د.عدنان هاشم
ميكيافيللي والميكيافيلية العربية
يتردد بأقلام كثير الكتاب العرب لفظ الميكيافيلية وربطها بالعبارة الشهيرة " الغاية تبرر الوسيلة " التي لم ترد في كتابات ميكيافيللي ، ولكن القليل من مفكرينا درسوا فلسفته السياسية بصورة عميقة وأثرها في الفكر السياسي المعاصر . فمن هو ميكيافيللي وما هي أشهر كتبه ، وما هي خلاصة فلسفته، وهل في تراثنا ما يشابه هذه الفلسفة السياسية .
نشأ ميكيافيللي في مدينة فلورنسة الإيطالية ، مهد عصر النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر، وتلقى تعليمه الكنسي والفلسفي تحت إشراف أبيه . وكانت تحكم فلورنسة العائلة الشهيرة مديچي Medici والتي كانت راعية العلوم والفنون في ذلك العصر الذي نبغ فيه رافائيل ومايكل أنجيلو ، ولكن ذلك العصر كان عصر سيادة المدن المتنافسة مثل البندقية وجنوه وفلورنسة التي تحكمها العوائل الإيطالية النبيلة ، وكانت هذه المدن في تنافس وعدوان مستمرللحصول على الثروة والنفوذ ، وكثرت بينها المؤامرات والدسائس والغدر ونقض العهود . كان من ثمار ذلك العهد أن عائلة مديچی طردت من فلورنسة ، واتهم ميكيافيللي بالتواطؤ لطرد هذه العائلة التي عادت لتحكم فلورنسة بعد حين ، وعلى أثرها ألقي القبض على ميكيافيللي وعذب وسجن ثم نفي إلى بلد قريب ، وهناك ألف كتابه الشهير " الأمير The Prince " سنة 1512 الذي ضمنه آراءه السياسية ، وكيف يجب أن يحكم الأمير البلاد بنجاح ويبقى مهيمنا عليها .
تأثر ميكيافيللي بشخصيتين متناقضتين تماما ، معاصرتين له في فلورنسة ، ولكن كان لهما الأثر في تكوين فلسفته السياسية. كان أحدهما سافونورولا Savonorola، وكان رجلا مؤمنا مخلصا لدينه ولتعاليم المسيح مبغضا للفساد وكان يريد أن يديرالأمور حسب تعاليم المسيح ، فلم ترق تلك السياسة النقية لرجال ذلك العصر ومنهم رجال الدين ، فتآمروا عليه وصلبوه مع اثنين من أتباعه ثم أحرقوا جثثهم في ميدان فلورنسة العام .
و كان قيصر بورجيا Cesare Borgiaالشخصية الأخرى التي كانت على النقيض تماما ، وقد تأثر ميكيافيللي به كثيرا واعتبره مثالا يحتذى للحاكم . فقد كان بورجيا ابناً غير شرعي للبابا ألكساندر السادس ، فرغم أن بورجيا كان رجل دين إلا أنه كان يؤمن حقا بأن الغاية تبرر الوسيلة ، فلم يتوان عن القتل لتحقيق أغراضه ، فقد اتهم بقتل أخيه ، وقد قتل صهره لأنه كان منافسا له ، وقد وسع سلطانه على حساب الولايات الأخرى طمعا في المال وبسط النفوذ ، ولم يتوان عن توظيف النساء لأغراضه الخاصة ، ومنها العلاقات غير الشرعية ( والأبن على سر أبيه ) ، فقد كان بورجيا سياسيا ناجحا في نظر ميكيافيللي وكان قدوته في تأليف كتاب الأمير ، عكس سافونورولا الذي كان يسير على خطى المسيح فكان في نظر ميكيافيللي سياسيا فاشلا.
بعد هذه الخلاصة عن حياة ميكيافيللي، نأتي إلى فلسفته السياسية في كتابه الأمير ، والذي يعتبرمن أكثر الكتب تأثيرا على الفكر الإنساني السياسي الحديث . وأسارع القول أن هذا استعراض لأهم أفكاره وليس بالضرورة الموافقة عليها . إن ميكيافيللي يستقرئ السياسة كما هي في الواقع وليس من منطلق الفكر المجرد كما أرادها أفلاطون في جمهوريته ولا الفارابي في مدينته الفاضلة .
• في نظر ميكيافيللي يجب أن نتعامل مع الناس كما هم لا كما يجب أن يكونوا، فمن يرد تغييرالناس ففي الأغلب تذهب جهوده سدى ، وقد ينتهي المطاف إلى القتل والدمار.
• هدف الحاكم يجب أن يكون الثراء والأستقرار، ولو بالمكر والقوة ببسط النفوذ على الغير ، وإذا أراد الحاكم القضاء على منافس له ، فلتكن ضربته من القوة بحيث تكون القاضية عليه أو على نفوذه فيكون خصمه غير قادر على الرد والأنتقام .
• ليس هناك سياسي صادق وأمين ولن يكون ، ولكن ينبغي على الحاكم أن يدع تنفيذ الأعمال القذرة بيد بعض أتباعه ، حتى إذا رأى تذمرا من شعبه ، أنزل أشد العقاب بالمنفذين ، فيظهر أمام شعبه بمظهرالحاكم العادل في تنفيذ العقوبة بالمجرمين .
• وميكافيللي لا يشجع الحاكم على التمسك بالدين على الحقيقة ، ويفضل أن يتخلى الحاكم عن القيم الدينية ، ولكن من الضروري للحاكم أن يتظاهر باحترام الدين والقيام ببعض فرائضه أمام الجموع المؤمنة ليكسب قلوبها .
• والحاكم يجب أن يكون كالأسد ليخيف أعداءه من الذئاب ، ولكن الأسد قد يقع في الفخ ، لذا فعليه أن يتخلق بأخلاق الثعلب الماكر ليحذر من الوقوع في الفخ الذي ينصبه له أعداؤه . وعليه أن يكون مثل السنتور Centaur ، ذلك الكائن الخرافي في أساطير اليونان المتكون من نصف إنسان ونصف حيوان Half Beast ، فكل إنسان يحمل في دخيلة نفسه غريزة الوحش التواقة إلى القتل والإفتراس ، فلا ضير على الحاكم أبداً من المكر والخداع والغدر والقتل ، ولكن عليه أن يعطي جرعا صغيرة من فوائد ملموسة لمواطنيه وفي أزمان متفاوتة ليضمن رضاهم و سكوتهم ، وعليه أن يؤمن حاجيات مواطنيه ولو على حساب طبقة النبلاء الصغيرة ، لأن غضب العامة كالزلزال من الصعب أن يقهر.
• إذا كان تحقيق الهدف بالمكر والخداع ، فمن العبث تحقيقه عن طريق القوة.
• من الأفضل بكثير أن يكون الحاكم مخيفا يرهبه رعاياه فيطيعوه رهبة على أن يكون محبوبا فيتجرأون على عصيانه.
• ليس من الحكمة تحاشي كل الأخطار، بل خوض بعض الأخطار بالمخاطرة المحسوبة .
• من يريد استعمال الخداع كسلاح فهناك دائما من يمكن خداعهم .
• الغوغاء تبهرهم المظاهر، وإن أكثر العالم يتكون من الغوغاء، فلا يجب على الحاكم أن يهمل أثر المظاهر الجذابة التي يجب عليه إظهارها لكسب رعاع الناس .
• من يريد أن يكون صالحا على الدوام ، لا بد أن يصل إلى نهايته المدمرة بين أكثر الناس الذين يغلب عليه طابع الشر .
من يقرأ كتاب الأمير لأول مرة لا بد أن يشعر بالقرف والإشمئزاز من أفكاره التي يمكن أن توصف بالشر ، ولكن مع بعض التأمل ، نرى أن فكر ميكيافيللي كان وليد عصره المليء بالدسائس والمؤامرات ، وأخلاق العالم هي هي لم تتغير منذ وجد الأنسان على وجه الأرض ، فالظلم هو الظلم والقتل هو القتل والدسائس هي الدسائس ، وسوف تظل هذه الأخلاق كذلك إلى أن يختفي الإنسان من على وجه الأرض ، فنفهم على ضوء الميكيافيلية أحابيل السياسة ونفهم لماذا قتل بنو إسرائيل أنبياءهم تباعا وحاولوا قتل المسيح رغم صلاح الأنبياء وقدسيتهم ، ، ولماذا استشهد علي والحسين وأطاع المسلمون معاوية ويزيد ، ولماذا قتل بنو أمية الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز ، ونفهم في تاريخنا المعاصر لماذا غلب السياسي الماكر تشرشل ببراعته الميكيافيلية هتلر وموسيليني .
في الحلقة الثانية أبحث إن شاء الله الميكيافيلية العربية باستقراء التاريخ العربي الإسلامي.
عدنان هاشم
لندن اللملكة المتحدة
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1734 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع