رحلة عائلة بشير عزيز في عالم العود

                                                

              الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                    أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

      

           رحلة عائلة بشير عزيز في عالم العود

يحفل تاريخ العراق بفنّانين عظماء ساهموا في نحت هويته الثقافية الثريّة، فالعراق هو موطن الشعراء والأدباء، وهو كذلك موطن الموسيقيّين العظماء.

لقد عرف العراق عازفي عودٍ عباقرة، أمثال سلمان شكر (1921-2007) وجميل بشير (1920-1977) وشقيقه منير بشير (1930-1997) وصولًا إلى نصير شمّة أحد علامات آلة العود في هذا العصر.

لقد كان سكان بلاد ما بين النهرين أول صنع العود في العصر الأكادي 2350-2170 ق.م. ويُعد زرياب (789-857م)، وهو أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، أشهر صُّنَّاع العود. فبعد أن هاجر من بغداد إلى الأندلس استبدل وجه آلة العود الموجود في زمانه من الجلد بالخشب الرقيق، بالإضافة إلى أنه زاد في أوتار عوده وترا خامسا. كما استبدل مضراب العود من قوادم النسر، بدلا من مرهف الخشب.

بشير عزيز:
بشير عزيز رجل دين مسيحي، كان شماساً في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الموصل. وكان يتمتع بصوت رخيم شفاف ساعده كثيراً في أداء تراتيل كنيسته. وإضافة إلى كونه مرتلاً وعازف عود؛ كان عاشقا للموسيقى، كما كان نجاراً ماهرا يصنع آلة العود ورشته.


رُزق بشير عزيز بسبعة أولاد، أربعة ذكور منهم العازفان الشهيران (جميل بشير) و (منير بشير) والشقيق الأصغر فكري، وثلاث بنات؛ وكانت شقيقتهم الصغرى (نادرة بشير) عازفة بيانو.

سلطان العود جميل بشير(1920-1977):
ولد في الموصل وتعلم العود منذ نعومة أضفاره. ويُعد جميل بشير قيثارة الألحان ومن أبرز من أثروا الموسيقى العربية وخلق لغة موسيقية عراقية ودوّن التراث بهمة عالية وبدون توقف، كما أثر في الكثير من الموسيقيين من بعده وكان نقطة تحول بالنسبة لهم وبالنسبة لآلة العود كذلك.

كان جميل بشير ضمن الدورة الأولى عند تأسيس معهد الموسيقى في بغداد سنة 1936، حيث دَرَس العود على يد الشريف محيي الدين حيدر وتخرج عام 1943 من قسم العود، وتعين في المعهد. كما درس آلة الكمان على يد الموسيقار سانودو آلبو وتخرج عام 1946 من قسم الكمان وبتقدير امتياز.

أولى جميل بشير اهتماما كبيرا بدراسة التراث والمقامات العراقية والأنغام والإيقاعات العربية والعراقية، وظهر حافظا لتراث الموسيقى العربية والتركية ومؤديا على العود والكمان.

لقد تميزت موسيقى جميل بشير بملامح عراقية صرفه وأصيله وكان مثال للفنان المثقف والمعلم البارع والمؤلف الباهر والعازف المتمكن المتقن على العود والكمان.

لقد كان إنتاج جميل بشير كبيرا ومتنوعا، فقد دوَّن المقامات العراقية وعزفها وصاحب أغلب مطربي العراق على العود والكمان، وسجل الكثير من القطع الموسيقية الكلاسيكية ومن مؤلفاته أيضا بعوده المتميز، كذلك سجل الكثير من الأغاني العراقية والأغاني الكردية.

لجميل بشير بعض المؤلفات الموسيقية منها كتاب بعنوان "العود وطريقة تدريسه"؛ 1961، وهو مؤلف من جزئيين. كما لحن العديد من الأناشيد المدرسية وعمل في مجال الإذاعة والتلفزيون كرئيس للفرقة الموسيقية ورئيس للقسم الموسيقي.

وقام جميل بشير بجولات فنية عديدة سجل خلالها العديد من مؤلفاته لعدة إذاعات عربية وأجنبية، كما أقام فترة طويلة في الكويت وسجل الكثير من الأعمال هناك.

لقد كان جميل بشير من الذين أثروا الموسيقى العربية وبهمة عالية وبدون توقف إلى ساعة وفاته. وقد داهم المرض جميل بشير في أوائل عام 1976، وكان اسمه مدرجاً في عِداد النخبة من الموسيقيين الذين كُرّموا رواداً للحركة الموسيقية العراقية، ولكن المرض حال دون حضوره هذا التكريم، وقد توفي في 22 أيلول 1977 في لندن تاركاً ثروة موسيقية مسجلة من عزفه وموسيقاه.

ومن الأعمال الرائعة التي قام بها جميل بشير قيامه بالتقاط الأغاني التراثية من افواه الناس وثابر على عزفها وتسجيلها بعد أن أعاد توزيعها توزيعاً موسيقياً جديداً ومتطوراً، فأصبحت بفضله خالدة في العراق وخارجه. ومن الألحان العراقية التراثية التي ساهم جميل بشير في إحيائها: فوق النخل، يا ابن الحمولة، طالعة من بيت ابوها، وأغاني أخرى كثيرة.

يذكر النقاد المطلعون لولا جميل بشير لما كان ناظم الغزالي ليستطيع تحقيق الشهرة الكبيرة التي نالها. ولا يقتصر الأمر على الألحان التي غناها ناظم الغزالي إنما أيضا على الكثير من الألحان التي غناها غيره أيضاً، وخصوصاً فرقة الانشاد العراقية في فترتها الخصبة التي عرفتها سنوات الخمسينات ومطلع الستينات.
https://www.youtube.com/watch?v=aWnPy99mzPM

زرياب القرن العشرين منير بشير (1933-1997):

منير بشير هو الابن الثاني لعائلة بشير عزيز. ويعتبر منير بشير أمير العود ومن أهم عازفي العود في القرن العشرين، وهو سيد هذه الآلة في الشرق الأوسط.

كسر منير بشير العود مرتين: الأولى عندما حاول أن يُنزل عود والده المعلّق على الحائط، فسقط من يده على الأرض؛ حادثة جعلت الأب يستعيض عن معاقبة طفله بأن يصنع له نسخةً صغيرةً من هذه الآلة الموسيقية. أما المرّة الثانية فكسرَه برحيله عن عالمنا، في مصادفة التقى فيها غيابه وذكرى مولده في يومٍ واحدٍ هو 28 أيلول/ سبتمبر.

قضى منير بشير طفولته في الموصل ثم انتقل إلى بغداد والتحق بمعهد الفنون الجميلة عام 1939، ودرس العود على يد الشريف محي الدين حيدر، ثم تخرج فيه عام 1946.

مارس العمل الفني في إذاعة بغداد، وفي تلفزيون العراق بعد تأسيسه عام 1956، عازفاً ورئيساً لفرقتها الموسيقية ومخرجاً موسيقياً، ومن بعد رئيساً لقسم الموسيقى. كما مارس التدريس في المعهد. وأسس له معهداً خاصاً باسم (المعهد الأهلي للموسيقى)، وصار رئيساً لجمعية الموسيقيين العراقيين.

سافر منير بشير إلى إسطنبول عام 1953 وعزف في إذاعتها. وأثناء عودته مرَّ ببيروت ورافق المطربة فيروز بعوده وسجل الأغنيتين الشعبيتين (هيك مشق الزعرورة) و (يا حلو يا قمر). وفي العام التالي، عُين مديراً للبرامج الموسيقية في دار الإذاعة في بغداد، كما كان وقتئذٍ نقيباً للموسيقيين العراقيين أيضاً.

https://www.youtube.com/watch?v=ebfHD3zXIUY

وفي العام 1955 افتتح معهداً موسيقياً خاصاً دام ثلاث سنوات أُغلق بسبب الإفلاس. وفي صيف 1957 سافر إلى بريطانيا ليدرس الإخراج، وخلال وجوده في لندن سجّل للإذاعة البريطانية (56) مقطوعة موسيقية، كما سجل لإذاعة باريس. ولم يتابع دراسة الإخراج في بريطانيا بعدما أكتشف أنّه يجد ذاته في الموسيقى وبالأخص العزف على آلة العود، فقرر الذهاب إلى هنغاريا (المَجَر) ليدرس ويستقر هناك لأن لهنغاريا؛ حسب رأيه؛ رابط تاريخي مع منغوليا ومنغوليا كان لها رابط تاريخي مع السومريين.

أحيا منير بشير حفلات موسيقية بين عامي 1959-1960 في عواصم أوربية كثيرة مثل فينا وبرلين وبودابست وموسكو. وقدّم عام 1962 أمسية موسيقية في دمشق ومحاضرة حول الموسيقى العربية.

سافر منير بشير إلى هنغاريا في العام 1962، دارساً لعلوم الموسيقى المقارنة (Comparative Musicology) وحصل على شهادة الدكتوراه في ذلك، كما تزوج من فتاة هنغارية ورزق منها بولديه عمر وسعد.

ذاعت شهرة منير بشير وشارك في أكثر مهرجانات العالم الموسيقية من طوكيو إلى سان فرانسسكو، وصادف أن يشارك في العام الواحد باثنين وعشرين مهرجاناً في العالم.

وفي العام 1965، أحيا حفلة موسيقية بعوده في بودابست كما رافق بعوده المغنية الهنغارية ماريان كوروسي M.Korösi في بعض الأغاني العربية مثل (البنت الشلبية)، و(ديمة)، و(آه يا زين).

توفي منير بشير في 28 أيلول 1997 على أثر نوبة قلبية قبيل رحلة فنية له للمكسيك.

https://www.youtube.com/watch?v=DvnyKreMv8Q

عمر منير بشير:

بعد رحيل جيل العمالقة فإنّ العلامة الأبرز هو عمر بشير، الّذي يواصل حتّى الآن مسيرة أبيه منير بشير في حمل لواء مدرسة العود العراقيّة إلى العالميّة.

وُلِد عمر بشير في المجر في عام 1970، ولم يتجاوز عمر عامه الخامس حتّى بدأ رحلته مع آلة العود، حين ناوله إيّاه أبوه عندما ألحّت عليه أمّه الّتي رأت فيه تعلّقه الشديد بالموسيقى.

عندما بلغ عامه السابع عادت عائلته إلى العراق، وفتح والده قسمًا لتعليم الموسيقى في مدرسة الموسيقى والباليه ببغداد، ورسّم ابنه للدراسة فيها مع أطفال آخرين. ومن هنا كانت بداية عمر بشير مع التعليم الأكاديمي، وكان أستاذه في هذه المرحلة عدنان محمد صالح، وحين يعود إلى المنزل، كان يدرّبه والده.

شكَّل عمر في العام التاسع من عمره، أوّل فرقة للموسيقى الشرقيّة في العراق للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 7 و10 أعوام، وهي (الفرقة التراثيّة العراقيّة) الّتي أشرف عليها الدكتور طارق إسماعيل.

وفي سنة 1986، شكَّل منير بشير فرقة البيارق وكان عمر ذو الستّة عشر ربيعًا آنذاك عنصرًا فيها. وسافر معها إلى بلدان كثيرة كالأردن ومصر وفرنسا وروسيا حيث عزف في سنّ مبكّرة في مسارح عالميّة عريقة وكبيرة كمسرح جرش ودار الأوبرا المصريّة ونال عديد الأوسمة مع زملائه.

وبعد حرب الخليج الأولى هاجر عمر مع عائلته إلى دولة المجر الّتي تتحدّر منها أمّه. ومنذ عام 1992 حتّى عام 1997، تاريخ وفاة والده، أقام هذا الثنائي حفلات عديدة في بلدان كثيرة عربيّة وأوروبيّة، وقد ساهمت هذه المرحلة في سطوع نجم عمر بشير مع والده الذي شهد له: "لا أحد بإمكانه أن يعزف مثل منير بشير".

بعد وفاة والده، كوّن عمر بشير (Omar Bashir Trio)، وهو ثلاثي متكوّن من عازف العود عمر وعازفي الغيتار المجريّيْن أندرياس وبالينت باتز (Andreas/Bálint Petz). وعمل عمر على إدخال الموسيقى الغربيّة، خاصّة الموسيقى الغجريّة منها، على الموسيقى العراقيّة الأصيلة وخلق روابط بينهما، حيث أنّه عاش مع الغجر المنتشرين في رومانيا والمجر وزياراته المتعدّدة لإسبانيا والهند.

لقد كان التحدّي الأكبر لعمر هو إعادة المجد لآلة العود وتبيين مدى شموليّتها وتصديرها إلى العالم كنموذج لآلة صمدت طيلة 5000 سنة، آلة هي مكوّن أساسي في الهويّة الثقافيّة لمئات الملايين من البشر. ولذلك، كثيرًا ما يقحم عمر آلة العود في اختبارات وتجارب خطيرة، تتّسم بالجرأة والجنون والعمق. فعزف بعوده موسيقى الغرب والشرق الأقصى لآسيا.

إنّ آلة العود هي محور كلّ أعمال عمر البشير، فالعود عنده هو أكبر من أن يكون آلة واحدة. وقد كسب عمر بشير الرهان، فبعض أعماله الموسيقيّة حقّق نجاحًا عالميًّا ساحقًا مثل مقطوعة (إلى أمّي) الّتي أهداها إلى كلّ الأمّهات في عالم تسوده الحروب والنزاعات.

لقد نال عمر بشير أكثر من جائزة دوليّة، وكرّمه متحف الآلات الموسيقيّة في ولاية أريزونا الأمريكيّة، بصنع عود طبق الأصل لعوده الخاصّ وعرضه للزوّار، إلى جانب الآلات الشخصيّة لفنّانين عالميّين كبار.

هذا هو عمر بشير، مزيج بين عبقريّيْن: عازف العود العراقي منير بشير وعازف الغيتار الإسباني باكو دي لوثيّا، مزيج بين موسيقات مختلفة وعوالم متعدّدة، إنّه نافذة من نوافذ العراق المفتوحة على العالم.

https://www.youtube.com/watch?v=-zLVkljuQwY

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

727 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع