الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
العراقيون والشاي.. الجزء الأول
يُعد الشاي (الچاي) من أشهر مشروبات العالم وأمتعها لأهل المزاج، وكلمة (شاي) أتت من الكلمة الفارسية (chây) (تشاي) أو (چای)، وتشير الموسوعة البريطانية إلى أن أصل الشاي هو بلاد الصين، ومنها انتشر تناوله في كثير من مناطق آسيا.
تعود قصة الشاي في أوروبا إلى القرن السابع عشر عندما أحضره الهولنديون في العام 1610م. وكان الشاي باهض الثمن ويُستخدم في طب الأعشاب، ثم تحوّل من دواءً إلى شراب يعتمده المُترفون، فانضم الشاي إلى مجموعة المشروبات الباهظة مع القهوة والشكولاتة.
ثم انتقل الشاي من هولندا إلى إنكلترا وألمانيا، ثم قام الإنجليز بتأسيس (شركة الهند الشرقية) التي أصبحت الرائدة في تجارة الشاي عالميا. وتحسنت صناعة الشاي وشهدت ازدهاراً مهماً مع مصنع الشاي الإنجليزي المعروف (توماس ليبتون) الذي تفنن في مزج أنواع الشاي وطرحه في الأسواق في علب موضبة جاهزة. ومن أوربا انتقل الشاي إلى بلدان الشرق الأوسط في مطلع القرن العشرين عن طريق الاستعمار.
دخل الچاي إلى العراق رسميا بعد الاحتلال البريطاني للعراق 1917-1918م، وكانت القهوة هي المشروب الشائع بين الناس، فعمد الإنكليز الى إتباع خطة ذكية لنشر شرب الچاي بين الناس، حيث كانوا يشترون الچاي المُستخدم (التلف) من الناس، فشجع ذلك الناس على الإقبال من شرب الچاي من أجل بيع (التلف)، ثم أصبح الشعب العراقي واحدا من أكثر شعوب العالم استخداما للچاي.
لقد أصبح شرب الچاي إحدى العادات الاجتماعية لأهل المزاج، ومن نتائج شيوع شرب الچاي في المجتمع العراقي انتشار الچايخانات (جمع چایخانة) والتي حلَّت محل (القهاوي) التي كانت تُقدم مشروب القهوة، ولعبت الچايخانات دورا مهما في التواصل الاجتماعي والمجالس الثقافية والسياسية. كما أصبحت هذه الچايخانات مُلتقى لأهل الصنف في المهن الشعبية، كما أصبحت مراكزا لاتقاء وتجمع الأحزاب السياسية.
الچاي في المجتمع العراقي:
للچاي خصوصية خاصة في المجتمع العراقي من شماله إلى جنوبه، حيث يُنظر إلى الچاي نظرة أشبه بالتّقديس. وعندما دخل الچاي إلى العراق، استورد العراقيون السًّكر من إقليم أستراخان Astrakhan في روسيا لاستعماله مع الچاي، ووجدوا هناك الأقداح الزجاجية الجميلة فجلبوها هي وأطباقاً صغيرة جميلة يوضع فيها (الإستكان) مع السًّكر، ثم جلبوا معها من نفس المكان (السماور) فاتخذه الأغنياء وسيلة لإعداد الچاي.
أما الطبقة الوسطى، فكانت تستعمل إناءين لإعداد الچاي: واحد لغلي الماء أبقوا الفظ الإنكليزيّ Kettle كما هو (الكتلي) وتعني الغلاّية، والثاني لتحضير الچاي وهو من الفخار الصينيّ، ويطلقون عليه (قوري). ويرجّح أن هذه الكلمة فارسية الأصل وتعني ( البجعة)، بينما يَطلق العرب خارج العراق جميعهم لفظتين عربيّتين على ذلك الإناء إحداهما: إبريق الشاي والثانية برّاد الشّاي.
ولفرط حبّ العراقيين للچاي احتفظوا باسمه وأسماء أدواته الأجنبيّة كلّها كما وردت لهم من غير تعريب احتراماً له. فهم يلفظون كلمة (چای) كالصّينين بالجيم لا بالشّين كبقيّة العرب، و (السّماور) بلفظه الروسي، و (الكتلي) بلفظه الإنكليزي، و (القوري) بلفظه الصيني، و (القند) بلفظه الفارسي، و (الخاشوقة) بلفظها الفارسي أو التركي. لكنّهم احتفظوا بلفظة عربيّة واحدة من أدوات الچاي مداهنة كي لا يغضبوا لغتهم الأم (اللغة العربيّة) وهي لفظة الصّحن الذي يوضع فيه (الإستكان)، فأبقوها عربيّة: صحن.
يصنع الشاي (يُخدّر) في العراق باستخدام إبريق خاص يسمى (قوري)، وتكون عملية التخدير إما على الفحم، أو على الخشب، أو على نار هادئة، وأجوده المُخدَّر على الفحم. أما شربه فيكون بقدح صغير يُسمى (استكان)، ويشربه الذكور والإناث؛ الكبار والصغار صباحا وعصرا ومساءا، كما ويُقدَّم للضيوف وعند الزيارات العائلية والمناسبات.
يتم إعداد الچاي في العراق بطريقة فريدة متميزة، فهم لا يقدّمونه "فطيراً" خفيفاً كالسّوريين واللبنانيّين وأهل الخليج، ولا عميق اللون يؤكسده الغليّ الطويل كالمصريّين والسودانيّين، بل وسطاً رائقاً صافياً مخمّراً بتركه بضع دقائق قريباً من نار هادئة جداً؛ عند ذاك يكون للچاي طعم رائق ولون زاهي شهي ورائحة مُنعشة جذابة. وربما يكون إعداد الشعب المغربيّ للچاي على طريقة مماثلة للعراقيّين لكنّهم لا يتركونه مدّة كافية كي يتخدر بعيداً عن النّار.
تشتهر المدن العراقية وأسواقها بصُناع الچاي (الچايجية) المتميزون والذين يتفوقون على النساء في صنعه، ولكل چايجي خلطته الخاصة من أنواع الچاي والتي قد تزيد عن خمسة أنواع مختلفة الچاي. وتجدر الملاحظة إلى أن الجهات المعنية باستيراد الچاي تحرص منذ القِدم على أن يكون من أفخر المناشئ تماشيا مع رغبات وأذواق الناس التي تعشق شرب الچاي؛ مثل الچاي السيلاني الذي كان يصلنا في الماضي الجميل (شاي أبو العبد) الشهير وهو معبئ بصناديق خشبية ويوجد داخل الصندوق مع الچاي هدية هي عبارة عن فيل أسود مصنوع من مادة خاصة.
ومن الطريف أن نذكر أن هناك أسماء شعبية خاصة في العراق للچای حسب لونه وتركيز كل من الچاي والسًّكر فيه: فهناك (الچاي الزنكين) و (الچاي الخفيف) و (الچاي الخفيف الحلو). ومن العادات العراقية الشائعة: عند زيارة شخص لصديق بهدف قضاء حاجة له يمتنع الضيف عن شرب الچاي أو يتأخر عن شربه، فإن قال المُضيِّف (اشرب) فهذا يعني أن الطلب مجاب مهما كان (حتى وإن لم يبح الضيف للمُضيِّف به سلفاً)!.
الفتيات والچاي:
هناك من يقول: ( الچاي للرجال والبيبسي والكوكا للنساء) على مقولة ليلى نظمى: (ماشربش الشاي.. أشرب أزوزة أنا)، وهذا (تمييز عنصري) على مستوى السوائل والمشروبات.
تقول إحدى الفتيات البغداديات: "بيني وبين الچاي قصة عشق كبيرة، أحبّه هو ورائحته وطريقة تحضيره وحتى معدّاته وأدواته. المشكلة أن الچاي إلى حد ما مشروب رجالي بحت، فنادرا ما تجد فتاة تقف على ناصية الشارع لتشربه. طلبتُ مرة استكان الچاي من الچاچي فحاصرتني نظرات البعض وعلّق أحدهم قائلا: هاي أول مرة أشوف وِحدة تطلب چای بالشارع! فأستغربتُ من تعليقه كثيرا ولم أجب لحرجي البالغ، لكن الحمد لله أن (الچاچي) كان نصيراً للمرأة وساندني بقوة وقال: "المسالة طبيعية.. الكثير من الفتيات والنساء يشربن الچاي مني"، ولم يقبل مني أخذ الفلوس (وعزمني) على چای مهيّل مُعتبر.. ولا أروع!
بالإستكان يُكرم المرء او يُهان:
أحياننا يدخل الچاي في الاختبارات عند خطوبة الفتيات في المجتمع العراقي: بعض العوائل يقدمون للعريس چای حلو جدا ويراقبون ردود أفعاله لاختبار هل أن العريس به مرض السًّكري!. كما أن بعض الخطّابات يطلبون من الفتاة أن تصنع لهم الچاي لكي يختبرون شطارتها. حدثني أحد أقربائي من كبار السن قائلا (عندما تزوجتُ أوصتني حماتي بابنتها خيرا، وكان من ضمن وصيتها أن ابنتي تحب الچاي)!
الشاي في عيون الشعراء:
لقد عانى العراقيون من شحة الچاي خلال الحرب العالمية الثانية (1939–1945م) بسبب انقطاع الطرق العالمية، وعزّ الشاي وفُقد من الأسواق وأنقطع استيراده بسب ظروف الحرب. وقام المحتكرون ببيعه بالسوق السوداء، كما قام بعض الچايچية بإعادة استخدام التلف بعد تحميصه في صاج به سخمان أسود ليكتسب اللون الأسود المعتاد!
وفي تلك الأيام العصيبة غني المطرب الريفي حضيري أبو عزيز أغنية (عمي يابو التموين) والتي تقول كلماتها:
دمضي العريضة... أمضي العريضة
عيني يا أبو التموين... أمضي العريضة
الحلوة علي الچاي... طاحت مريضة
https://www.youtube.com/watch?v=kK4sHKL7fxo
لقد وصف الشاعر الموصليّ ذو النون شهاب الشاي بمقولة رائعة: (الشّاي خمر الكادحين). وكان أحد شيوخ منطقة الفرات الأوسط يحب الشّاي وعندما سُئل لماذا تحبه قال: أحبّه لأن لونه أحمر جميل، ولأن مذاقه حلو جميل، ولأنّه موضوع في إناء جميل. وهناك لوحة للرسام نزار سليم أخو جواد سليم عنوانها (شرب الشاي)، كما ورد الشاي في قصيدة لنزار قباني في رثاء زوجته العراقية بلقيس، إذ يسألها (أين چایك العراقي المهيّل؟).
ويُعبّر الشاعر أحمد الصافي النجفي (1897-1977) عن تعلُّق العراقيين بشرب الشاي من خلال الأبيات الآتية التي يتغزل بها بالشاي:
لئن كان غيري بالمدامة مولعاً... فقد ولعتْ نفسي بشاي معطرِ
إذا صُبَّ في كأس الزجاج حسبته... مذاب عقيق صب في كأس جوهرِ
به أحتسي شهداً وراحاً وسكراً... وأنشق منه عبق مسك وعنبرِ
يغيب شعور المرء في أكؤس الطلا... ويصحو بكأس الشاي عقل المفكرِ
كأني إذا ما أسفر الصبح ميتٌ... وإن أرتشف كأساً من الشاي احشرِ
وإبريقه فوق السماور مرتقٍ... كمثل خطيب جالس فوق منبرِ
يفوه ولكن من عقيقٍ مقطرٍ... وينطق لكن في كلامٍ مصوّرِ
512 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع