الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
محنتا الاعلام والقضاء في العراق المحتل
العراق بلد الحضارات البشرية الاولى حيث تعد القوانين والنظم العراقية القديمة من أقدم القوانين الموجودة على مر التأريخ، إذ أن بدايات ظهور التمدن والمجتمع المدني كانت في العراق، فهو مهدٌ للحضارات الإنسانية وبلد الحرف الأول، كما أكدت ذلك الاكتشافات الآثارية التي جرت فيه والتي كشفت عن تنظيم قانوني ساد البلاد قبل آلاف السنين من ظهور القانون الروماني حيث أن بلاد وادي الرافدين هي مهدٌ للشرائع والقوانين ومنها انتشرت الأحكام والمبادئ القانونية الى كافة أنحاء العالم.
سبقت شريعة حمورابي أو مسلة حمورابي في ظهور تشريعات كثيرة وصلتنا من بلاد آشور نذكر منها شريعة أورنمو وكذلك مخطوطة أشنونا ومخطوطة لبت – عشتار ملك آيسن إلا أن “مسلة حمورابي”، وهو سادس ملوك بابل الذي أصدر شريعته في العام الثلاثين من حكمه، قد كانت أكثر تكاملاً وشمولية لكل نواحي الحياة في بابل آنذاك، واحتوت المسلة على 300 مادة تشريعية وقانونية تعرض بعضها للتلف وبقيت 282 مادة، وركزت على السرقة والزراعة أو رعي الأغنام، وإتلاف الممتلكات، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحقوق العبيد، والقتل، والموت، والإصابات وغيرها. وتختلف العقوبات على حسب الطبقة التي ينحدر منها المنتهك لأحد القوانين والضحية. ولا تقبل هذه القوانين الاعتذار، أو توضيحٍ للأخطاء إذا ما وقعت.
الا ان المفاجئ للجميع ان القضاء في العراق منذ عام 2003 ولغاية الآن، لم يتمكّن من رسم صورة إيجابية أو مستقلة له داخل الشارع العراقي، فتهم التحيّز لجهات سياسية دون غيرها ظلّت مرافقة له على الدوام. كذلك، ينسب له إدخال العراق في واحدة من أبرز المشاكل التي ما زالت تخيّم عليه حتى الآن، وهي حكمه لصالح نوري المالكي عام 2010 على حساب غريمه السياسي إياد علاوي، من خلال تفسيره الفقرة الدستورية الخاصة بالانتخابات بأنّ الذي يحقّ له تشكيل الحكومة ليس الفائز في الانتخابات التشريعية، وإنّما الذي ينجح في تشكيل ما بات يعرف بـ"الكتلة الكبرى" داخل البرلمان.
يعتبر العراق بعد احتلاله من أكثر بلدان العالم التي لاتحترم دستورها وقوانينها ولذلك نجد ان خرق وانتهاك الدستور والقوانين من قبل جميع السلطات التنفيذية او التشريعية او القضائية، أمرا بديهيا وسياقا طالما تعود على ممارسته جميع المتنفذين في العملية السياسية التي فرخها الاحتلال بل ان موضوع الخروقات والانتهاكات اليومية أصبح واقعاً عملياً متفق عليه من قبل الاحزاب والقوى التي كلفت بادارة الدولة من قبل الاحتلال ، وان برز خلاف حاد للعلن بوجود خرق دستوري او قانوني فهذا يعني انه خلاف مصالح سياسية او شخصية، وسرعان ماتحاول القوى المنتفعة من السلطة حسم الخلاف وتناسي الخرق الدستوري وكـأنه لم يكن، أما اذا استفحل الخلاف فان القضاء المسيس والمغيب سيمسك العصا من الوسط أو ان يحكم لمن هو أكثر قوة وسطوة وتأثيراً.خشية من المساس بمصالح جهات سياسية متنفذة من التي تهيمن على الدولة ومفاصلها وبما يعمق الأزمة في العراق بحيث لم تعد أزمة سياسية او حكومية أو امنية او اقتصادية او او بل امتدت الى القضاء العراقي والذي يفترض أنه ممثل الشعب وحامي الدولة وأمنها.
الملاحظ وبشكل مثير كثرة تناول وسائل الاعلام حتى التي تتبع للجهات المتنفذة بالعملية السياسية للقضايا الخطيرة وتشخيص مظاهر الفساد والسرقات بالوثائق والادلة والاسماء فقد رصد 31 قضية كبيرة مرّ على أغلبها عدة سنوات وأكثر من دون أن يحسمها القضاء رغم اكتمال أركان القضية واكتسابها كل الجوانب القانونية التي يجب توافرها، ومنها ملف سقوط الموصل، وملف سقوط الفلوجة، ومجزرتا جامع مصعب بن عمير وسارية، ومجزرة سبايكر، ومجزرة الصقلاوية، وجريمة تفجير الكرادة، وملف سرقة الآثار، وملف تسريب الدولار لإيران، وملف المليار ونصف المليار دولار المحتجزة في بيروت، وجريمة تفجير معمل النسيج في بابل، وصفقة الأسلحة الأوكرانية، وصفقة الطائرات الروسية، وملف المدارس الإيرانية الحديدية، وملف البسكويت الأردني، وملف توزيع قطع الأراضي السكنية الوهمية، وإغراق قرى ومناطق أبو غريب والرضوانية وصدر اليوسفية عمداً لمنعها من المشاركة في انتخابات 2014. هذا بالإضافة إلى قضايا وجرائم خطرة أخرى مثل: جرائم التطهير الطائفية في ديالى وبابل وبغداد، والعنصرية في كركوك وصلاح الدين ونينوى، وملف الاعتقالات العشوائية، وملف سرقة أملاك العراقيين المسيحيين في بغداد ونينوى وتحويلها إلى أسماء أشخاص آخرين، فضلاً عن ملفات أخرى كثيرة كان آخرها تزوير الانتخابات العراقية والتلاعب بأصوات الناخبين العراقيين.
علما إنّ تلك الملفات تتعلّق بمسؤولين كبار في الدولة وقيادات سياسية شيعية وسنية وكردية متورطة بشكل مباشر فيها. فمثلاً، ملفّ سقوط الموصل وحده والمجمّد من قبل القضاء، تسبّب بمقتل وإصابة ما لا يقلّ عن ربع مليون عراقي، واختفاء نحو 40 ألفاً آخرين، فضلاً عن الدمار الهائل الذي قدّر بنحو 88 مليار دولار في مدن شمال وغرب ووسط البلاد، عدا عن تهجير قرابة الستة ملايين عراقي داخل البلاد وخارجها. ويأتي ذلك فيما يواجه المالكي ونحو 40 مسؤولاً آخرين، بينهم قيادات عسكرية، تهم الخيانة العظمى والفرار من المعركة خلال اجتياح تنظيم "داعش" العراقَ، إلا أنّ القضاء لم يفتح أيّاً من تلك القضايا ويرفض من الأساس التحدّث للصحافيين بشأنها، كما أنّ سياسيين يتحاشون التصادم مع القضاء خوفاً من كسب عداوته وبالتالي الإيقاع بهم كما حصل مع آخرين سابقين.
في ظل هذه الصورة المأساوية للقضاء في العراق المحتل لم يجد العراقيين غير الخروج الى الشارع ثائرين منتفضين ضد كل ماجاء به الاحتلال مطالبين بكل مايحافظ على ماتبقى لهم من كرامة ورغبة في العيش الكريم فالعراقيين الرافضين للاحتلال وتبعاته لم يسكتوا ولن يستكينوا منذ احتلال بلدهم حتى الان وهم مستمرون في ثورتهم في كل مدن العراق رغم سياسات البطش والقتل والاعتقالات والترهيب والترغيب وكانوا ينتظرون من بعض وسائل الاعلام التي يفترض بها ان تكون صوتهم المعبر وان تغطي وتنقل حقيقة الاسباب والمبررات التي دفعت العراقيين الاحرار للثورة ضد جلاديهم الا ان موقف اغلب هذه الوسائل للاسف كا مخيب للامال.
حيث كانت هناك انتقادات لوسائل اعلام حول ضعف التغطية الاعلامية للثورة، وإقدام بعض وسائل الاعلام على استخدام تغطية جهوية شملت جانبا من اطراف الازمة اما الجهات الرسمية او الثائرين، فيما استخدمت وسائل اعلام عبارات كراهية وتحريض ضد الثوار.
كما ان ضعف خدمة الانترنيت وانقطاعه لايام، والاجراءات الامنية التي اتخذتها قوات الامن عرقلت وسائل الاعلام والصحفيين من اداء عملهم في تغطية الثورة، فيما لجأت وسائل اعلام الى مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على الاخبار والصور ومقاطع الفيديو ، تبين ان بعضها قديم لم تخضع للفحص من قبل القائمين على مكاتب تحرير الاخبار.
غياب التغطية الميدانية للثورة بشكل لافت خصوصا في الايام الاولى من انطلاقها، ويعود ذلك الى تجاهل وسائل اعلام لها من جهة، واجراءات امنية تتضمن ضرورة الحصول على موافقات مسبقة وقرارات منع دخول اجهزة البث المباشر والكاميرات الى مواقع الثوار، كما ساهم انقطاع الانترنيت في صعوبة ارسال مراسلي وسائل الاعلام للاخبار والصور ومقاطع الفيديو الى غرف التحرير، وانعكس ذلك على ضعف نوعية التغطية التي تركزت على الاخبار مع استخدام صور ومقاطع فيديو ارشيفية تعود الى تظاهرات سابقة.
كما استخدمت بعض وسائل اعلام الاحداث لاغراض سياسية، وتظاهرت هذه الوسائل الاعلامية مواقف مؤيدة بشدة للثوار ومطاليبهم ، الا انها في الحقيقة كانت تعبر عن موقف احزاب وسياسيين ممولين لوسائل الاعلام، حاولت استغلال الثورة لانتقاد السياسيين الخصوم مع الاشارة الى ان التغطية اهملت الجانب الميداني وركزت على تصريحات وبيانات ومؤتمرات صحفية، في المقابل تبنت وسائل اعلام مواقف مناهضة للثوار ارتكزت على مواقف سياسية لاحزاب تضمنت اتهامات لقوى سياسية منافسة.
ولاحظنا ان وسائل الاعلام التابعة لاطراف العملية السياسية ركزت في تغطيتها الاعلامية على عبارات التحريض وخطاب الكراهية لتاجيج الراي العام على مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدمت عبارات من قبيل "مندسين" ،"عملاء"، "جواسيس"، "بلطجية" ضد الثوار، مع انتشار اشاعات من بينها ان قوات الامن المنشترة هم من سكان الموصل والانبار ويسعون للانتقام من سكان الجنوب؟؟!!.في حين ان عديد من وسائل اعلام لم تعتمد الاسس المهنية بما فيها الحيادية في تغطية الازمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر ضمنت بعض القنوات الفضائية المملوكة للاحزاب المهيمنة على السلطة برامجها الموجهه وتقاريرها واستضافاتها على المناهضين لثورة الشعب، من سياسيين ومسؤولين حكوميين دون استضافة ممثلين عن الشعب.
كما ادى انقطاع خدمة الانترنيت المتعمد من قبل الحكومة، الى الفوضى في تغطيات اغلب وسائل الاعلام التي وقع بعضها في فخ استخدام صور ومقاطع فيديو مفبركة للثوار، إذ اضطرت تلك الوسائل الاعلامية الى استخدام منصات مواقع التواصل للحصول على صور ومقاطع فيديو ورغم انه اسلوب معتمد في وسائل الاعلام في العالم، الا ان على من يستخدم هذه الطريقة التأكد من صحة هذه الصور ومقاطع الفيديو حيث ثبت ان بعض وسائل الاعلام نشرت مثل هذه الاخبار على انها جديدة ليتبين لاحقا انها قديمة تعود الى احداث سابقة قبل سنوات.
ان قطع خدمة الانترنيت و حجب المعلومات عن الشعب يفسح المجال امام انتشار الاخبار الكاذبة عبر صور ومقاطع فيديو يتم نشرها من منصات تملك الانترنيت في اوقات قطعه عن الجمهور لتحتكر توجيه الراي العام عبر صور ومقاطع فيديو مفبركة ،كما ان فرض القيود على وسائل الاعلام في تغطية الثورة لن يحول دون نقلها في عصر التكنلوجيا عبر هواتف المحمول الشخصية وتقنيات البث المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما ان فرض القيود على وسائل الاعلام والاعتداء على المراسلين يمثل خرقا صارخا لمفاهيم حرية الرأي والتعبير لاسيما في بلد مثل العراق الذي يعاني نظام الحكم فيه من سمعه سيئة دولية بتجاوزاته على حقوق الانسان منذ احتلاله في نيسان 2003.
1142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع