الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنّون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
شيخ الخطاطين ورائد الصحوة الخطيَّة في ذمة الله
ودَّعت مدينة الموصل يوم أمس الجمعة 11 ذي القعدة 1441هـ، الموافق 3 تموز/يوليو 2020م شيخ الخطاطين العراقيين والعرب ورائد الصحوة الخطيَّة الخطاط يوسف ذنّون (1932-2020) أثر جلطة دماغية لم تمهله طويلا عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عاما، وقد أدى المسؤولون في محافظة نينوى واجب الزيارة تجاهه، يتقدمهم المحافظ ورئيس جامعة الموصل. وقد تناقلت مختلف وكالات الأنباء خبر وفاته، ونشرت العديد من المجلات الإلكترونية العربية مقالات عنه، كما نعته مختلف الأوساط الرسمية والشعبية في داخل العراق وخارجه.
يُعدُّ يوسف ذنّون من أواخر الخطاطين الذين عاصروا العهد الملكي في العراق، وهو من أواخر قيادات حركة (القوميين العرب) الخمسة البارزين في الموصل مع عبد الباري الطالب وحسين الفخري وسالم الحمداني وغانم يونس.
كما يُعدُّ يوسف ذنّون من أبرز الأسماء التي كرَّست حياتها للحفاظ على فنون الخط العربي، وكان حارسا عتيدا عند بوابة هذا التراث العظيم للحفاظ عليه، وقد اتفق المشتغلون بهذا الفن الراقي في العالم العربي والاسلامي على أن يُطلقوا عليه (فقيه الخطاطين العرب)، لما تختزنه ذاكرته من معارف انتجتها الحضارة العربية الإسلامية في إطار الخط العربي الذي كرس له حياته حتى آخر أيامه.
لقد كان يوسف ذنّون يسكن في ستينيات القرن الماضي في منطقة (الدواسة خارج) جنوب الموصل وعلى مقربة من بيتنا، وهو يعيل عائلة كبيرة تضم سبعة عشر ولدا من زوجة واحدة: ست أولاد (عصام، أسامة، عمّار، صفوان، حسّان، رضوان) والباقي بنات، أغلب تخصصاتهم هندسية، وقد توفي حسّان في فترة احتلال الموصل.
و (ذنّون) اسم خاص بمدينة الموصل وضواحيها، وهو مُشتق من (ذو النون): أي (صاحب الحوت) المذكور في القرآن الكريم، وهو نبي الله (يونس) عليه السلام الذي أرسله الله تعالى إلى نينوى. ومن ذكرياتي الخاصة مع يوسف ذنّون أنه خطَّ لي الإهداء لأول كتاب نشرته في جامعة الموصل سنة 1991 (الاحتمالية والمتغيرات العشوائية)، وكان الإهداء قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 34).
ولِد يوسف ذنّون عبد الله النعيمي في محلة باب الجديد في الموصل عام 1932، درَس القرآن الكريم في الكُتّاب ثمّ دخل مدرسة (ابن الأثير) للأحداث عام 1939 ومنها إلى مدرسة (باب البيض) للبنين عام 1942، والتحق بالمتوسطة الغربية عام 1945، ثم الإعدادية المركزية وتخرج فيها عام 1950.
التحق بالدورة التربوية ذات السنة الواحدة وتخرج فيها عام 1951، ثم عُين معلماً في مدرسة (المحلبية) عام 1951، وأنتقل إلى مدرسة (حمام العليل) عام 1956، فمدرسة (ابن حيان) عام 1958، ثم انتقل إلى مركز (وسائل الإيضاح) بعد افتتاحه ومنه إلى متوسطة الوثبة عام 1960، ثم معلم في معهد المعلمين بين عامي 1962-1969، حيث درَّسَ مادتي الخط العربي والتربية الفنية.
ثم انتقل إلى ثانوية (الرسالة)، ثم أصبح مسؤول الخط العربي في النشاط المدرسي، ثم مشرفاً تربوياً للتربية الفنية عام 1976. ومما يُشهد له في إطار عمله كمشرف اختصاص أنه أقدم وخلال عامين على إقامة ورش لتعليم الخط العربي لجميع مُدرسي الفنون مما مَكنهم من تدريس وتعليم فنون الخط للطلبة. وقد أحيل إلى التقاعد عام 1981.
لقد كان يوسف ذنّون رحمه الله شخصية عصامية، اعتمد على نفسه ممّا أخذه من خطوط صبري الهلالي وهاشم البغدادي، وقد قال عن نفسه: "أحد العوامل الرئيسة التي قادتني لتعلّم الخطّ هو كتابتي الرديئة، والسبب في تأخّر دراستي للخطّ هو نشأتي في عائلة فقيرة، اضطرّني ظرفها الاقتصادي للعمل أثناء متابعة الدراسة منذ الصغر".
وفي سنة 1957 سافر إلى تركيا فاطّلع على كراريس تعليم الخطّ لمحمّد عزّت وأخيه الحافظ تحسين، وظلّ يمشق عليها حتّى حقّق المستوى الذي جعل الخطّاط التركي حامد الآمدي (1891-1982م) يمنحه إجازة سنة 1966 ويحصل منه على تقدير بالتفوق.
لقد تخرج على يَدَي يوسف ذنّون العديد من الخطاطين البارعين؛ من داخل العراق وخارجه؛ منهم علي حامد الراوي، وأياد الحسيني، وطالب العزاوي، وباسم ذنّون، ومروان حربي، وعمار عبد الغني، وعباس الطائي، وعلي حسن، وعلي أحمد، وعبد الغالي عبد الرزاق، وحسن قاسم حبش، والخطاطة الموصلية الشهيرة (جنة عدنان أحمد عزت) وشقيقتها فرح.
وللخطاط يوسف ذنّون نشاطات دولية معروفة في المهرجانات والمسابقات العالمية في الفنون الاسلامية، وهو عضو في العديد من الجمعيات والنقابات والاتحادات العراقية والعربية بالإضافة إلى مساهماته في كتابة مواد (الموسوعة الإسلامية التركية) و (موسوعة الموصل الحضارية) وشارك في العديد من المعارض الدولية للخط في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وماليزيا، ومنها معرض (سحرة الأرض) الذي اقيم في باريس في العام 1989.
وليوسف ذنّون آثار فنّية كثيرة، وكَتَب لوحات وأشرطة على جدران العديد من الجوامع والمساجد في الموصل، وقد وصل عددها الى 250. وكان يقوم بتحديد القبلة للمساجد بالطريقة الأثرية القديمة التامّة الضبط، وقد تعلّم هذه الطريقة التي تُسمّى بالهندية من محمّد صديق الجليلي (1903-1980م).
لقد استطاع يوسف ذنّون أن يحدد خصائص مدرسة موصلية في الخط العربي، وتمكَّن من الوصول إلى أنماط تشكيلية في تكوينات خط الثلث تحديداً. وابتكر طريقة مختزلة في تبسيط وتدريس الخطوط، وتمكن من الوصول إلى أنماط تشكيلية في تكوينات خط الثلث تحديداً. وعقد ندوات ومحاضرات في تاريخ وتطور الخط وأقام دورات عامة لتعليم هذا الفن الإسلامي بالموصل، ولهُ آثار فنية في الخط واللوحات على كثير من الكتب والمجلات، وأقام معارض في الخط العربي ودَرَّب طلبته على الخط منذ عام 1962، وساهم هو وطلابه في معارض بغداد منذ العام 1972.
وقد انفرد يوسف ذنّون ببحوث عميقة في تاريخ الخط العربي وتقنيات خاصة في تدريس الخط كانت فتحاً في تسهيل تعليمه للدارسين. ولديه العديد من الأثار الفنية الخطية والتي منها سلسلة في الخط العربي تحت عنوان (سلسلة الخط الجديدة) في تفاصيل وتعريف خط الرقعة والديواني والكتابة الاعتيادية. ومما خطته انامله شعار جامعة الموصل (وقل ربي زدني علما)، وهناك الكثير من اللوحات التي ترك بصمته فيها في أكثر من بلد عربي وإسلامي، خاصة في دول الخليج العربي. كما وُظَّفت بعض خطوطه الشهيرة خارج العراق في النقوش على السيراميك.
لقد ساهم يوسف ذنّون في تدريس قواعد الخط العربي وكتابة عدة مؤلفات في مناهج التدريس والخط العربي، ومنها:
- الكتابة وفنّ الخطّ العربي، النشأة والتطوّر.
- درس التربية الفنية 1965م.
- خلاصة قواعد خط الرقعة 1971م.
- الخط الكوفي 1972م.
- مبادئ الزخرفة العربية (التوريق) 1972م.
- تحسين الكتابة الاعتيادية 1978م.
- قواعد خط الرقعة 1978م.
- قواعد الخط الديواني 1978م.
- الواسطي موصلياً 1998م.
لقد شارك يوسف ذنّون في تأسيس جمعية (التراث العربي) في الموصل، وهو عضو في جمعية (الخطاطين العراقيين) وعضو فخري في جمعية (رابطة الخريجين لتحسين الخطوط العربية) في مصر. وقد كرمه رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر عام 1972 بمناسبة إقامة معرض الخط العربي الأول في بغداد.
لقد كُتبتْ عن يوسف ذنّون مقالات عدة ودراسات، ومنها ما كتبهُ فوزي سالم عفيفي في مصر حول تاريخ وأعمال يوسف ذنّون، وكتب سعيد الديوه جي: (يوسف ذنّون مدرسة الإبداع في الخط العربي)، وصدر عنهُ عدد خاص من مجلة (حروف عربية): (يوسف ذنّون: فنان الخط وفقيههُ) بتقديم الباحث العراقي الدكتور ادهام حنش.
لقد عمل يوسف ذنّون قرابة عشرون سنة في قطر، وكان آخر بيت له في حي الأندلس مقابل جامعة الموصل، وقد أخرج من البيت جناح خاص عمله منتدى للمثقفين، أطلق عليه (مركز يوسف ذنّون للأبحاث التاريخية والفنية). وقد شهد المركز نشاطا متميزا، حيث تقام فيه نشاطات وفعاليات ثقافية ومحاضرات منوعة، ومن ضمن المهام الأساسية لهذا المركز: إقامة الدروس والمحاضرات التعليمية عن الخط العربي ومدارسه المتنوعة. ويضم المركز مكتبة تضم كتبا تاريخية وفنية ورسومات، فضلا عن بحوث ودراسات يصل عددها إلى 120 بحثا ودراسة.
لقد رثاه الدكتور عبد الوهاب العدواني قائلا:
وأوحَـشَ أُمَّ الـرُّزءِ صُبـْـحُ فِراقِــهِ ... كما يُوسفٍ في الذِكرِ أوحَشَ يعقُوبا
ورثاه آخر بقوله:
تخطى يوسف جب المنونِ ... وجاز الموت واجترح العجائبْ
له قلمُ يخطّ على القرونِ ... وعكّازٌ يدبّ على الكواكبْ
رحمك الله يا (أبا عصام) بواسع رحمته ورضوانه فقد كنتَ بحق رجلا عصاميا خدم دينه وأمته وحافظتَ على التراث العظيم وأبدعتْ فيه.
https://www.youtube.com/watch?v=AmDbCcUAn_w
609 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع