ابراهيم الولي*
لعبة الأمم the Game of Nations
لعبة الأمم، أو إن شئت ألاعيب الأمم، فهكذا سميتها ومعذرة لمايلز كوبلاند Miles Copeland رجل المخابرات الأمريكية الذي سكَّ هذا العنوان على نظرية اللعبة Game Theory ، في كتابه الصادر 1970 وكنت قد استعرضته بإيجاز في الفصل 16 من كتابي ( اسقاطات السياسات الدولية على الشرق الأوسط 1916- 2014) في طبعته الثانية 2015.
• مقدمة:
لعبه الامم تقوم في تحليلها على قواعد لعبة رياضية تصلح للاستخدام في علوم الاقتصاد والاجتماع والرياضيات والسياسة ، وهذا مايهمنا في هذه الورقة.. فهي تقوم بالاساس على حساب الاحتمالات Probabilities بأن علاقات الدول في تعاملها مع بعضها تكون على أشكال أو درجات ثلاث ؛ صفرية أو لا صفرية أو مهلكة...وقد أٌدخل استخدامها في السياسة عام 1940 وان كانت قد ذكرت في كتابات العديد من المفكرين القدامى كأفلاطون وهوبز وروسو
و دودجسون ، وغيرهم من المحدثين، إنما كانت معالجتهم تقتصر على لعبة نظرية الاستنتاجات Game Theoretical Reasoning.
هذه اللعبة اما ان تكون صفرية Zero sum واما لا صفرية Non zero Sum واما كارثية..أي تلك التي تؤدي إلى حرب نووية لا قدر الله .
فاللعبة الصفرية تفترض ان طرفي اللعبة اللذين فهما ستراتيجية خصمهما مقابل ستراتيجيتهما قد وصلا الى معادلة ربح - خسارة ، أي أن يربح احدهما بقدر خسارة الاخر ، فالنتيجة Pay off تكون لصالح الأول مقابل خسارة الثاني.
واما اللاصفرية non zero sum فهي نوع من المساومة والتفاوض بين أطراف اللعبة ، فرادى او متعددين ، تكون النتيجة فيها متفاوتة فقد يكون الرابح فيها بنسبة 75% فيحصل الاخر على 25% وهكذا ، هذه المعادلة التي تتجنب الوقوع في الفشل او الحرب، فان كانت نتيجة هذة اللعبة مقبولة للطرفين،
قيل انها ايجابية Positive Sum Game وان كانت غير مرضية سميت سلبية Negative Sum Game ولعل الجدول التالي يرينا هذه الاحتمالات ومقارباتها .
0 0
100 0
50 50
0 100
واللجوء إلى هذا النوع من اللعبة انما يعني تجنب التشدد في أزمة بما قد يؤدي إلى حرب فهي سياسة ناعمة، أما الثالثة وهي اللعبة الكارثية التي إن وقعت فربما أدت إلى حرب نووية، لهذا فانك ترى اللعبة بين الشرق والغرب قائمة على الصفرية أي ربح - خسارة فإن اشتدت المجابهة حين يقع حيف واضح على أحد طرفيها، فتراهم يلجأون الى اللاصفرية بما فيها من مرونة، يكون مجال الربح والخسارة فيها بدرجات متفاوتة ، وهنا يبرز دور الدبلوماسية الحصيفة التي تدير اللعبة بفن المفاوضات.
لهذه اللعبة شروطها ، فهي تكون عادة بين طرفين او اكثر عاقلين مدركين لجوهر هذا التعامل لكل طرف ستراتيجيته التي يضعها مقابل ادراكه لستراتيجية الطرف العاقل الاخر.
وبالمناسبة فإن الستراتيجية تعني: التنظيم المنطقي للغايات والطرق والاهداف والوسائل التي يرسمها المخطط السياسي لبلده، وهي تعني الوصول إلى المستقبل السياسي البعيد الامد ، اما ان كان المقصود بها للامد القريب المنظور، فتلك تسمى تكتيك وليس ستراتيجية.
للعبة الامم قواعد عامة يفترض عقلانية اللاعبين Rational فهي تلزمهم بالبقاء فيها والاستمرار على ممارستها ومنعهم من الخروج منها.
وان يدرك اللاعب ان لا مجال لحسن النية في التصريح عن السياسة الخارجية للاعبين في دولهم. فقد يظهر المسؤول غير ما يٌبطن في مناورات قد توصله الى نتائج ارادها، كما أن اللعبة تقوم على تقاطع وتضارب في مصالح اللاعبين ، فكل يريد مصلحة بلاده ولو على حساب الطرف الآخر، ولا باس من اتباع الحيل والدهاء للوصول لغاياته حتى ولو بالتضليل والخداع وقد يصل الأمر بالطرف الاقوى ( كالدول الاستعمارية) الى تغيير اللاعبين بالقسر عندما يشعر ذلك القوي أن مبادراته سوف لن توصله الى مبتغاه. ولهذه الحالة امثلة تطبيقية حدثت في إفريقيا والشرق الاوسط وامريكا اللاتينية. حين ترى زعماء تلك الدول يتهاوون بسبب عدم رضوخهم لشروط اللعبة، وليس العراق ومصر وسوريا ببعيدين عن تلك الاحتمالات ، للأسف.
أدوات اللعبة:
جرت العادة على أن يكون المتفاعلون Interactors قد حددوا ستراتيجياتهم وقد درسوا ستراتيجات الطرف الاخر من اللعبة. لهذا الغرض لجأت بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على إنشاء وحدة في وزارة الخاجية تُعنى بدراسة أدق التفاصيل عن الزعماء والمؤثرين في السياسة من الطرف الآخر في عملية تسمى Simulation المحاكاة ومؤداها أن الدولة التي تدخل في اللعبة تحدد هويات لاعبي الطرف الآخر، فتعطي الأفراد معلومات مفصلة ودقيقة حول الآخرين، فمثلا عندما تعاملت الولايات المتحدة مع مصر أيام الرئيس عبدالناصر فقد كان في الوحدة تلك شخص إنكبَّ على دراسة أدق تفاصيل حياة الرئيس وآلاخرين من المؤثرين حوله.
دراسة الشخصيات هذه تستمر لفترة زمنية معقولة تمكّن الممثل من الإحاطة بجميع ما يتعلق بحياة الآخر الشخصية والرسمية والعائلية وإلى ما إلى ذلك، هذا أمر يتطلب إمكانات مادية وتقنية قد تكون صعبة على دولة متوسطة أو صغيرة عند اشتباكها مع آخرين في هذه اللعبة.
مركز اللعبة أو مركز التخطيط السياسي ( مركز لعبة السلم) يجمع من يمثل رؤساء الدول المختلفة ، فأنت ترى أن احدهم هو ديغول وإلى جانبه عبدالناصر والثالث أديناور والرابع ماكميلان، وهكذا يكون الأمر بحسب الظروف المحيطة بمركز اتخاذ الستراتيجيات اللازمة في وقتٍ معين. وأنا لا شك عندي بان دولا أخرى كثيرة، حتى شرق أوسطية منها، فضلا عن روسيا وبريطانيا وغيرهما من الدول الكبرى ، بل وحتى المتوسطة منها تلجأ إلى نفس الأسلوب في رسم ستراتيجياتها مقابل ستراتيجيات اللذين تدخل مهعم في اللعبة. على أن الاستثناء في هذا الحساب تكون هي العقائد السياسية والمعنويات للخصم والأديلوجيات، فتلك أمور تخرج عن مقدرة الممثلين على إحتسابها.
إذاً فإن لعبة الأمم إنما هي عبارة عن مواقف وسلوك تتبناه أمة ما لضمان تحقيق أهدافها القومية، إقتصادا او سياسة من خلال اللعبة سلماً ودون اللجوء إلى الحروب. وكل دولة لاعبة تدرك أن مصالح اللاعبين قد تتقاطع رغم ماقد يكون الطرفان حلفاء أو أصدقاء، فلا عبرة هنا لغير مصالح البلاد وحسب.
• أمثلة:
من أمثلة تفاعل دول في نطاق اللعبة بنوعيها الصفرية وغير الصفرية:
في شباط 1947 سلمت السفارة البريطانية بواشنطن إلى وزارة الخارجية الأمريكية، لوي هندرسون ، مذكرة تعرض عن ( عزم بريطانيا على إنهاء وصايتها التي دامت لما لايقل عن قرن من الزمان) على بعض أرجاء من العالم، إذ كانت بريطانيا تعاني وقتئذٍ من أزمة مالية فهي لا تتمكن من مواجهة المد الشيوعي في كل من تركيا واليونان، فهي بهذا تكون قد أعطت الضوء الأخضر لأمريكا لتصبح دولة ذات تأثير فاعل في شؤون العالم. وقد أظهرت هذه العملية وبينت بأن السوفيت سيكونون مصدر تهديد متزايد للسياسات العالمية ربما بأكثر من نفوذ ألمانيا النازية. فكانت المبادرة البريطانية صفرية أمام الولايات المتحدة ، خسارة للأولى وربحاً للثانية.
ولقد اكتلمت هذه الصورة بعد عشر سنين، نرى أن فرنسا وبريطانيا واسرائيل قد شنت عدوانا على مصر إثر تأمينها لقناة السويس، فكان العدوان الثلاثي الذي خذلته الولايات المتحدة برئيسها ايزنهاور الذي وبَخ كلاً من رؤساء و وزراء تلك الدول المعتدية قائلاً: أنه لم يُستشر للقيام بمثل هذه العملية، وهو ضد استخدام القوة، وأنه سيسعى لإنهاء الصراع سلمياًز وقد كان له ذلك حين قرر قرار مجلس الأمن في 2 نوفمبر 1967.إنما يهمني التركيز على أن هذا العدوان قد أطاح بانتوني ايدن الرئيس المحافظ البريطاني، وهنا يمكن القول بأن بريطانيا العظمى قد انسحبت من المسرح العالمي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. وليس هذا فحسب بل ان الأتحاد السوفياتي هدد بالتدخل عسكريا لطرد الغزاة، وبهذا يكون الإتحاد السوفياتي قد دخل كاملا في الشأن الدولي، فكان هذا الحدث قد أعاد التوازن بصيغة جديدة في العلاقات الدولية، إذ كانت حصيلة هذا العدوان صفرية على بريطانيا وفرنسا اللذين انسحبا من المسرح الدولي تاركين القيادة للولايات المتحدة كممثلة للغرب ولظهور الإتحاد السوفياتي كقوة عظمى منافسة، فكانت بداية الحرب الباردة بين الشرق والغرب التي كانت صفرية أول الأمر أي انها تميل إلى الغرب المنتصر على حساب الآخرين الأضعف نسبيا. على أن التوازن الدولي الجديد فرض العودة باللعبة إلى اللاصفرية وهي تعني الأخذ والرد بالتفاوض لتحاشي الوقوع في الخيار المهلك ، أعني الحرب النووية التي تكون صفرية للجميع وكارثية إن وقعت، و هذه هي صيغة العلاقات الدولية في الوقت الحاضر .
ومسألة صفرية أخرى، تمثلت في رفع الحكومة الأمريكية ميزانية تسلحها في آواخر ثمانينات القرن الماضي إلى نسبة تفوق بأضعاف ماكان بإمكان السوفيات مجاراته، فكان ذلك ضغطاً لم يتحمله الاتحاد السوفيتي حتى إنهار سنة 1991 وحل محله اتحاد روسيا الحالي. فكانت اللعبة صفرية لصالح أمريكا بقدرما هي خسارة لروسيا . والحرب العراقية الإيرانية التي امتدت من 1988 إلى 1989 كانت نهايتها تبدو وكأنها صفرية ، خسارة لإيران وربحاً للعراق ، لكن النتائج غير المباشرة لتلك الحرب كانت بعدئذٍ صفرية للجانبين اللذين ظل إقتصادهما يئن لزمنٍ جراء خسائر الحرب البشرية والمادية. وقد كان كيسنجر يقول عندما سئل عمن ترى بين المحاربين تتمنى أن يكسب أو ينتصر!. قال إنه يتمنى الخسارة لكليهما، أي أن يكون الناتج صفريا لإيران والعراق. أما عما حدث في بلادي العراق، فقد مُورست اللعبة عليه بجميع أوجهها في مواقف عدة. عملية دخول الكويت مثلاً كانت صفرية لطرفي اللعبة، فقد خسر العراق رجالا وسلاحا وسمعة دولية بقدر ما خسرت الكويت ماديا ونفسيا، أما عن دخول الأمريكان للعراق واللعب بمقدراته بغطرسة غير مدروسة نفذها من كان يؤمن بخرافة وجود يأجوج ومأجوج في بابل ويتنظر بمستشارته صاحبة الفوضى الخلاقة البائسة، قد جاءت نتائجها صفرية على المحتَل وعلى العراق : فلا العراق أفاد من الفوضى الخلاقة التي لم تخلق بل هدمت ماكان سليما ، ولم تستفد أمريكا من وراء العملية التي تعاني هي من تبعاتها حتى الآن، أقول هذا رغم اعتقادي بأن الساسة الأمريكان بعد أن شعروا بخطل ما فعلوا ، بدأوا يضفون على اللعبة الصفة اللاصفرية، أي انهم دخلوا في تفاوض مستمر يحمل في طياته كثيراً من المرونة التي لا تقطع حبل العلاقة بين الجانبين، فتكون نتيجتها تجنب الوقوع في حرب بين اللاعبين.
ذلك هو فهمي لنظرية لعبة الأمم التي لطالما لعبت أهم الأدوار على مسرح السياسة العالمية في الثمانين سنة المنصرمة. أضعها للقارئ العربي، إضافة لمعلوماته الوافرة حول هذه الممارسات التي تؤثر على حياتنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية في بلداننا ولم نكن سوى الطرف المفعول به غالبا، ربما لأننا لم ندرك أبعاد ومرامي هذه اللعبة بعد .والله من وراء القصد،،،
*سقير عراقي سابق
288 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع