ابراهيم الولي
مفهوم الفوضى الخلافة
مقدمة.
الفوضى الخلاقة التي تعرضت لها ،كظاهرة سياسية او نظرية ، مرتين ؛ الأولى ،حين افردت لها الفصل الثامن عشر من كتابي* اسقاطات السياسات الدولية على الشرق الأوسط خلال مائة سنة 1916-2014 ) تحدثت فيه عن ماهية الظاهرة ، نشأتها ، و تاريخها و فلاسفتها من هيجل الي كونداليسا رايز .والثانية جاءت في احدى مقالاتي المنشورة بمجلة الكاردينيا بعنوان ( الفوضى الخلاقة والدولة المخطوفة ) خلصت فيها الى ان بلدي العراق قد خطفت الفوضى الخلاقة دولته.ا
اما الآن, وقد حملني الاضطراب الواضح في العلاقات الدولية شرقاً وغرباً, فقد وجدت ان تطبيق الفوضى الخلاقة لم يعد مقتصراًعلى العراق ،رغم انه كان ومازال اخصب رقعة ارض لها, بل لعله تعدى ذلك ليغطي منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا, بل قل كل آسيا واوروبا والأمريكتين.
عن المفاهيم-------- ،اذن, فالفوضى الخلاقة، في رأيي لم تعد نظرية بل هي مفهوم يصار الى ادراكه بعملية عقلية ترسم حدود هذه الظاهرة المفاهيمية Conceptualize فتختزنها الذاكرة للتطبيق.
والمفهومConcept هو مااصطلح عليه فلاسفة السياسة والاجتماع, بانه كلمة او مصطلح او فكرة عامة ترمز الى شيء Thing موجود وكائن مجرد, ويُعير بها بكلمات او بجملة قصيرة, أوحتى بكلمة واحدة, فهي اسم علم او اسم شيء محدد بالذات, فمثلاً عندما نقول ( كلب) فنحن نعني كلباً معيناً. نعرفه حساً وعياناً , وفرق بين ان نقول كلبٌ كفكرة عامة في اذهاننا, فالكلمة هنا تشير الىفكرة عن الكلب كنوع ، انواعه ، طباعه ، خلقته و ما الى ذلك ،اي اننا نكون قد شكلنا في عقلنا عملية مفاهيمية عن هذا الحيوان .وكذلك الامر منطبق على العديد من الظواهر, ولا اريد الاستفاضة بهذه المشكلة الفلسفية** فهي تشير إلى أنماط من السلوك وليس لحوادث أو حقائق واضحة.
ذلك هو ان المفهوم اما ان يكون معيارياً Normative واما وضعياَ او وصفياً Discriptive
، والفرق بينهما هو ان الأول يتعلق بالمفاهيم المحمّلة بالقيم والمعبرة عنها ، كالحرية و الحقوق, والعدالة, والمساواة والتسامح وما الى ذلك . اما الثاني, فإنما يشير الى مفاهيم هي حقائق ووقائع, كالسلطة والقوة والنظام والقانون, فالفرق بين الأثنين هو الفرق بين القيم والحقائق .
والمفاهيم السياسية هي الأدوات و اللبنة التي نستطيع بها ان نفكر او ننقد او نجادل او نحلل. اخلص مما تقدم الى حقيقة كون الفوضى الخلاقة كما هي في فكرتا ،عبارة عن مفهوم وصفي او وضعي فهي ليست مفعمة بالقيم الاخلاقية التي تحملها اختها المفاهيم المعيارية.
الفوَضى الخلاقة
نشأ مفهوم الفوضى الخلاقة وترعرع في فكر فلاسفة سياسيين منذ هيجل في فلسفته المثالية ،التي تعني ان الأشياء الماديه ليست ما نحسه لانها ذات طبيعة ذاتية لا يمكن ادراكها حسياً,وان ليس هناك شيْ دائم, فكل شيْ يمر بمراحل متطورة ،وان هذا التناقض Phenominal contradictionهو جوهرالمظاهر كافة, وان الحياة اذا ماقاربت على الأنهيار فإن اعادة تنظيمها يجب ان يتم باللجوء الى بعض درجات العنف.يأتي بعد ذلك ليو ستراوس الرب الروحي للمحافظين الجدد, القائل بالكذبة النبيلة لتحقيق الاهداف الستراتيجية, ثم كرستل مؤسس مشروع القرن الامريكي الجديد1921 وبعده تروتسكي الداعي الى الثورة الدائمة,و بعد هؤلاء يكون المستشرق برنارد لويس ، المتطرف و المعادي علناً بعداوه للعرب والمسلمين عامة.
وفي ايامناجاء صمؤيل هثنكتون صاحب( صدام الحضارات) وفرانسس فوكوياما صاحب( نهاية التاريخ والإنسان الأخير).
لقد أثر جميع هؤلاء بدرجة او بأخرى في اذهان المخططين السياسيين الامريكان, خصوصاً منهم اليمين المحافظ،وهنا يحين دور الآنسة كونداليزا رايس وزيرة خارجية ومستشارة الامن القومي لعدة رؤساء امريكان, التي تلقفت اعمال اولئك الفلاسفة لتطبقها كمنهج عمل سياسي على بعض الدول التي وجدت صعوبة في التعامل معها بالدبلوماسية الناعمة المعمول بها، فأخذت بالدبلوماسية الخشنة في التعامل مع الشعوب ،وتلك هي الفوضى الخلاقة بحسب تسميتها هي لها, وقلت ان مفهوم الفوضى الخلاقة قد اختير له هذا االعنوان بمهارة, فهي تعني في صدرها كلمة تغطي معنىً سلبياً لموقف أخلاقي, اما عجزها فيدل على السمو والخُلق، فهو ايجابي , لهذا جاءت التسمية تجمع متناقضين, وان كانت حصيلتها تجارب تجرى على شعوب بمنهج تجربة وخطأ, وهي كما نرى حقيقتها في العراق وفي غيره تعمل, ربما عن عمد على تطبيق سياسات صفرية تترك الخراب وراؤها أينما حلت, وتبقي الفوضى دون الجانب الخلاق المفترض منها.
لا أراني بحاجة لتكرار تعداد الخسائر البشرية والمادية التي حلت بالعراق , منذ احتلال الامريكان لبلادي 2003 فقد كانت نتيجة تطبيق هذه الفوضى اللاخلاقه , تمزيق النسيج الأجتماعي العراقي بتبصر ليس له نظير؛ فقد سيّدت الفساد وسعّرت المذهبية لحد التقاتل بين الاخوة في الدين , وخربت نفوس معظم من تداولوا على الحكم في ظل هذه الفوضى العارمة.
وهنا لابد لي ان اعرّج على امتداد تطبيقات هذه الفوضى على كل من سوريا ولبنان واليمن, هذا في شبه الجزيرة العربية , اما في افريقيا فقد عبثت بليبيا وماتزال , وكذلك الامر مع السودان والصومال وبدرجة اخف في مصر وتونس والجزائر.
ففي لبنان واليمن وسوريا والعراق, اعطت الفوضى الخلاقة للجارة ايران اليد الطولي لتعتمد المذهبية منهج عمل لتدخل في هذه الدول باغفال واضح ومعلن للحدود الدولية المتعارف عليها, وهي ،أي ايران تعتمد في تمددها هذا بتجاهل بل و بافراغ لسيادة تلك الدول من محتواها السياسي والاجتماعي من الداخل ، كي تثير حرباً ناعمة تقودها بالوكالة بواسطة مواطنين يخلصون لها ،ولو على حساب مصالح اوطانهم , ففي سوريا ارتضت الفوضى الخلاقة لنظم حكم همها الابقاء على كرسي الحكم، فكان الهدف استعداء طرف مسلم على طرف مسلم آخر كان يمثل اغلبية السوريين, وهاهي سوريا التي تتشدق بسيادة يخترقها كل يوم ايرانيون واتراك وامريكان وروس, فهل بعد تواجد هذا الخليط من معنى للسيادة ! فان عبرتم الحدود الى لبنان،فستجدون فئة اعتمدت المذهبية والولاء المطلق لأيران على حساب مصالح الشعب اللبناني الذي خيمت الفوضى الخلاقة على كل زاوية من زواياه , فزادت فيه نسبة الفقر ، واختل ميزان العدالة ، وتفشي الفساد في الطبقة الحاكمة حتى لا تدري الى أين نتجه بوصلة الادعاء بالوطنية و بالديمقراطية .
واذا ما عرّجنا على اليمن ،الذي كان سعيداً يوماً ما،لنرى يد ايران هي المحرك الأساس والمغذي لسطوة الحوثيين الذين يُمَسّكون بتلابيب التاريخ كي يعود الى الوراء الى حكم الأئمة الذي شهدتُ آخر فصوله بنفسي ،عندما مثلت بلدي العراق في اليمن, 1962-1964 حين كان المتفائلون يرجون خيراً من قيام النظام الجمهوري احتى بدأت الفوضى الخلاقة، كمفهوم وتطبيق بقضمه شيئاً فشيئاً, فكان مانرى اليوم من فقر وتشرد وظلم وحصار مدن بعلة المذهبية التي تخيم على اليمن حالياً،ولست بمستبعد وجود تناغم بين الأمريكان و الايرانيون في تصميم وتنفيذ هذه الفوضى الخلاقة على اليمن لماله من شواطئ وجزر ومضيق باب المندب، فضلاً عن الثروة المعدنية التي يزخر بهااليمن , ولكنها انما تستثمر بطرق متخلفة بقدر ماتسمح به اشتراطات واحكام الفوضى الخلاقة.
هذا عن الفوضى الخلاقة في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا ,اما عما يجري هذه الايام من حرب في اكرانيا, طرفها الآخر الأتحاد الروسي, فلا بأس من تكرار ما قلت في كتبي ان الأمريكان بهدي من الفيلسوف برجنسكي يوجهون جُل اهتمامهم على منطقة يوروآسيا, التي تعني بالدرجة الأساس ممتلكات الأتحاد السوفياتي السابق بإمتداد من مضيق بيرنغ شرقا ، لغاية جبال الكروات الاوربية غرباً وبما في ذلك بحر الشمال القطبي الستراتيجي , اما الروس، فإن الرئيس بوتين مستغرق في افكار الفيلسوف دوغن ،الذي يدعو بحماس الى احياء جميع مافقدت روسيا من اقاليم بعد 1991 وقد يكون في ذهنه قيصر يحقق هذه الاماني فذلك هو الرئيس بوتين ،وهو يجاهر بهذه الدعوة , من هذا المدخل سنرى كيف تمثل الفوضى الخلاقة في الأمم وهنا تاتي اوكرانيا ومايجري فيها الآن خير مثال لذلك
شيء من التاريخ
وهكذا بدأت الفوضى الخلاقة تفعّل مخططاتها في اكرانيا منذ زمن، إذ عندما انهار الاتحاد السوفياتي في 1991 ،قدم الرئيس الامريكي جورج بوش
الى غورباشوف عهداً بان لا تتقدم قوات الناتو الى الشرق من برلين و لو بمتر واحد تجاه روسيا ، و ليس هذا فحسب ، بل اقترح بوش ايضا قيام شراكة من اجل السلام Partnership for peace , و كان المقصود منها الاستغناء عن الحلفين المتضادين او تجميدهما ؛ الناتو الغربي ، و حلف وارسو الشرقي ، و للتاريخ ، فان الرئيس كلنتون هو الاخر كان متحمسا فيما بعد لهذه الشراكة ، و لكن شيئا من هذه المبادرة لم يتحقق في النهاية سوى عن حل معاهدة وارسو فحسب دون المساس بالناتو الاخرى .
ومنذ ذلك الحين ، بدات الولايات المتحدة ، والناتو ، بالطبع ،بالتدخل السافر في اكرانيا بهدف تهديد روسيا الاتحادية من ضلعها الجنوبي الغربي الذي يؤلمها ، و هنا يبرز جورج بوش الابن ليدعو اكرانيا في 2008 للانضمام الى الناتو علانية، الامر الذي فاجأ و ازعج فرنسا و دولاً اوربية اخرى ، و في 2021 تكررت الدعوة ذاتها ، و هنا قصمت القشة ظهر البعير ، بالنسبة للرئيس بوتين الذي نفد صبره ، و هو في وضع نفسي يرسمه في خاطرته ، في رأيي، امران :
اولهما مؤتمر ميونخ 1938 حين اجتمع تشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا، و معه قادة من فرنسا و ايطاليا ، مع هتلر لوقف تهديده بدخول النمسا و جيكوسلوفاكيا ( اقليم السوديت ) بذريعة تحدثهما الالمانية ، و لقد سمي المؤتمرون للمصالحة Appeasement فكسب
هتلر من هذه المصالحة ؛ السماح له بدخول اقليم السوديت ، ، لكن هتلر لم يكتفِ بهذا اذ دخل بولندا بعدئذ، و هي التي كانت تحت ضمانة الحلفاء ، بذريعة عائدية ميناء دانزغ البولندي له ،الامر الذي دفع الحلفاء الى اعلان الحرب على المانيا في 1939 ، و هكذا بدأت الحرب العالمية الثانية .
و ثانيهما مهاجمة المانيا الاتحاد السوفياتي في 1941 بدخول اكثر من اربعة ملايين جندي الماني الاراضي السوفياتية في عملية سميت Barbarossa
هذان الحدثان شكلا هاجسا لدى بوتين بعدم الثقة في الوعود الاتية من الغرب ، و الخشية من تواجد عدو محتمل بين روسيا و بينه سهول منفتحة ، كما هي الحال مع اكرانيا ، و مقارنة بالسهل الاعظم الذي يربط المانيا و بولندة
ببلاده .
في تعليق مهم لعالم اللغويات الامريكي نعوم شومسكي عندماسئل عن الحرب الاوكرانية ، قال [ ان واشنطن ستواصل الحرب في اوكرانيا حتى مقتل اخر اوكراني )
اعندما تولى بوتين، الرجل المؤمن بحتميةاستعادة الجمهوريات السوفياتية السابقة، الاسيوية و الاوربية منها ، لاحظ ان الناتو و الغرب عموما و عدوا في 1992 بعدم تقدم قواتهم شرقا لما بعد برلين نحو الحدود الروسية ، لكن ما جرى بعد ذلك هو ان الغرب سعى و افلح بجر العديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة الى صف الغرب ، بل ولعضوية بعضها في حلف الاطلسي ، جرى ذلك منذ 1992 ،وقد دأب بوتين على تنبيه الغرب الى ضرورة رسم اتفاقيات امن تعطي بلاده شيئاً من الطمأنينة ، فلم يجد منه اذنا صاغية ، حتى لقد استمر الناتو بقضم تلك الجمهوريات الواحدة بعد الاخرى فكاد ان يحكم الطوق على روسيا خصوصا من الغرب ،رومانيا و بلغاريا وسلوفاكيا و المجر و بولندة و لتوانيا واستونيا ولاتفيا وبقي عليه جر الباقيات اليه ، و منها الآن فنلنده والسويد للحلف كما فاعل مع أوكرانيا وجورجيا وأرمينيا و مولدوفيا وغيرها , وهنا دق جرس الخطرفي موسكو التي شعرت بان اوكرانيا بالذات خط احمر اكثر من غيرها , خطورة على بيته وعلى الامن القومي لبلاده فكان ان بدأ بتنفيذ ما خطط له ،ومؤداه دفع قوات الناتو بعيداً عن حدود بلاده الغربية, واول ذلك يكون في ارغام اوكرانيا على الكف عن مطالبتها بعضوية الناتو,اي ان تكون دولة محايدة, ومنزوعة السلاح, خصوصاً النووي منه, ولا بأس في عضويتها في الاتحاد الاوروبي لانه ليس عسكرياً, وان توقف تغلغل النازيين في صفوف قواتها, تلكم التي تجاهر بحمل علامة السواستكا النازية على اكتافها علناً, وان تعترف بجمهورية القرم التي ضمها بوتين الى بلاده عام 2014,جدير بالذكران شبه جزيرة القرم كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي لغاية 1954 حين تبرع خروشوف الاوكراني الاصل ، و كان في حالة سكر كعادته ، بالتبرع بالقرم لاكرانيا ، على ان مجلس السوفيات الاعلى اعلن في 1992 بطلان هذا الامر ، و فوق هذا فقد صادق بوتين, هذا العام على الاعتراف بجمهوريتين انفصلتا عن الجانب الشرقي الاوكراني في منطقة (دنباس) الستراتيجية الواقعة على بحر آزوف ، وهي مصدر الفحم الحجري لروسيا, هاتان الجمهوريتان الجديدتان هما (لوغانسك) و(دونيستك) بذريعة ان سكانهما يتحدثون الروسية ولهذا انفصلتا عن اوكرانيا.
يتكون الاتحاد الروسي من 22 جمهورية و 85 كيان فدرالي و 2 وحدة ادارية ،منها اقليم كالينينغراد (كوتنبرغ سابقا ) و هو عبارة عن شبه جزيرة تطل على البلطيق في وجه اوربا بين بولندة و لتوانيا ، مما يجعلها منطقة صدع خطرة , على ان جمهوريات القرم واقليم دنباس لم يُعترف بها المجتمع الدولي بعد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 ذلك الحدث الجلل كان قد أخلّ بميزان القوى في اوروبا، وكانت لوقعه ارتدادات دولية على مستوى الكرة الارضية ,ان الاسباب المباشرة لهذا السقوط هي في الاساس مسعى الولايات المتحدة الامريكية للأنفراد في المساحة الدولية، وهو امر تسعى لتحقيقه كلما امكنها ذلك , المهم في الامر ان الولايات المتحدة بدأت تحتضن الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي السابق, فكان اهتمامها مركز على اوكرانيا منذ 1994 اذ ادخلت في البلاد اصلاحات اقتصادية واجتماعية، وطبقت الفوضى الخلاقة على تلك البلاد بالتدخل في شؤونها وخياراتها،فكان اصبع المخطط الأمريكي للفوضى الخلاقة متواجد في كل مناحي حياة الاوكرانيين و قد تداول على الرئاسة خمسة رؤساء اوكرانيون منذ ذلك التاريخ ،الى ان وجدت الفوضى الخلاقة في شاب فنان من يصلح لإدارة هذه الفوضى, فكان ان نصب الرئيس السادس لأوكرانيا (فولوديمير زيلنسكي) في 20-5-2019 .
هنا استمر تطبيق الفوضى الخلاقة التي تهدف فيما تهدف الى زعزعة روسيا الاتحادية باغراءزيلنسكي على التقدم لنيل عضوية الناتو وكذا الامر مع الاتحاد الاوروبي, وبدا الغرب يقدم كل المغريات للعهد الأوكراني الجديد مستغلا حداثة سن الرئيس نضجاً وسياسياً والذي ولد سنة 1978 , 44 سنة وهو يهودي رغم ان 84% من الاوكرانيين هم مسيحيون ،ارثودكس او كاثوليك ، فأغدقوا عليه الاموال والوعود بالمساعدة في حال تعرض حكمه لأي اذى , ولقد صدّق الشاب بتلك الوعود , وهاهي اوكرانيا تعاني اليوم من ثقل التغلغل الروسي غير المتكافئ بأي شكل من اشكال الامكانات البشرية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية, وهاهو الجيوبولتك يميل الى صالح الاتحاد الروسي في لجم تطلعات الناتو للإقتراب من حدود روسيا يوماً بعد آخر , ويظل الغرب يتخبط في محاولات لعلها تصحح ما افرزت الفوضى الخلاقة منذ 2014 في اوكرانيا, فتلك هي وفود رؤساء الدول الاوروبية , المانيا وفرنسا وايطاليا ورومانيا.
وكان قبلهم رئيس الوزراء البريطاني ، الذي استقال من منصبه اليوم 6 تموز ، و لا يخامرني شك في كون هذا الحدث هو ، من بين امور اخرى ،من ارتدادات هذه الحرب ،كذلك جاءت نائبة الرئيس الامريكي في زيارات لكييف لنفس الهدف ،ويظل ليفنسكي يصيح اين الغرب ! مطالبا بفرض حصار جوي مع تشديد للعقوبات باكثر على موسكو , ويأتيه الجواب المحبط لتوقعاته , بأن المشكلة ستظل محصورة بين كييف وموسكو , فليس من المعقول الدخول في تحد جدي كهذا مع موسكو التي تكشرعن انيابها بين حين وآخر بعرض ترساناتها النووية.
ان ما ماي يجري في اوكرانيا الان هو نموذج Paradigm يتطابق مع ماجرى في العراق , والى حد ما مع سوريا ولبنان واليمن .
فالمخطط الغربي يلجا الى مفهوم الفوضى الخلاقة التي يختزنها في ذاكرته السياسية ليطبقها في اوكرانيا , وربما في غيرها , باسلوب التجربة والخطأ, وكانت الآنسة كونداليزا رايس قد كشفت , ولم تُنشِئ الفوضى الخلاقة كمفهوم سبَّب اختراقاً سلبياً للنظام العالمي ولسلطات المجتمع الدولي متمثلاً بالامم المتحدة .
دليل آخر اسوقه على اسقاطات الفوضى الخلاقة على اكرانيا, هو ان فلاسفة الغرب السياسيين بدأوا يشعرون بخطل هذا المفهوم , فان قيام اوروبا والولايات المتحدة بإغراق المساعدات المادية والعسكرية على اكرانيا لدليل على محاولة التخفيف من الواقع السلبي لفوضاهم الخلاقة ولشعورهم بالذنب الذي سبب للاوكرانيين احباطاً واضحاً و خسائر فادحة, فها هو كسنجر يرى ان على الاوكرانيين التفاوض مع الروس وربما التنازل عن قطعة ارض هنا او هناك للوصول الى حل ،الامر الذي اغضب ليفنسكي. كما ان الرئيس الفرنسي ماكرون كرر لعدة مرات القول بان على كييف ان تدخل المفاوضات مع موسكو وهو مستعد للتدخل مع بوتين اذا لزم الامر . واذا كان الحصار الشديد الذي يفرضه الغرب على موسكو, خصوصاً ما يتعلق منه بوقف استيراد الطاقة , فان المتحمس لهذا هو الجانب الامريكي , ربما بداعي اكتفاءه الذاتي من النفط والغاز, لكن الامر ليس كذلك بالنسبة لاوروبا فما زالت .بعض دولها مترددة بتنفيذ هذه المقاطعة التي تضر باقتصادها ايما ضرر , وللطاقة الروسية ممثلة في خطوط غازها الثلاثة, واحد يمر من خلال اوكرانيا والاثنين الباقيين يمران من اعلى نقطة في شمال غرب روسيا ماراً بقعر بحر البلطيق فينفذ إلى المانيا كلها، ومنها الى قلب اوروبا , لا يفوتني هنا ذكر حقيقة مؤداها ،ان الولايات المتحدة ودول اوروبية اخرى كانت وماتزال غير راضية عن اعتماد الدول الاوروبية ,
وبالاخص المانيا على الطاقة الروسية التي ترى فيها تغلغلا روسيا ناعما في مجتمع الاتحاد الاوربي وهو ربما كان خط احمر بالنسبة لامريكا الراعية الاساس للناتو وقدراته المالية والعسكرية .
و من يدري فقد يكون من الستراتيجيات العظمى للولايات المتحدة
اضعاف المانيا الى جانب تفكيك الاتحاد الروسي المنافس الرئيس لهيمنة القطب الواحد حاليا .
عن بعض مصادر قوة الاتحاد الروسي
بصرف النظر عن ذكر القوة العسكريةالمتمثلة باكبر خزين للرؤس النووية ، و بتعداد جيش ضخم و تسلح حديث جوا و بحرا . و قدراته الاقتصادية الهائلة سواء كان ذلك في الطاقة، نفطا و غازا ، و يملك اكتفاء ذاتيا لما يملك من خزين ضخم من الحبوب و النباتات الزيتية ، و مع هذا فان للروس تحالفات مميزة في مقدمتها عضويتهم في اتحاد الاقتصادات الوطنية الناشئة
BRICS الذي يضم روسيا والصين و الهند و حنوب افريقيا و البرازيل ،و قد يتوسع هذا الاتحاد ليشمل ايران والارجنتين ،هذه المنظمة،التي حددت اهدافها في نشر السلام و التنمية في نطاقها و في ما عداه ،انما هي عملاق قادم على الساحة الدولية بما تحتل من ربع يابسة الكرة الارضية جغرافيا ، و تحمل على ظهرها نصف سكان كوكبنا (3،6 بليون نسمة ديموغرافيا ) و باقتصاد ومعدل ناتج اجمالي يكاد يفوق معدل انتاج الدول السبع ؛الولايات المتحدة ، و كندا، و بريطانيا ، وفرنسا ، والمانيا، و ايطاليا، واليابان . وغير هذا، فهناك تالف لخمس دول متشاطذة علي بحر قزوين، و هي ، روسيا و ايران و كازاخستان و اذربايجان و تركمانستان فتلك قوة اقتصادية يحسب لها .
خاتمة:
هكذا رأيت ماتفعل الفوضى الخلاقة، كمفهوم في حياة الشعوب , ففي جميع حالات تطبيقها , بغير ارادة المتضرر منها ،تترك في مرحلة نهائية فوضى لابد لمن يرتكبها ان يعترف يوماً ما بالذنب حتى وان حاول اصلاح ماتركت ورائها من اضرار , اقول هذا بامل ان يتنبه القوم لهذه الممارسة ومفاهيمها , والله من وراء القصد.
*سفير عراقي سابق.
300 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع