية دورا كبيرا للتصدي لهذه الجائحة، وكانوا في الصفوف الأمامية في هذه المعركة الكبرى. وتشير الإحصائيات إلى وجود 875 طبيب استشاري وجراح في المستشفيات البريطانية من أصول عراقية.

عالم ما بعد كورونا:
من الأسئلة المطروحة على الساحة الدولية الآن: هل سيكون عالم ما بعد كورونا مثل ما كان قبل كورونا؟ لقد اعتبر المتفائلون أن جائحة كورونا دليل على إخفاق المنظومة العالمية القائمة. ورأى البعض ذلك تجسيدا لاختلال العلاقات الدولية وضعف المؤسسات الأممية، وآخرون اعتبروه فضحا لتشوه علاقات السوق وآليات الإنتاج، وفريق آخر قطع بأنه إعلان موت لليبرالية نفسها وبداية لانهيار عصر القطب الأمريكي وتفكك الوحدة الأوروبية. واعتبرت قطاعات شعبية واسعة أن الوباء قد يكون فرصة لإعادة هندسة الدراما العالمية، وتصحيح الأوضاع وفق تصوراتهم الشخصية عن العدالة وفاعلية المنظومة الحاكمة للسياسة والاقتصاد.

لقد كتب بعض الكُتاب آراء مختلفة حول هذا الموضوع مستنيرين بما طرحه مُنّظر السياسة الخارجية الأمريكية الشهير هنري كسينجر رغم أنه في منتصف العقد التاسع من عمره. وكسينجر ما زال متوقد الذهن، واعياً لما يدور حوله في العالم، ولديه نظرته الخاصة حول تطورات المشهد العالمي، بعد اندلاع أزمة فيروس كورونا، التي اجتاحت العالم.

عمل كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون عام 1969، ثم تولى وزارة الخارجية، وظل فيها لغاية 1977. ولعب كيسنجر دوراً محورياً في رسم وتنفيذ سياسة بلاده الخارجية وأُشتهر بجولاته (المكوكية) في الشرق الأوسط بعد حرب اكتوبر، التي مهدت الطريق لاتفاقية (كامب ديفيد) بين مصر واسرائيل، فيما بعد. وأصبح كيسنجر، بعد خروجه من الحكومة، مستشاراً ومُنّظراً، يؤخذ برأيه، في السياسة الدولية.

كتب كيسنجر مقالاً في جريدة (وول ستريت جورنال)، في عدد 2 أبريل نيسان، بعنوان (فيروس كورونا سيغير النظام العالمي للأبد). وقد أدرك كثيرون مسألة التغيير هذه، وتحدثوا فيها مطولاً قبله، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن النظام العالمي الراهن لن يبقَ على حاله، وأنه سيتفكك ويسقط، بفعل الأزمة الحالية، وهو النظام الذي بُني على أساس تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بين المنتصرين.

إلا أن رأي كيسنجر يختلف تماماً، فهو يدعو إلى ترميم النظام القديم، في عملية تتولاها بلاده، وتمنع سقوطه، كي تحافظ أمريكا على مكانتها، وتبقى سيدة العالم بلا منازع. لذلك هو يعتقد أن المهمة الملحة حاليا ترتبط بالقضايا مع بعضها البعض وتُعالج واحدة تلو الأخرى، وذلك بعكس القاعدة الأوروبية، وخاصة البريطانية، التي تنظر إلى قضايا العالم نظرة فردية، بحيث تعالج كل مشكلة على حده.

ويرى كيسنجر أنه من الضروري (إطلاق مشروع موازي للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد كورونا)، بمعنى أن عدم إتاحة الفرصة لهدم النظام القديم، الذي تعتبر أمريكا حجر الزاوية فيه. وهذا تفكير نابع من حرص كيسنجر الشديد على أن تحتفظ بلاده بزعامة العالم بعد انتهاء الأزمة. وتوقّع كيسنجر أن تُغير جائحة كورونا النظام العالمي للأبد، وأن تستمر تداعياتها لأجيال عديدة. وختم كيسنجر مقاله بقوله "إن التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، وإن الفشل في هذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال العالم".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

478 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع