الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنّون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
مناسك الحج وجائحة كورونا بمنظار علم المحاكاة
يمرُّ علينا عيد الأضحى المبارك هذه السنة وأرجاء المعمورة تعيش في ظرف صعب، لم تشهد له مثيل، بعد أن ألقت جائحة كورونا بظلالها الثقيلة على أرجاء المعمورة وفي مختلف مجالات الحياة:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ... بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
علم المحاكاة Simulation:
يُعد علم المحاكاة من العلوم العصرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالحاسوب Computer، وهو علم هجين يرتكز أساساً على ركنين رئيسين: علم الرياضيات والحاسوب.
وبإيجاز شديد فإن (المحاكاة) هي تقليد (أو تشبيه) لواقع معين أو فعّالية معينة، للتفاصيل أنظر كتابي الموسوم:
"مَدخَل إلى المحاكاة التصادفيّة الحاسوبيّة وَنَمْذَجَتِها باستخدام MATLAB"، جامعة الموصل، 2010.
نموذج قرآني:
من النماذج القرآنية الرائعة للتشبيه والمحاكاة تلك التي نجدها في الآية العظيمة: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35).
فبعد أن جلا النص القرآني العظيم هذا الأفق المترامي، عاد يقارب مداه، ويقرِّبه إلى الإدراك البشري المحدود، في مَثلٍ قريب محسوس: مَثل نوره كمشكاة فيها مصباح، أي: مَثَل نور الله تعالى في قلب المؤمن.. وهو مَثَل يُقَرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود; ويرسم النموذج المُصغر الذي يتأمله الحس، حين يقصر عن تملي الأصل. وهو مَثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير. ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة: وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويا متألقا: (كمشكاة فيها مصباح).
(يوقد من شجرة مباركة زيتونة) زيتها عجيب يكاد يضيء بغير احتراق، وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف، وهو نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض، والذي لا نُدرك كنهه ولا مداه.
ذلك النور الطليق، الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله تعالى، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (النور: 36-38).
الحج وأركانه:
يرجع تاريخ الحج في الإسلام إلى عهد النبي إبراهيم الخليل عليه السلام. وللحج شعائر معينة تُسمى (مناسك الحج)، لكل منها دلالتها ومرتبطة بالأحداث التي حدثت بعد ولادة إسماعيل عليه السلام، حيث اغتمت سارة وكانت تؤذي إبراهيم عليه السلام في أُمِّنا هاجر وتغمّه، فأمره الله تعالى أن يخرج إسماعيل وأمه عنها إلى مكة المكرمة.
وللحجّ أربعة أركان، وهي: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة، ويكون سبعة أشواط في يوم النحر بعد رمي الجمرات والنّحر والحلق.
أما الركن الرابع من أركان الحج فهو السعي بين الصفا والمروة. حيث يصعد الحاج إلى الصفا ثم يبدأ بالسعي من الصفا ماشياً باتجاه المروة، ويهرول في وسط منطقة المسعى، ثمّ يتابع السعي إلى المروة ماشياً، وبوصوله إلى المروة يكون قد أكمل الشوط الأول، ثم يرجع من المروة إلى الصفا بنفس الطريقة حتى يُتمّ الأشواط السبعة في السعي بين الصفا والمروة.
شعائر الحج وعلم المحاكاة Simulation:
لو تأملنا في شعائر الحج نجد أن خلفياتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بقصة خليل الله سيدنا إبراهيم عليه السلام وأمَّنا هاجر وولدها إسماعيل عليهما السلام. وهذه الشعائر ما هي إلا محاكاة وتقليد يقوم بها الحُجاج كل عام لتلك الأحداث والوقائع العظيمة التي حدثت منذ آلاف السنين لحكمة عظيمة أرادها الله تعالى.
- الوقوف بعرفة هو محاكاة مُصغَّرة ليوم القيامة، حيث يقف الحجاج في جبل عرفات فيتشابه الأمر مع يوم القيامة في بعض الأحوال والأمور؛ من ذلك: أن المكان واحد، والزمان واحد، والناس قد جُمعوا في ذلك المكان والزمان من بقاع مختلفة من الأرض، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً.
- والسعي بين الصفا والمروة هو محاكاة لما فعلته هاجر عليها السلام عندما قامت تبحث عن ماء لطفلها إسماعيل عليه السلام.
- والنَّحر هو محاكاة لما فعله سيدنا إبراهيم عندما أراد تنفيذ ما رآه في الرؤيا بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام.
- ورمي الجمرات هي محاكاة لردود أفعال إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام تجاه الشيطان عندما همَّ إبراهيم بذبح إسماعيل. حيث رَمت هاجر الشيطان بسبع حصوات لتطرده في موضع الجمرة الصغرى، ثم رماه إسماعيل بسبع حصوات ليطرده في موضع الجمرة الوسطي، ثم رماه إبراهيم بسبع حصوات عند موضع الجمرة الكبرى، فانصرف الشيطان ويئس أن يطاع.
جائحة كورونا والمحاكاة:
لقد كتب الباحث المصري المعروف الدكتور زغلول النَّجار مؤخرا مقالا عنوانه " كورونا.. قيامة صغرى" وكأنه يعتبر أن هذه الجائحة أشبه ما تكون بمحاكاة مصغَّرة ليوم القيامة "قيامة صغرى".
لقد وصف النَّجار من منظاره حال الناس مستشهدا ببعض المشاهد التي ذكرها الله تعالى لأحوال الناس يوم القيامة، من ذلك:
• أن يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه.
• شوارع خالية، مساجد بلا صفوف وكعبة بلا طواف، وحدائق تخلو من ابتسامات الأطفال، ناس جاثمين في بيوتهم يخشون حتى التنفس، ترهبهم العطسة وتبعثرهم كحة عابرة.
• كورونا اليوم يُفرِّق بين الزوج وزوجه والأخ وأخته ويفر المرء من المصاب دون اعتبار لصلة قرابة أو صداقة، مات البعض بالفيروس ولم يُصَلّ عليهم، ودُفنوا بطريقة نقل البضائع دون أن يمسهم ماء، بثيابهم مرضوا وبذات الثياب دُفنوا.
• كورونا حوّل إيطاليا إلى مقاطعة هندية، فقد باتوا يحرقون ضحايا الفيروس، وفي كوريا الشمالية تهديد بإعدام المصابين، ودول أخرى تدفن موتاها بطريقة شهداء البحر.
تخيَّلوا في نعيم الدنيا ومفاتنها يحصل هذ الخوف والفرار، يحصل هذا وإمكانية إيجاد اللقاح متوفرة، والمطهرات متوفرة، الصوابين بأنواعها موجودة، فما بالنا بالفرار يوم الغاشية حيث لا يتواجد إلا كتاب: إما أن تلقفه باليمين أو الشمال؟!
إنها فرصة يجب استثمارها من هذا البلاء للعودة إلى الله بقلوب سليمة، وهي فرصة للطمأنينة بذكر الله وكتابه الكريم. وهي دعوة مجانية من كورونا رغم رعبها لكافة الناس، بأن يُطهِّروا قلوبهم قبل أيديهم، وأن يُنظفوا منازلهم بالتسبيح والاستغفار قبل التهافت على المطهرات.
فيا لهذا الفيروس، لقد عرفناه مرضاً ولم نفهمه داعياً إلى الله تعالى (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ) (المدثر: 31).
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن تكون أحوالنا في الأعياد القادمة أفضل من هذا العيد، وكل عام وأنتم بخير.
609 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع