د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
في مولد الذكرى... وذكرى المولد
يحتفل المسلمون في مشارق الارض ومغاربها في 12 من ربيع الأول من كل عام بذكرى عطرة عزيزة على القلوب، هي ذكرى مولد نبي الأمة والرحمة المهداة للبشرية جمعاء (سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بمولده وطلعته إستنار الكون وأشرقت الأرض بنور ولادته، كيف لا وهو الرحمة المهداة، والنعمة العظيمة، والأمل المنتظر الذي أرسله الله عز وجل للناس أجمعين "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء 17). فكان رحمة للبشرية كلها. وببعثته ورسالته ودعوته انقشعت الظلمات وتبدلت الأرض غير الأرض والناس كذلك، فإنتشرَ العدل بعد طول سيطرة للظلم، وعمَّ الإحسان بعد طول كراهية وجفاء، وانمحت ظلمات غشيت العقول وأعمت البصائر والأبصار.
إن ذكرى المولد النبوي ليست مجرد مناسبة لمولد (إنسان عظيم) فحسب، بل إنها ذكرى (مولد أمة) فبولادته عليه الصلاة والسلام ولدت أمة العرب من جديد.. لتقود العالم وتنشر الفضيلة والعدل والسلام.. وتحارب الظلم والطغيان.. وترفع شعار الفاروق الخالد (متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)... أمة لا تفرق ولا تظلم ولا تضطهد، وماهي إلا عقود قليلة من ولادة المصطفى حتى إرتفعت راية (لاإله إلا الله ) في أرجاء الجزيرة العربية وفوق بلاد فارس وعلى تخوم الروم وفي شمال أفريقيا.. ودخل الناس عن طواعية ورضا وإقتناع في الدين الإنساني الجديد الذي رفع شعار (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) و (لكم دينكم ولي دين)... حتى صار المسلمون اليوم مليارات من البشر.. يدينون بالفضل لصاحب الذكرى العطرة عليه أفضل الصلوات والتسليم.
كرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فجعله سيد ولد آدم ولا فخر، وجعل مولده نورا وبركة اهتز له عرش كسرى وانطفأت به نار المجوس بعد أن ظلت مشتعلة ألف عام، وربط الله بين محبة المصطفى وبين وجوب إتّباعه: بقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم" (آل عمران 31)... وجعل سبحانه وتعالى طاعة رسوله من طاعته عز وجل "من يطع الرسول فقد أطاع الله" (سورة النساء 80)، واختصه بما لا يعد ولا يحصى من المناقب والمفاخر عجز العلماء عن حصرها وعدّها طيلة قرون، رغم ما ألفَّ في ذلك من آلاف الصفحات. فلايحصل الإيمان ولا يتم إلا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" رواه البخاري ومسلم، وجعل الله الشهادة بنبوته ركنا من أركان الإسلام، واختصه بمعجزة الإسراء والمعراج، وجعل الملائكة دائمة الصلاة عليه "إن الله وملائكته يصلون على النبي" (الأحزاب 56)، وأيده بالمعجزات والبراهين وبعثه للناس أجمعين عكس باقي الأنبياء والمرسلين الذين ارسلوا الى امم بعينها وذواتها، وختم الله به الرسالات وأرسله للناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. ومن تمام الكرامات أن حظيت أمته صلى الله عليه وسلم بالتكريم، ورفع الله قدرها فوق باقي الأمم "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران) وما ارتفعت هذه الأمة وما شُرِّفت إلاّ بهِ صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى "لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم".
لقد كانت ولادته صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تأريخ البشرية، التي كانت قبل بعثته تعيش عصرا من الظلام تسوده كل صنوف الزيغ وتتخبط في كل أنواع الظلالات، وكان الناس في الجاهلية يتقاتلون لأتفه الأسباب، ويتخذون من الغارات مصدراً للارتزاق ويئدون البنات مخافة الإملاق ويعبدون الأصنام، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يؤلف القلوب وينير الأبصار وينقي العقول ويشحذ العزائم ويرفع الهمم، وصدق الله تعالى إذ قال: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" (آل عمران 103)، وعبّر عن ذلك الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: "لقد كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير".
لقد كان يوم ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم في الأثنين يوم سعادة دائمة للبشر وكل كائنات الوجود، وكان صلى الله عليه وسلم يحب يوم (الإثنين). فقد روى (مسلم) في صحيحه في كتاب الصيام عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال:سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل صوم يوم الإثنين فقال هذا يوم ولدت فيه وأنزل عليَّ فيه"، وأخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال "ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين واستنبئ يوم الإثنين وخرج مهاجرا يوم الإثنين وقدم المدينة يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين"
إن ذكرى المولد النبوي الشريف هي مناسبة وفرصة لكل مؤمن كي يتذكر اصطفاء الله عز وجل للنبي المصطفى من بين كل الخلائق، وإصطفاءه لنا من بين كثير من الخلق لنكون من أمة المصطفى وأتباعه، صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الفرح بهذا الإنتساب يجب أن يتناسب مع ما يستحقه من محبة واتباع لنهج المصطفى، وإلتزام بهديه وأن تكون هذه الذكرى موعظة لكل منا يرى فيها حال المسلمين اليوم الذين تداعى عليهم الأعداء والكارهون كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها لأنهم باتوا غثاءً كغثاء السيل لا تغني عنهم كثرتهم العددية ولا ثرواتهم الطائلة، ماداموا بعيدين عن منهج الحق الذي جاء به صاحب الذكرى العطرة، كما يجب ان تكون ذكرى لكل مؤمن يتذكر فيها حاله مع الله عز وجل وموقعه عن ما أمره الله عز وجل به "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
إنها ذكرى ولادة أعز من في الوجود، سيد ولد آدم، الرحمة المهداة، الشفيع لنا يوم القيامة. نسأل الله لأمتنا هذه (أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم) العافية وحياة القلوب المتشوّقة إلى حب الله ورسوله والإلتزام بنهجه وشرعه والتوحد تحت كلمته وتحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
حرّيٌ بجميع المسلمين عربا وغيرهم أن يرجعوا للنبع المحمدي الصافي ويغادروا كل عوامل التفرق والتشرذم والخلاف التي يغذيها أعداؤهم، من طائفية وعرقية وتحزّب فارغ.. وعصبيّة جاهلية مقيتة، وليستلهموا من هذه الذكرى العطرة، ومن صاحب الذكرى، المعاني والعبر التي تعينهم على تجاوز محنهم وإخفاقاتهم، ويعودوا إخواناً متحابين كما أمرهم الله ورسوله، وأن يعودوا إلى دراسة سيرة نبيهم ويغترفوا من نبعه الصافي وميراثه المبارك ليعودوا إلى الموقع الذي بناه لهم أجدادهم في صدارة الأمم.
وحرّيٌ بنا نحن العراقيين ان نستلهم، من ذكرى مولد النبي الامين المعاني والعبر، ونحن نعيش ونجتاز هذه المرحلة الصعبة الحرجة والدقيقة من تاريخ العراق، بعد ان تكالب الاعداء الحاقدون من كل صوب على العراق، من اجل تمزيقه وشرذمته والانتقام من وقفاته العروبية والاسلامية، وحضوره الدائم في قضايا الامة، وتسطيره المواقف المشهودة نصرة للعروبة والاسلام، ورفضه الخنوع لمخططات اعداء الامة، فكان الغزو الصليبي بدفع من الصهيونية، وبمشاركة من الحاقدين والناقمين على العراق، وعلى عروبة العراق، حرّيٌ بكم ايها العراقيون ان تقفوا وقفة رجل واحد متماسكين متوحدين متضامنين حماية للعراق ولتراب العراق وكرامة العراق، فبوحدتكم ايها العراقيين تفشل المؤامرة ويتحرر العراق، ويزول كابوس الاحتلال، كونوا اخوة متحابين، وانبذوا كل عوامل التفرقة والبغضاء من طائفية وعنصرية وتحزب وليكن الولاء الاوحد للوطن وليس لاحد سواه...
ما أحرانا نحن العراقيين في هذه المناسبة أن نتدبر قوله تعالى تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".وقوله سبحانه:" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً". وقوله سبحانه: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم". وقوله عليه الصلاة والسلام : "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" . وقوله عليه الصلاة والسلام: "إيّاكم والظنّ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا،ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ( ويشير إلى صدره) بحسب امرىء من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". صدق رسول الله.
ولناخذ من ذكرى المولد النبوي الشريف العبر والعظات والمعاني السامية التي تعزز فينا روح الوحدة والصمود والاباء وليوحدنا عشق العراق الواحد المحرر، ولا ننخدع بشعارات الدساسين والحاقدين من خلف الحدود ممن لايريدون للعراق التوحد والتحرر بل يريدونه مشرذما مفككا ضعيفا، ولنترفع عن كل الخلافات الجانبية التافهة وليجمعنا ويوحدنا حب الوطن، والدفاع عنه، والبذل في سبيله بالغالي والنفيس، فلا أعز من الوطن، ولا أغلى من العراق، وهذا هو المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم في يوم مولده يذكرنا بحب الوطن والاستشهاد في سبيله، والذود عنه، وكل عام والعراق بكل الخير والعزة والكرامة.
1255 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع