الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الثاني
لقد اشتهرت مدينة الموصل بمدارس القرآن الكريم الكثيرة، وقد درس المُلا عثمان العلوم العربية والدينية على يد علماء عصره وأفاضل بلده؛ ومنهم الشيخ عمر الأربيلي والشيخ صالح أفندي الخطيب والشيخ عبد الله الفيضي الخضري وغيرهم من علماء الموصل وشيوخها آنذاك.
وتعمق المُلا عثمان في دراسة الدين، وتعلم علم التجويد والأقراء على أيدي كبار علماء الموصل وقُرائها، وارتدى زي رجال الدين، وهو الزي الذي لازمه ولم يتركه طيلة حياته.
كما تعلّمَ اللغتين الفارسية والتركية فضلا عن لغته الأم العربية. وكان، رغم نشأته الدينيّة، قادراً على العبور برشاقة بين العالمين الدينيّ والدنيويّ.
لقد أرسله الشيخ (عبد الله رفعت العُمري)؛ الذي كان يشغل موقع مدير بلدية الموصل؛ إلى تركيا للدراسة عند أحد معارفه هناك والمدعو (أنور متولي) الذي علّمه أصول القراءات والمقامات.
كما تعلّم الموصلِيّ على يد شيخ أزمير الشيخ مصطفى أفندي. وسافر إلى مصر، وفي العام 1895 ذهب إلى شيخ قُراء مصر العلّامة يوسف عجور إمام الشافعية في جامع السيد البدوي بطنطا ونال منه الإجازة في القراءات.
لقد تعرّف المُلا عثمان في استانبول بالشيخ الصوفي الحلبي أبو الهدى الصيّادي (1849-1909م)، والذي كان يحظى بمنزلة الكبيرة عند السلطان عبد الحميد ويحضر مجلسه.
واستطاع الموصلِيّ من الوصول إلى السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918) الذي أعجب به وقربه منه، وجعله المقرئ الخاص به. وتوطدت علاقة الموصلِيّ بالسلطان حتى وصل به الأمر أنه قام بالغناء أمام حريم القصر، كما تطور الأمر ليقوم الموصلِيّ بمهام رسمية للسلطان عبد الحميد.
يعرف الأتراك المُلا عثمان بحافظ عثمان أفندي الموصلِيّ Musullu Hafiz Osman Efendi، و(الحافظ) هو لقب يُعطى لحفظة القرآن الكريم. وقد أقام المُلا عثمان في إسطنبول في زيارته الأولى ثماني سنين بين عامي 1887م و 1895م، نال خلالها حظوة السلطان لفخامة صوته وحسن تلاوته، فعيّنه السلطان شيخا لقُراء جامع آيا صوفيا في العاصمة إسطنبول.
ويروي محمّد نظمي أوزالب في كتابه (تاريخ الموسيقى التركيّة) (2000) أنّ جامع آيا صوفيا كان يمتلئ عن آخره بالمصلّين القادمين للاستماع لتلاوة المُلا عثمان المُميزة.
وزار المُلا عثمان مصر مرتين، وكانت رحلته الأولى إلى مصر بعد إكمال مهمته السياسية في ليبيا، وقد استغرقت خمس سنوات (1895- 1900م).
فبعد أن توطدت علاقة الموصلِيّ مع السلطان عبد الحميد، كلفه السلطان بمهام سياسية. فقد طلب السلطان من ملك ليبيا محمد المهدي السنوسي (1844-1902) إرسال قوة من رجاله من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا عام 1877، إلا أنَّ السنوسي امتنع عن تنفيذ الطلب، مما جعل السلطان يرسل المُلا عثمان لمعرفة المقاصد السياسية للسنوسي، فأكرمه السنوسي أجل إكرام ونجح الموصلِيّ في مهمته.
وبعد إكمال الموصلِيّ مهمته في ليبيا سافر إلى مصر بعد أن استأذن السلطان، فوجدها تعج بالأدباء والموسيقيين. وقام بإقامة جلسات لتدريس الألحان والموشحات في القاهرة، والتقى الموصلِيّ في القاهرة بكلٌّ من الموسيقيين عبده الحامولي ومحمد كامل الخلعي الذين درسوا على يديه فنون الموشحات، وقد أدخل إلى مصر نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما.
كما قام الموصلِيّ بإدخال المقام العراقي مثل، المقام المنصوري الموصلِيّ في الغناء التركي، ولا يزال هذا الطراز يسمى في تركيا بطراز الحافظ عثمان الموصلِيّ.
وانضوى الموصلِيّ تحت عباءة المولوية التي أجازت الجمع بين التصوّف والموسيقى، وحرص على حضور جلسات الذكر الأسبوعية لأتباع المولوية والمقامة في حي السيوفية في القاهرة الذين أعجبوا بمواهبه، فأصبح الموصلِيّ قطبا من أقطابها وأخذ يرتدي بزتها حتى آخر حياته.
من جانب آخر فقد عمل الموصلِيّ في الصحافة وقام بإصدار مجلة (المعارف). كما طبع كتاب (سعادة الدارين) وهو مجموعة قصائد جميلة، وكتاب (الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان) والذي احتوى على قصائد مُخمَّسة، و (التوجع الأكبر في حادثة الأزهر). وطبع ديوان (الفاروقي) وأحبه المصريون وذاع اسمه وطبع عدة قصائد مخمسة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي العام 1900م طلب السلطان عبد الحميد المُلا عثمان في إسطنبول، ثم اختاره ليكون سفيرا له في الشام والحجاز للعمل على التفاف الجماهير حول الخلافة العثمانية، فاستقل باخرة متوجهة إلى بيروت سنة 1906، وأقام فيها ثلاثة أشهر.
وأثناء مكوثه في بيروت قام بتخميس قصيدة عبد الباقي العُمري الموسومة (الباقيات الصالحات) وأسماها (التخميس العبقري على بائية عبد الباقي العُمري)، كما خمّس قصيدة البوصيري الشهيرة (جاء المسيح من الإله رسولا)، وسماها (الهدية الحميدية الشامية على القصيدة اللامية في مدح خير البرية) ومطلعها:
سجعتْ بلابل صحفه وترنحتْ ... سكرى عن أوصاف طه أفصحتْ
ظلمات نكر الخصم مهما لوَّحتْ ... فالأرض من تحميدِ أحمد أصبحتْ
وبنوره عرضاً تضيء طولاً
وبعد أسفار عديدة في البلاد العربية عاد الموصلِيّ ثانية إلى استانبول ليبقى فيها ردحاً من الزمن ويعيش هو وعائلته الصغيرة فيها عيشة ناعمة. ولكن تغيرّ الجو السياسي في تركيا وظهور تيارات التجديد التي كانت تدعو لها جمعية الاتحاد والترقي وما رافق ذلك من اضطرابات انتهت بخلع السلطان عبد الحميد بانقلاب 27 أبريل 1909 جعلت المُلا عثمان يقرر السفر والرجوع إلى بلاده عن طريق الشام.
وفي الخامس والعشرين من حزيران عام ١٩١٣ وصل عثمان الموصلِيّ إلى بلدته الموصل فاستقبل فيها استقبالاً حافلاً ووجد الناس نشوى بأخباره وتوّاقين إلى رؤيته. وأراد أن يُنشئ في الموصل الطريقة المولوية التي هو من أقطابها، وجعل مسجد (شمس الدين) في شارع الفاروق مركزاً لها، وأخذ يستقدم بعض الفنانين لتشكيل أول فرقة موسيقية مولوية في هذه المدينة. إلاّ أنّ نشوب الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤قضى على هذا المشروع. وبقي الموصلِيّ في الموصل حتى سنة ١٩١٤ وقرر السفر إلى بغداد للإقامة النهائية فيها عند ابنه فتحي.
لقد كان من نتائج تنقلات المُلا عثمان في عدد من البلدان: العراق وتركيا ومصر وليبيا ولبنان والشام نقله المقامات من وإلى هذه البلدان.
قد أرسى الموصلِيّ قواعد الطريقة البغدادية في قراءة القرآن الكريم. ومن أشهر تلاميذه في الموصل محمد صالح الجوادي الذي تخرَّج عليه جيل من القُراء. وفي بغداد درَّس الموصلِيّ في جامعي الخفافين والمرادية، وأشهر من تتلمذوا على يديه عالم اللغة العربية الموسوعي محمد بهجة الأثري (1904-1996) الذي قال عن نفسه: (إنه درس عليه علم القراءات السبع في أوائل العام 1920).
وذكر الشاعر حافظ جميل (1908-1984) أنه درس القرآن الكريم على يد المُلا عثمان وصار يقرأ القرآن يوم الجمعة في الحضرة الكيلانية. كما كان الحاج محمود عبد الوهاب (1895-1970)، الذي صار من أشهر مقرئي القرآن الكريم في الإذاعة والتلفاز، قد درس القرآن وتخصص به على يد الموصلِيّ. وكذلك تتلمذ على يدي الموصلِيّ الحافظ مهدي العزاوي (1894-1959) وهو أحد أبرز أعلام القراء في تلاوة القرآن الكريم في العراق قارئا ومنشدا للموشحات والأذكار النبوية.
ومن الذين درسوا على يد الموصلِيّ المُلا عبد الفتاح معروف (1891-1989)، وهو قارئ قرآن وقارئ مقام عراقي شهير، وكان عالماً بالمقام العراقي ومدرسة في الاداء القرآني ورائداً من رواد المدرسة الإقرائية العراقية. ومن تلاميذ الموصلِيّ أيضا محمد وحيد الدين أحمد القادري والحاج عبد القادر عبد الرزاق بن صفر أغا وعبد الرزاق القبانچي والد مطرب العراق الأول محمد القبانچي (1904-1989).
تؤكد المصادر المصرية أنه خلال تواجد المُلا عثمان في مصر تتلمذ على يديه جمهرة من القُراء المصرين، ومن أشهرهم (إمام المنشدين) الشيخ على محمود (1880ـ1946) الذي، حاله كحال أستاذه المُلا عثمان، جمع السلطتين: إماما للمنشدين ومرجعا للملحنين. ومن أشهر تلاميذ الشيخ على محمود: إمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد الذي أكد أن أستاذه الشيخ علي محمود أخذ الموشحات التركية من المُلا عثمان والذي أدخلها إلى مصر.
ومن تلاميذ الموصلِيّ في مصر المقرئ محمد رفعت (1882-1950) والذي درس في القاهرة على يد الموصلِيّ. ويذكر الأديب والشاعر والنحوي العراقي الدكتور أحمد عبد الستار الجواري (1924-1988) أنه سمع المقرئ محمد رفعت نفسه يقول في مناسبات عدة: إنه درس على المُلا عثمان خلافا لمن أنكر ذلك. ومن يتأمل ويستمع إلى قراءة الشيخين يجد تشابها في الأسلوب والأداء ونبرة الصوت، وكلاهما يعتمد على مخاطبة الضمير والمشاعر من خلال التلاوة وكلاهما يتمتع بطبقة غليظة لها عذوبة تسري إلى النفوس وتحملها على التأثر والخشوع.
ويُعد الشيخ محمد رفعت (1882-1950) أحد أعظم قراء القرآن في القرن العشرين وهو صاحب أجمل وأعذب صوت قرأ آيات الذكر الحكيم. وقد لُقب محمد رفعت "قيثارة السماء " وكانت إذاعة لندن تفتح برامجها بتلاوة منه، كما كان يُلقب "بقارئ الملك" لأن الشيخ جمعته علاقة طيبة بالملك فاروق.
https://www.youtube.com/watch?v=J4yIuEXtCD8&t=61s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
538 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع