الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
المولد النبوي الشريف ومفهوم الصدفة
يُعد مفهوم الصدفة Chance من المفاهيم الأساسية التي ترتكز عليها نظرية الاحتمالات Probability Theory، وتُعد هذه النظرية الركيزة الأساسية للعلوم الإحصائية والعديد من العلوم المنبثقة منها، وقد لعب هذا المفهوم دورا فاعلا في التطور الحضاري للبشرية في شتى المجالات.
إن الصدفة ( أو المصادفة)، وحسب قاموس Webster، تعني "عَرَضيَّة حدوث حدث معين بدون ترتيب أو تخطيط مُسبق". وأما العشوائيَّة Randomness فهي خاصية موضوعية Objective Property، فإن ما يبدو عشوائيا لمُلاحظ معين قد لا يكون عشوائيا لملاحظ آخر. كما أن عشوائيَّة ظاهرة معينة لا تعني إطلاقا أنها ظاهرة تُسيّرها الظروف بالمصادفة، بل أن ظروفا معينة قد تؤثر فيها بحيث لا نستطيع التحكّم فيها بشكل تام %100.
لقد تعامل الإنسان منذ فجر التاريخ مع مفهوم العشوائيَّة من خلال ما يُعرف بالسحب العشوائي أو الاقتراع، كما استخدمت الشعوب القديمة الاقتراع لتحديد المصير. فقد استخدم الصينيون الاقتراع منذ قرابة 3000 سنة مضت. وناقش الفلاسفة اليونانيين العشوائيَّة، ولكن في أشكال غير كمية، واُستخدمت العشوائيَّة أيضا في ديمقراطية أثينا. كما وجدت إشارات متكررة في العهد القديم (التوراة) إلى اختيار القُرعة ( والذي يسمى حاليا بالاختيار العشوائي). وأما في القرآن الكريم فقد ورد اختيار القُرعة في موضعين، في سورتي آل عمران والصافات:
قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران: 44)؛ أي يقترعون من أجل كفالة مريم.
وقال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات: 139-144)؛ ساهم أي عملوا قرعة بشكل أسهم، وكان وقوع القرعة على يونس عليه السلام ليس بالمصادفة؛ بل بمشيئة الله تعالى.
لقد أثير جدل كثير حول التناقض الظاهر بين العشوائيَّة والدين، إذ إن جميع الأديان السماوية تؤكد عدم وجود شيء عشوائي حدث بالمصادفة. ويعتقد مارتن لوثر Martin Luther، وهو أحد رجال الدين المسيحي؛ وعلى أساس فهمه للكتاب المقدس: بعدم وجود شيء عشوائي. وفي رأيه، فإن (الإرادة الحرة) والعشوائيَّة المطلقة مُحدَدين بدقة لدرجة أنه قد تكون حتى السلوكيات مُرتبة ومنظمة وليست عشوائيَّة، وهذه النقطة أكدها علم النفس السلوكي.
أما دونالد نث Donald Knuth، وهو من أكبر علماء الحاسوب في جامعة ستانفورد الأمريكية وأحد المشاهير في مجال علم المحاكاة (Simulation توليد الأعداد العشوائيَّة) فيقول: " أن العشوائيَّة قد تكون لغرض السماح (للإرادة الحرة) لدرجة معينة". ومن خلال فهمه لحوسبة الكم Quantum Computing والتشابك Entanglement يستنتج نث: "أن الله تعالى يمارس سيطرة حركية Dynamic Control على العالم من دون أي انتهاك لقوانين الفيزياء، مما يوحي أن ما قد يبدو أنه عشوائي للبشر قد لا يكون في حقيقته عشوائيا".
مصادفات رافقت فخر الكائنات (ص) من الولادة وحتى الوفاة:
وُلد مُحمَّد عليه الصلاة والسلام فجرَ يوم الاثنين الثَّاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل في دار عقيل بن أبي طالب، والموافق شهرِ نيسان/أبريل لعام 571م.
لقد حضي المولود المبارك بخصوصيات ما كان لها أن تحدث بالصدفة:
- اسمه مُحمَّد: وقد جاء على صيغة المبالغة من الحمد، ومعناه: المحمود الخصال والمثني عليه.
- اسم أبوه (عبد الله): وهو خير الأسماء كلها، فكان (مُحمَّد بن عبد الله) تأكيدا على عبوديته إلى الله تعالى.
- اسم أمه (آمنة بنت وهب): اسمها من الأمن والأمان، واسم ابيها (وهب) معناه: مَنَح هِبة وأَعْطى بِلا عِوَض.
- اسم قابِلَتُه (الشِّفاء): وهي الشِّفاء أم عبد الرحمن بن عوف، ويعني اسمها (البُرْءُ من المرض).
- اسم مرضعتُه (حليمة): وهي حليمة السعدية، ويعني اسمها (مُتَسَامِحَةٌ وعَاقِلَةٌ).
لقد رافقت حياة مُحمَّد (عليه الصلاة والسلام) العديد من الأمور والتي لا يُعقل أنها حدثت كلها بالصدفة:
- لقد كان يوم مولده في العشرين من شهر أبريل عام 572م، وهذا الشهر الميلادي هو أول شهر ربيعي كامل، فوافق ربيع مولده القمري فصل الربيع، حيث ولد النبي يوم الاثنين 12 من شهر ربيع الأول، وقت طلوع الفجر، في عام الفيل، في السنة الثالثة والخمسين قبل الهجرة النبوية الشريفة. وقد جاء عن قيس بن مخرمة (رضي الله عنه) أنه قال: (وُلِدْتُ أنا والنَّبيُّ عامَ الفيلِ).
وعام الفيل هو العام الذي حاول أبرهة الحبشي حاكم اليمن هدم الكعبة ليجبر العرب وقريش على الذهاب إلى كنيسة القليس التي بناها وزينها في اليمن. وفي ذلك العام أوصل الله تعالى رسالة للبشرية جمعاء مفادها (إن للبيت ربّ يحميه).
- لقد صادف يوم مولده ويوم وفاته في يوم الاثنين الموافق للثاني عشر من شهر ربيع الأول، لقوله (عليه الصلاة والسلام) لما سُئل عن صيام يوم الاثنين: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ).
إن الأمر الذي يدعو إلى العجب التوافق بين يومي وتاريخي الولادة والوفاة، وهي مسألة جديرة بأن نقف عندها برهة.
حسب قوانين نظرية الاحتمالات Probability Theory، وتحت فرضية الصدفة، فإن احتمالية أن تكون ولادة شخص معين يوم الأثنين هي 1/7، واحتمالية أن تكون ولادة شخص معين في شهر ربيع الأول هي 12/1. وحسب (قانون ضرب الاحتمالات) تكون احتمالية ولادة شخص معين في يوم اثنين وشهر ربيع الأول .1/84=(1/7)×(1/12)
وبالطريقة نفسها نجد أن احتمالية وفاة شخص معين في يوم اثنين وشهر ربيع الأول .1/84
وتحت فرضية استقلالية يوم وتاريخ الولادة عن يوم وتاريخ الوفاة، وحسب (قانون ضرب الاحتمالات)، تكون احتمالية ولادة ووفاة شخص معين في يوم اثنين من شهر ربيع الأول هي.1/7056=(1/84)×(1/84) وهذه الاحتمالية ضعيفة جدا تكاد تحدث لشخص واحد من بين كل 7057 شخص!
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ ... يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ
لَمْ يُساوُوك في عُلاكَ وَقَدْ حا ... لَ سناً مِنك دونَهم وسَناءُ
تتباهَى بِكَ العصورُ وَتَسْمو ... بِكَ علْياءٌ بعدَها علياءُ
عبد المطلب وولده عبد الله:
كان عَبدُ المُطَّلِب بنُ هَاشِم (480-579م) سيدا لقريش. وقد ورد في (البداية والنهاية) أنه بينما كان عبد المطلب نائماً سمع صوتا في المنام يطلب منه حفر زمزم (عند قرية النمل عند نقرةِ الغراب الأعصم).
فلمّا أصبح أخذ ابنه الحارث ومعوله، وذهب فوجد قرية النمل بين وثنين من أوثان قريش في الموقع الذي تَنحر فيه قريش القرابين. ثم جاء غرابٍ أعصم وأخذ ينقر عند المكان، فعلم أنّه أمر من الله تعالى بحفر زمزم.
اجتمعت عليه قريش وقالوا: لا نتركك تحفر مكان النحر، ولكنّ عبد المطلب كان عازماً على ذلك، وقال لابنه الحارث: (ذُد عني، فوالله لأمضين لِما أُمرت به).
لقد شاء الله تعالى أن تُعاد قصة ذبح إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام بسيناريو جديد، وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أنا ابن الذبيحين).
يقول مفتي مصر الدكتور (علي جمعة): " حلف عبد المطلب حين خاصمته قريش وهو يحفر بئر زمزم بشأنها، أنه لئن ولد له عشرة أولاد ليذبحن أحدهم. فلما أتموا العشرة ضرب القداح (أي أجرى القرعة) فخرجت على ولده الأصغر عبد اللَّه، فلما أراد ذبحه أطاعه ابنه ومنعته قريش، واجتمع نساء عبد المطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه اعذر فيما بينك وبين الله عز وجل في قتل ابنك، قال: وكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: اعمد على تلك السوائم (القرعة)، التي لك في الحرم (الكعبة) فاضرب بالقداح (القرعة) على ابنك وعلى الإبل واعط ربك حتى يرضى.
فضرب بالسهام فخرج سهم عبد الله، فما زال يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل. فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبد المطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثا؛ كل ذلك يخرج السهم على الإبل. فلما كان في الثالثة اجتذب اخوة عبد الله أخوهم من تحت رجلي عبد المطلب، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض وأقبلوا يرفعونه ويُقبّلونه ويمسحون عنه التراب، وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل ولا يمنع أحد منها".
لقد كان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه. وكانت (آمنة بنت وهب) تعيش في كنف عمّها وهيب بن عبد مناف، فذهب إليه عبد المطلب بابنه عبد الله فخطبها له، ثم تزوجها، وأقام عندها ثلاثة أيام.
لقد عاش عبد الله بن عبد المطّلب خمسة وعشرين سنة فقط، وتوفي ومُحمَّد جنين في بطن أمه، ودفن في يثرب. أما آمنة بنت وهب فقد مات عنها زوجها عبد الله ومُحمَّد ما يزال جنيناً في بطنها. ثم توفيت ومُحمَّد ابن ست سنوات ودُفنت في موضع بين مكة ويثرب.
فكأن المشيئة الإلهية أرادت من عبد الله أن يوضع بذرة خير البشرية عليه الصلاة والسلام في جوف زوجته السيدة آمنة التي حملته ثم وضعته واحتضنته ثم تركته للعناية الالهية لترعاه وتُأدبه، قال عليه الصلاة والسلام (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي).
هل يُعقل أن تكون كل هذه الأحداث قد حدثت بالصدفة؟ ولد عليه الصلاة والسلام في عامٍ حمى الله فيه بيته العتيق من أصحاب الفيل، وتُعاد قصة جده الذبيح على أبيه فينجيه الله تعالى، ويغادر ابوه الحياة بعد الزواج مباشرة، وتغادر أمه الحياة بعد انتهاء مدة حضانتها الأساسية لطفلها؟!
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ ... كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني ... وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
لقد تساءل قبل ثلاثة قرون الفيلسوفُ الفرنسيّ فولتير عن الشخصية العالمية الأكثر تأثيراً في التاريخ، فجاء الجواب عام 1978 من عالم الفلك والرياضيات الإنكليزي الدكتور مايكل هارت في كتابه الموسوم:
The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History (المائة الأعظم تأثيرا في التاريخ)
مستنداً إلى مقولة لفولتير: (إنّ الذي يتحكّمُ في عقولنا من خلال قوّة الحق، لا الذي يستعبدُها من خلال العنف، هو مَن ندينُ له بتعظيمِنا). وتضمن الكتاب قائمة بأهمّ وأعظم شخصيّات العالم، وكان رسول الإسلام النبيّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم في موقع الصدارة، يليه إسحاق نيوتن، ثم النبيّ عيسى المسيح عليه السلام.
يقول المؤلف الايرلندي الشهير جورج برنارد شو George :Bernard Shaw "لقد درستُ الإسلام وحياة نبيه (صلى الله عليه وسلم) بعناية فائقة، وتوصلتُ إلى استنتاج مفاده أن مُحمَّد (صلى الله عليه وسلم) كان بالفعل رجلاً عظيماً ومنقذاً ومحسناً للبشرية التي كانت حتى ذلك الحين تتلوى تحت وطأة ألم مؤلم".
وأما أمير الأدب الفرنسي فيكتور هوغو Victor Hugo فقد أُعجبَ بالإسلام وتعاليمه ورسالته العالمية في عدالته وسماحته، وقد حظي سيدنا مُحمَّد عليه الصلاة والسلام بمكانة كبيرة عنده. ويقال أنه أشهر إسلامه في مدينة تلمسان الجزائرية، ولكنه أخفى الأمر لظروف واعتبارات تتعلق بحياته ومصيره. وقد كتب فيكتور هوغو عدة قصائد للثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما قاله فيه من الشِّعر (ما ترجمته):
على الثرى يجلس والثياب قد يخيطها بخلقه الرفيع
وربما حجارة يحزمها ببطنه من وخزات الجوع
فوق صوم الناس كان صومه وهو ليس ناهض الضلوع
ثلاثة بعد الستين انقضت وجاءته حمى الموت والتوديع
يكرر القرآن مثلما أنتهى إليه محفوظا من الينبوع
وقام عند الباب ملك الموت في المساء يرنو للهدى المتبوع
وحينها أضاء النبي مثلما أضاء يوم المولد البديع
قال له الله العظيم طالب لقياك عند عرشه المرفوع
قال نعم ورعشة طافت به في جسمه المتعب والضلوع
وعندما أرسل نفسا كان قد مات النبي رحمة الجميع
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ... وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
وكل عام وأنتم والعراق والأمة الإسلامية بخير.
https://www.youtube.com/watch?v=VfxtcvkVXd8
885 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع