عندما يتحول التاريخ والتراث إلى دين

                                                    

                              قاسم محمد داود

عندما يتحول التاريخ والتراث إلى دين 

شرق المتوسط؛ هذه المنطقة من العالم التي شكلت مهد الديانات التوحيدية الثلاث، بتأريخها المحاط بالأساطير والتاريخ المقدس الذي أخذ إيقاعه من الصراعات والحروب والمنازعات، ودخلت القرن الواحد والعشرون على نفس إيقاع القرون السابقة. شعوب هذه المنطقة واقعة تحت تأثير يميل إلى تقديس التاريخ وأحياناً تحويله إلى دين يتمتع به رجل الدين بأرفع مكانة حتى صار هذا التاريخ مسيطراً على الحاضر إلى درجة طمسه. وصار الاحتكام إلى التراث والماضي في القضايا الحاضرة، مما يعني قتل الحاضر بجميع مفرداته، فكراً وسلوكاً، ويعني إيقاف الزمن في حقبة تأريخيه بذاتها باعتبارها الحقبة المثالية التي يجب ان تكون القدوة هي وكل شخوصها مقياساً لما هو صالح أو طالح في الحاضر المعاش دون أي اعتبار للتطور الحاصل في مسار الحياة على كوكب الأرض. ساعد على ذلك نظم التعليم المتخلفة المتبعة في معظم دول المنطقة والتي تفتقر إلى المراكز البحثية المختصة، ودراسة التاريخ على أسس علمية صحيحة بالإضافة إلى إن جهل الغالبية بالتاريخ سهل على المستفيدين من تقديس التاريخ تزييف الماضي وأسطرته فلو عدنا إلى الماضي بملابساته الحقيقية قبل تقديسه وتفخيمه لأصابتنا خيبة أمل عظيمة. فما الذي حدث ولا يزال مستمراً بالحدوث نتيجة لذلك في هذه المنطقة الملتهبة دوماً؟ لقد حدث التالي:

دخل التاريخ طرفاً مستقلاً في صراعات منطقة شرق المتوسط وليس نتيجة صراع. وبائت بالفشل كل محاولات التقارب بين أديان ومذاهب وطوائف المنطقة. ولم يعد الصراع على الحاضر، بل تمحور على الانتصار لنموذج معين من التاريخ لأجل المطالبة بإعادته من قبل المنتصر مع عجز واضح وجلي عن القدرة على الدخول في الحضارة الحديثة ومغادرة القرون الوسطى وتحويل احداثها إلى تراث يستفاد من دروسه لصنع حاضر مزدهر وليس أعادة إنتاجه من جديد باتجاه متنافر يستحضر مرحلة من التاريخ عبر أعادة تجسيدها ليزاحم بها الحضارة فلا يمكن له أن يلحق بها أو يكون على هوامشها في أحسن الأحوال.
ومن النتائج؛ ظهور الجماعات التي صارت تستلهم وجودها من قراءة التاريخ قراءة ثأرية، وجدير بالانتباه أن القراءة الثأرية من بين أكثر قراءات التاريخ مخاطرة بحاضر شعوب المنطقة ومستقبلها لأنها تسعى في لحظتها القائمة إلى تصفية حسابات تراكمت عبر قرون غابرة، وهي تتخذ من التاريخ موقداً لصراعات الحاضر والمستقبل بدل استلهام العبر منه والاتعاظ بدروسه. وليس بخاف على أحد كيف ان قراءة التاريخ الثأرية استغلت كمرتكز لأطماع ومادة تعبئة في خدمة استراتيجيات مرسومة لتحقيق غايات تراهن على تفكيك وإعادة تشكيل المنطقة من جديد على أسس قومية وطائفية.
ولأن شعوب منطقة شرق المتوسط التي لا تستطيع بسهولة التفريق والفصل بين ما هو ديني/ سماوي وتراثي/ تاريخي، حولت التأريخ من مجرد نتاج بشري متراكم للاستفادة والعبرة إلى نتاج مقدس لا يقبل النقاش بأي شكل من الأشكال لذلك خلق هذا الخلط بين المحورين عقلية غير قادرة على توجيه أي نقد لأي زاوية من زوايا التراث المتعلق بالدين، خوفاً من العقاب السماوي والأرضي وفسح المجال للكثير من الخرافات والأساطير التي سيطرت على عقول البسطاء من الناس وهي لا تمت إلى الدين بأي صلة.
وعندما تحول التاريخ وصار ديناً وأحيط بجدار من المقدس قُدست شخصيات وقادة من هذا الماضي كانوا قادة للجند او أمراء وزعماء لعبوا ادواراً سياسية وعسكرية كغيرهم من القادة والزعماء والحكام في كل العصور وأخطأوا وأصابوا لأنهم بشر، إلا أنهم هنا صاروا رموزاً دينية واحيطوا بهالة من القداسة لم ينالوها في عصرهم الذي عاشوا فيه، وجاء من ينسج حولهم قصص التفخيم والتعظيم والقدرات الخارقة، وهذا حال كل الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها والمنهزمة حضارياً، حينما تفقد القدرة خلق رموز في الحاضر ترفع من شأنها فأنها تستحضر رموز الماضي، وتضفي عليها ما تحتاجه نفسياً وخيالياً حتى تحيلها إلى اسطورة محاطة بهالة من التقديس لتعويض الفراغ والضياع في حالها الراهن. فزاد الطين بلة لأن المبالغة في التعظيم والغلو في المتميزين من الأشخاص هو من أغزر منابع الجهل والظلم والتخلف أنه آفة تقتل العقول وتكثف الأوهام وتخرب قدرات البحث عن الحقائق والتقييم وتحيل الناس إلى قطعان مأسورين لأقوال فرد أو بضعة أفراد نصبوا من أنفسهم أو نُصّبوا كحراس لهذا المقدس فشملهم التبجيل والتفخيم.
ولكي يحافظ حراس المقدس هؤلاء على مكانتهم تحولوا إلى مؤسسات احتكرت حق البحث والتحليل والتفسير في قضايا الدين والتراث الديني وتاريخ الشخصيات التراثية التي أسبغوا عليهم هالات التقديس، وصارت هذه المؤسسات وقادتها هم من يتحكم بعقول ووعي الناس وحولوهم إلى تابعين تخدرهم أساطير وروايات وأوهام الماضي السحيق التي يتداولونها دون تدقيق او تحليل فأصيبت شعوب المنطقة بالجمود الحضاري والتقدم العلمي ولم تقدم للعالم ومنذ قرون أي إسهام علمي او ثقافي لابل صارت سوقاً لاستهلاك المنتجات الغربية ومرتعاً لثقافاتهم وأفكارهم. لقد منع هؤلاء الحراس حرية التفكير والأبداع لأن حرية الفكر تسلبهم قدسيتهم وامتيازاتهم وكل مكاسبهم وتحرر الآخرين من قيودهم التي كبلوا الناس بها، فهم من دون هذه القدسية ليسوا سوى بشر عاديين.
وبسبب هذا الخلط بين التراث والدين صار الاستشهاد بالأوائل على أنهم يمثلون الدين وهذا بلا شك ظلم للدين، فلكل ماله وما عليه والرأي فيهم يتبع الهوى ولا يجوز أن تحسب أعمالهم على الدين فهم بشر عاديون وليسوا أنبياء معصومين والاستشهاد بأي منهم يضفي هالة من القدسية على أفعالهم وكأنها من الدين وسيؤدي ذلك إلى أن يقتدى بهم البعض فيما أصابوا وفيما أخطأوا. أن هذه المنطقة من العالم عالقة في شباك التاريخ. وأُدخلَ في عقول شعوبها الكثير من الأفكار التي رسخت في قناعاتهم أن أفضل ايامهم هي التي مرت كما ان أجيالهم تعلمت أنها أذا كانت تريد مستقبلاً جيداً عليها أن تستعيد الماضي، وهذا أمر غريب، لا يكادون يتعاملون مع معطيات عصرهم، لذلك فإن المشاكل القديمة نفسها التي حدثت قبل قرون يعاد إنتاجها وكأنها حدثت بالأمس. ليس العجيب أن شعوب المنطقة ربطوا مصيرهم بالماضي، بل لتكريسهم لأحداث ووقائع وخطابات كانت قد شكلت عند حدوثها قبل قرون عاملاً سلبياً أدى إلى التفرقة بين أسلافهم وخسارة لمكانتهم الحضارية. في عصرنا الحاضر صارت غالبية هذه الشعوب أسرى الماضي بشخوصه وأحداثه التي كانت سبباً مباشراً في تخليهم عن ناصية العلم والمعرفة والحضارة ودخولهم في عصر الظلمات مرة أخرى.
أن التشبث بالماضي واجتراره بسلبياته وربط مصير الحاضر بسلبيات الماضي بدلاً من التعامل مع الحاضر وتطويعه وتطويره كي يكون نقطة مضيئة أخرى تساعد هذه الشعوب على تخطي الصعاب، وتمكنهم من امتلاك ناصية العلم والمعرفة والدخول في عصر المدنية والحضارة ومساهمين فيها مستنيرين بالنقاط المضيئة من تأريخهم ومغادرين لكل ما يشكل عائقاً في تطور حاضرهم ومستقبلهم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع