د.اسعد الامارة
البناء النفسي والفكري للإنسان كيف يتكون؟
هي رحلة البحث في النفس عن البناء وتكوين اسس الشخصية التي نستدل على مكوناتها من خلال ما يصدر عنها من سلوك، حيث قال علماء النفس أن السلوك هو تكوين فرضي، بمعنى أننا نستدل على ما هو متكون في دواخلنا من أبنية نفسية وفكرية تخرج للعلن من خلال تصرفاتنا وما يصدر عنا، سنحاول في السطور القادمة كيف تم بناء هذا التكوين، أقصد به التكوين النفسي، أو التكوين الفكري، سأحاول التطرق من خلال التساؤل التالي: هل هو بناء سوي أم هو بناء مرضي، قوي صلب أم ضعيف هش، لنا رحلة نفسية في البحث عن الأبنية التي تشكلت.
حينما نتناول مفهوم البناء النفسي للإنسان حتمًا سنستعرض خلفية تشمل الصحة والمرض، السواء واللاسواء، على وفق اسس فلسفة النفس، هنا أعني بها مفهوم الديالكتيك الذي يعد هو لب أسس البناء النفسي. أن تناولنا لمصطلح " العصاب" أي الاضطراب النفسي والذي هو يشير إلى حالات مرضية ذات أصول نفسية أعراضها تعبير رمزي لصراع نفسي كما يقول شيخ فلاسفة التحليل النفسي العربي العلامة"مصطفى زيور" رحمه الله ، هذا البناء تمتد جذوره إلى مرحلة الطفولة المبكرة من حياة الإنسان، ويعلم من دَرسَ العلوم النفسية المعمقة يعرف تماما أن وظيفة العصاب الأساسية هي أنه يقوم بتسوية بين قطبي الصراع، أي بين الرغبة والدفاع، بين اللذة والألم، ويقول "لاجاش" كل سلوك يرجع في أصله إلى حالة توتر مؤلم ويهدف إلى الوصول إلى خفض هذا التوتر، مع تجنب الألم وتحصيل اللذة إن أمكن تحصيلها. وذكرنا قبل قليل أن البناء النفسي تمتد جذوره منذ الطفولة المبكرة، ففي هذه السن ينشأ البناء النفسي من خلال صراع نفسي يحسمه الطفل بالاستمتاع بحنان الأم ورعايتها، فهو يموه على الألم الناجم عن زيادة التنبيه وتأخير الإشباع بفعل التفريغ الحركي والنشاط الذي يصدر عنه وأهم ذلك هو التعبير بالصراخ والعراك والحركة الإعتيادية والمفرطة، وهو يهلوس أيضًا أي يعيش الخيال وتكوين مختلف الصور واللعب الإيهامي بين أقرانه مع الاطفال حيث يحقق الإشباع المرغوب، أما عند الراشد الناضج فيلجأ إلى الابتعاد عن ما يسبب الألم ويورثه في تثبيته وإبقاءه في تكوينه النفسي من خلال اللجوء إلى أحلام اليقظة وأحلام النوم، ويقول علماء النفس النوم يسمح باسترجاع حياة نفسية شبيهة بما كانت عليه معرفة الواقع، لا سيما أن الواقع هو المحك للإشباع بلا ألم لجميع الرغبات حتى المجنونة منها" غير العقلانية"، وبطبيعة الحال فإن الكبت هو الذي يدلنا على إختلال صلة الفرد بالواقع والرغبات غير المتحققة لدى المرضى وحتى الأسوياء. إننا نفطن خلال مرحلة البناء النفسي لدى الإنسان السوي والإنسان الذي بدأ يميل نحو الإضطراب النفسي من إحلال مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة في ارتقاء الوظائف النفسية الشعورية واللاشعورية للتوافق مع الواقع، هنا تدخل وظائف الإنتباه وشدته والحساسية الإدراكية وتكونها والذاكرة وقدرتها على الخزن لكل الصور التي تمر بحياة الفرد خلال تلك المرحلة ليكون التثبيت Fixation أما قويا أو خفيفا سطحيا، وتؤكد أدبيات علم النفس التحليلي يتمتع الفكر الإنساني بصفات تتيح للجهاز النفسي أن يتحمل زيادة في التوتر أثناء تأجيل عملية التفريغ، أما إذا أستطاع أن يقلل من الطاقة من خلال تفضيل نمط من النشاط النفسي ومنه الخيال عند البالغ والطفل، وأحلام اليقظة عند البالغ والذي سنراه في سلوكه عند النضج ومرحلة البلوغ في إختيار المهنة التي تناسب تكوينه النفسي الأساس، فمن ظل خاضعًا لمبدأ اللذة سيتبناه وهو كبير وناضج في مرحلة مقتبل العمر.
أن البناء النفسي للإنسان تتدخل فيه عوامل التربية كثيرًا فمن نشأ في أسرة دينية تدعو إلى العزوف عن اللذة في هذه الحياة بما تعد به من تعويض في الآخرة، سينهج الفرد منهج أسرته ويكون بناءه النفسي دينيا وحسب تعمقه ومدى قوة الصراع الذي سيحسمه حتما، لأنه لا يوجد صراع دائم، الصراع الدائم ينهك الإنسان وسيؤدي به إلى اختلال النفس في نهاية المطاف. أما في صورة الفن الذي يعصف في بناء البعض نفسيا فهو نمط فريد في نوعه في التوفيق بين المبدأين فالفنان يتحول عن مبدأ الواقع إلى المتوهم، إلى الخيال لكنه يعود إلى الواقع من خلال أعماله وما يصدر عنه من نتاج فكري وفني يحقق له الإشباع ويحقق للناس اللذة التي كانت السبب في ألم الكاتب، أو الفنان، أو من يقوم بإنتاج فكري عميق يترك الأثر في أجيال، وهو ما عبر عنه عالم النفس الفرنسي "هنري فالون" بأنه تعاطف معذب. وكذلك الحال في البناء النفسي لدى الرياضي والإنسان العادي وأسس تكوينه النفسي والفكري، ونلاحظ أن السوية "الصحة" بحدها الفاصل بين اللاسواء" المرض النفسي" تقف على خط واحد يفصلها وقد يتسائل القارئ الكريم كيف يكون هذا الفصل بين السوية والمرض؟ نقول له أن الإنسان يعيش في مرحلة من مراحل عمره الأولى الخيال وعدم إدراك الزمان والمكان ومحدودية معرفة الآخرين عدا المحيطين به من الاهل ولكن بمرور السنوات والنمو الجسدي والعقلي والفكري والنضج سيدرك كل ما ذكرنا، ولكن يختلف الإنسان غير السوي" المضطرب نفسيًا" عن السوي بأنه أنزلق من اللبس في الزمان والمكان والأشخاص حيث يصدر عنه اختلاط بين عالم الأخيلة وعالم الواقع، بمعنى أدق .. إن عالم الأخيلة أصبح واقعًا نفسيًا فرض صفاته على الواقع الفعلي فزيفه كما يقول "مصطفى زيور".
إن الخبرة الإنفعالية التي يتركها الفرد في داخله تقوده حتما إلى تكوينه النفسي في مراحل بناءه النفسي الأولى، في سنواته الأولى، تقود هذه الخبرة الإنفعالية لدى البعض منا نحن البشر إلى اضطراب في اختبار الواقع وقدرته على الحكم السوي، أي التمييز بين الواقع النفسي والواقع الفعلي، بين الرغبة واللذة مقابل الدفاع والواقع ، فمن تشكل تكوينه النفسي أن يؤمن بالسحر وفعل السحرة وتأثير الحسد وقوة ضرب العين وفعلها، يبحث عن تعويذة لتحفظه من العين والحسد فهو يؤمن بالخيال الذي يكافئ الواقع، والنية التي تساوي الفعل. وهذه أعراض وسواسية قهرية تلازم من يؤمن بها ويعتقد بها مدى الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يجابه خبايا ذاته وإن عرفها وأكتشفها. وعلى هذا يقول "لاجاش" إن ما تُدركهُ من البيئة ليس ما ينصاع لرغباتنا، بقدر ما هو ذاك الذي يمتنع عليها، فالإدراك ليس جزئيًا فحسب، وإنما هو متحيز من حيث أنه يصوغ الواقع على أنه تضاد – الرغبة.
607 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع