بقلم لهب عطاعبد الوهاب ، أقتصادي عراقي
سرعة تداول النقود :بين النظرية الاقتصادية و التطبيق العملي
هناك اوجه عديدة يمكننا النظر من خلالها الى دور النقود في الاقتصاد . و ان احد الاوجه المهمة في التحليل النقدي الحديث العلاقة بين الدخل النقدي و المعروض النقدي ، و هي العلاقة التي تعرف بسرعة تداول النقود .
ان هذه العلاقة بين الارصدة لبنقدية و التدفق الانفاقي ( او المدفوعات الكلية ) يمكن تعريفها و قياسها بطرق متعددة ، الا ان كلا من النظرية الاقتصادية و التجارب التطبيقية العملية توحيان بأن هذه العلاقة غير مستقرة عبر الزمن . اذ ان عرض النقد يمكن له ان يتغير بشكل كبير و محسوس ، في حين قد يبقى التدفق الانفاقي او حجم المدفوعات النقدية المرتبطة به دون اي تغيير ، و قد يحصل العكس كذلك .
ان التغيرات في سرعة التداول ذات أهمية كبيرة سواء تعلق الامر بالتحليل النظري أم بصانعي القرار الاقتصادي . كما ان التغييرات في معدلات سرعة تداول النقود ذات أهمية قصوى في رسم السياسات اللازمة لبلوغ مستويات الدخل الملائمة و المطلوبة ، شأنها في ذلك شأن التغييرات في النقود .
سرعة تداول النقود: مفاهيم عامة
ما انفك المنظرون الاقتصاديون يعالجون المفهوم المعروف بـ" سرعة تداول النقود " Velocity Of Circulation Of Money والمضامين المرتبطة بها منذ ما يقارب الثلاثمائة سنة و نيف ولذلك ما يبرره نظراً لأهمية المفهوم المذكور ، حيث ان تغيراً معطى في كمية النقود سيكون له تأثير كبير و متباين على كل من الاسعار و الدخول اعتماداً على السلوك العام لسرعة التداول .
ان وضع اليد على تعريف " جامع مانع " لهذا المفهوم هو من الصعوبة بمكان ،بيدا ان ما هو متفق عليه بشكل عام هو ان سرعة التداول ما هي " الا عبارة عن العلاقة بين نسبة التدفق النقدي خلال فترة زمنية الى الخزين النقدي في تلك الفترة .
الجدل النظري حول سلوك سرعة التداول :
تحتل سرعة التداول موقعاً متبانياً في النظريات النقدية . اذ في حين تمثل حجر الزاوية في النظرية الكمية التقليدية و القائمة على فرضية ثبات سرعة التداول ، نجد ان النظرية الكينزية ( نسبةً الىJohn Maynard Keynes 1883 – 1946 ) تتخذ منها موقفاً مغايراَ املتها ظروف الكساد الكبير و سلوك سرعة التداول المضطرب في الثلاثينات من القرن الماضي ، بحيث جعلت من سرعة تداول النقود معاملاً غير ثابت على الاطلاق ولا يمكن التكهن بسلوكه و من هنا يأتي اتخاذ المدرسة الكينزية نهجاً مغايراً في التحليل يعرف باسلوب الدخل – الانفاق .
الا ان النظرية الكمية أعيد انبعاثها من جديد على يد فريدمان ( نسبةً الى Milton Friedman 1912-2006 و الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 ) وزملائه في مدرسة شيكاغو و التي اصبحت تعرف بالنظرية الكمّية المعاصرة ، و اخذ يطلق على اتباعها النقوديين The Monetarist ، حيث احتلت سرعة تداول النقود من جديد القدح المعلى في التحليل و ان كان بشكل مغاير للنظرية الكمية ، فهم خلافاً للمنظرين الكميين لا يعاملونها باعتباره ثابتة عددياً ، بل جرت معاملتها باعتبارها دالة مستقرة لعدد محدود من المتغيرات ،ما يجعل من امكانية التنبوء بسلوكها من السهولة بمكان ، جاعلة من المعروض النقدي المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي برمته .
سرعة تداول النقود في الاقتصادات النامية :
تشترك البلدان النامية بمجموعة من السمات التي تنعكس بدورها على طبيعة الطلب على النقود فيها و ما سيتركه ذلك من اثر على سرعة تداول النقود في هذا لاقتصادات . ولغرض الوقوف على طبيعة سرعة التداول في البلدان النامية سنعرض لمايلي :
اولا : البناء المالي للتخلف
من اجل التعرف على البناء المالي للدول المتخلفة ، لا مناص من دراسة الهيكل المالي للاقتصادات النامية و المتمثل بركيزته الاساسية ، الاسواق النقدية ، لما لها تأثير مهم على طبيعة الطلب على النقود في هذه البلدان من حيث :
1. ضيق نطاق الاسواق النقدية و المالية :
تتميز الأسواق في البلدان النامية بالضيق و الذي يرجع الى قلّة التعامل بالأوراق التجارية ، و قلة ما يصدر من اذونات الخزينة ، واقتصار الاسواق المنظمة فيها اساساً على البنوك التجارية ، وكلها او معظمها مؤسسات اجنبية يتركز نشاطها عادة في تمويل التجارة الخارجية .
كذلك يلاحظ ان سوق رأس المال في معظم البلدان النامية تتضح فيه كل معالم السوق الضيقة ( محدودية البائعين و المشترين – مما يفيد انخفاض حجم المبادلات – غياب المتعاملين الذين يتحملون مخاطر تقلبات القيمة الرأسمالية للسندات ) .
و فيما يتعلق بالسوق الخاصة بالسندات الحكومية – و التي تمثل أوسع سوق في البلدان النامية ، يلاحظ ان أكثر من ( 80% ) من السندات القابلة للتداول في الاسواق يحوزها البنك المركزي و البنوك التجارية و شركات التأمين ، بالاضافة الى ذلك ، فأن اسعار السندات الحكومية يتم تدعيمها من جانب البنك المركزي من خلال عمليات السوق المفتوحة .
ويرجع ضيق الأسواق المالية في البلدان النامية الى عدم انتشار الشركات المساهمة ، و ضعف الوعي المالي للأفراد ، وقلة المؤسسات المالية التي تقوم بتجميع موارد الادخار القومي وتوظيفها في الاسهم و السندات و غيرها من ادوات الائتمان طويل الأجل ، وعدم توفر الاسواق التي تكفل الاوراق المالية وتهيئ لها درجة عالية من السيولة .
ويمكننا تفسير هذه الظاهرة – ضعف الأسواق المالية و النقدية – بحقيقة ان الاسواق المالية هي ظاهرة من ظواهر الاقتصادات الصناعية المتقدمة أكثر منها ظاهرة للاقطار النامية ، حيث تشير اغلب الشواهد المتوفرة الى انه كل ما زاد تقدم الاقتصاد زاد التعامل بالموجودات المالية .
الى جانب ذلك ، فأن نقص المعرفة الفنية بآلية الاسواق المالية واحتمال الخسارة فيها يجعل الافراد في هذه البلدان يعزفون عن التعامل بالموجودات المالية ويفضلون عليها الموجودات الطبيعية التي تكون حيازتها على الاغلب اقل خطورة و اضمن ربحاً و من ناحية اجتماعية فإن امتلاك موجودات طبيعية كالعقارات و الاراضي و السلع المعمرة يكون أكثر تأثيرا على مركز الفرد الاجتماعي من امتلاك الاوراق المالية في الاقتصادات النامية خلافاً لما هو سائد في الاقتصادات الصناعية المتقدمة .
2. الازدواجية أو الثنائية المالية ( Finacial Dualism )
ان من أهم الملامح الاساسية للبلدان النامية " ثنائيتها أو ازدواجيتها الاقتصادية " بمعنى تواجد و تعايش قطاع حديث " منقد " و قطاع تقليدي غير منقد داخل الاقتصاد المحلي . و يلاحظ ان القطاع الحديث او المنقد يشتمل بدوره على الاسواق النقدية المنظمة و الاسواق النقدية غير المنظمة ، و هذا الوضع يطلق عليه عادة تعبير " الازدواجية " او " الثنائية المالية " .
و تشمل السوق النقدية المنظمة عادة على البنك المركزي و المصاريف التجارية و المؤسسات المالية الأخرى مثل شركات التأمين .
و تعدد هذه السوق على درجة من النمو و التطور ، وعلى عكس الوضع في السوق غير المنظمة و التي تعد في حد ذاتها سوقاً غير متجانسة ، حيث تضم المرابين و التجار واصحاب المتاجر، الاصدقاء و الاقارب ، ملاك الاراضي ، و الذين يخرجون عن نطاق التحكم و الرقابة المباشرة للبنك المركزي .
3. مدى استخدام النقود وتقدم العادات المصرفية :
اذ يلعب ضعف الاعراف المصرفية Banking Habits المتأتي من حداثة النظم المصرفية و محدودية نشاطها في هذه الدول دوره في زيادة مقدار الطلب على العملة قياساً الى مقدار الطلب على الودائع الجارية و الى الحجم الكلي للطلب على النقود . أو بتعبير أخر ، فإنّخأخر اقتصادات البلدان النامية هي ذات نسبة نقدية منخفضة ، بمعنى ان نسبة عرض النقد الى الدخول القومية فيها هي منخفضة عموماً اذا ما قورنت بتلك النسب السائدة في الاقطار الاكثر تقدما ، كما ان العملة المتداولة فيها تؤلف حوالي ( 50% ) او يزيد من عرض النقد في حين تبلغ أقل من ذلك بكثير ( حوالي 25% ) في البلدان ذات الدخول المرتفعة نسبياَ ومن هنا ، فإنّ العملة المتداولة في البلدان النامية تحتل المركز الذي احتلته الودائع النقدية المصرفية في البلدان المتقدمة كوسائل دفع ومبادلة وكمستودع للقيم .
ان النظام المصرفي في اقتصاد ما ينمو عندما تتاصل العادة المصرفية او الوعي المصرفي في نفوس الافراد و عندما تنتشر المؤسسات المصرفية في شتى ربوع البلاد في الاقتصادات التي يوجد فيها قطاع خاص " وان ما يراد بالوعي المصرفي " هو زيادة ميل الافراد الى التعامل مع البنوك بفتح حسابات الجارية التي يستطيع الافراد السحب عليها بواسطة الشيكات ، والتي تعتبر أرصدة هذه الحسابات أحد المكونات الرئيسية من مكونات عرض النقد في الاقتصاد الوطني .
ولغرض الحكم على درجة النمو النظام المصرفي في أي بلد من البلدان يتم الاسترشاد غالباً بجملة مؤشرات رئيسية ترتبط فيما بينها أرتباطاً وثيقاً و التي يمكن اجمال اهمها كما يلي :
1. مقدار تغلغل العادة المصرفية في نفوس الافراد ومدى انتشار المؤسسات المصرفية في عموم البلاد .
2. مدى نمو وتوسع فعاليات المؤسسات المالية الوسطية ، وبشكل خاص المصارف الاختصاصية و التي تلعب دوراً مهما في توجيه الائتمان لبعض القطاعات الاقتصادية الرئيسة حينما تنحصر فعاليات المصارف التجارية في حدود الائتمان التجاري قصير الاجل .
3. مدى فاعلية وسائل البنك المركزي في توجيه الائتمان بمجموعه أو تفضيلاته .
مما تقّدم ، يتبين لنا ان الوعي المصرفي ( العادة المصرفية ) انما يتمثل في ارتفاع نسبة الودائع الجارية الى جملة أنواع النقود ، وفي ارتفاع المدفوعات التي تستخدم الشيكات بالقياس الى جملة المدفوعات النقدية ، و الذي يتوقف بدوره على عادات المجتمع الخاصة بتسوية المدفوعات ، و على اتنشار المؤسسات المصرفية فيها .
ولما كانت سرعة تداول النقود تتأثر الى حد ما " بالترتيبات المالية " في اقتصاد ما ، و في الاقتصادات النامية بوجه الخصوص فإن العادات النقدية يمكنها ان تتغير بشكل جذري عبر مراحل التنمية الاقتصادية طويلة الاجل ، اذ تشير احدى الدراسات عن كل من سنغافورة وماليزيا الى حدوث تغير مستمر وبطيء في العادات النقدية لدى الافراد و الشركات للفترة من عام 1950 وحتى عام 1969 والتي افضت الى احداث زيادة في سرعة التداول نتيجة للزيادة الانية و السريعة في عدد فروع المصارف . اذ ان زيادة الاخيرة كان من نتائجها تقديم خدمات مصرفية في أماكن نائية لم تكن متاحة سابقاً .
ان التأثير الذي يولده التوسع في عدد فروع المصارف على سرعة تداول النقود يمكننا ادراكه بالمثال التوضيحي التالي :
ابتداء هناك حساب واحد فقط في هذا الاقتصاد ( الافتراضي ) و الذي يحتوي على وديعة جارية مقدارها ( 15 ) دينارا
وبحركة اجمالية مساوية للصفر . فإذا افترضنا انه نظراً لانتشار عدد فروع المصارف تم فتح حساب ثان مما يؤدي الى زيادة المبالغ المودعة الى ( 30 ) دينارا بحيث ان المبالغ المتداولة في المبادلات بين الحسابين ستعادل الان خمسة دنانير .
ومع فتح حساب ثالث لاستمرار التوسع في عدد فروع المصارف فان المبالغ الكلية المودعة سترتفع الى ( 45) دينارا كما ستزيد المبالغ المتداولة الى عشرة دنانير . ويتضح لنا من المثال الافتراضي أعلاه ان سرعة التداول قد ازادت من :
1/6=0.167 الى 2/9 =0.222 نتيجة فتح حساب ثالث
وهكذا فان التوسع في عدد فروع المصارف و انتشارها على نطاق واسع في الدول النامية سيكون له اثر إيجابي في تحسين كفاءة استخدام النقود مما يتيح انتقال الارصدة النقدية بشكل أسرع داخل الاقتصاد القومي
ثانيا- سرعة التداول الدخلية في البلدان العربية :
ان المعضلة المالية التي تواجه البلدان العربية ، خاصة غير النفطية منها ، هي الافتقار الى موارد مالية كافية لمواجهه متطلبات التنمية لديها ، و افتقارها الى الوسائل المالية اللازمة للتحكم في الموارد الحقيقية التي يمكن من خلالها تحقيق النمو الاقتصادي ، فقلة الادخارات و الاستخدام غير الكفؤ لها ، و الوسائل المالية القليلة المتاحة لتوجيهها نحو القطاعات التنموية و الإنتاجية تعوق تكوين رأس المال بالمعدلات التي تتطلبها عملية التنمية فيها .
ولغرض التعرف على سرعة التداول الدخلية للنقود في البلدان العربية ، لا بد من معرفة درجة النضج المالي Financial Deepening لهذه الأقطار
أن نضج المالي لاقتصاد ما يمكن قياسه من خلال المؤشرات التالية :
1. ان يتوافر جهاز مصرفي واسع ذو موجودات لا تقل عن عشر الثروة القومية .
2. ان ينجز قسم كبير من الاعمال عن طريقة مشروعات أو شركات مساهمة ، مع فوائد عالية على السندات من الصنف الممتاز .
3. ألا يقل متوسط الادخار فيه عن عشر الدخل اليومي
4. أن يشكل الأرباح غير الموزعة مصدراً أساسياً لتمويل التوسع في المشروعات
ولا تتوافر هذه الشروط عموما في البلدان العربية وذلك لانخفاض دخولها القومية ، و ضآلة مدخراتها بالإضافة الى تدني معدل التراكم الرأسمالي ، مما يحد من النمو الاقتصادي
و لتفسير التباين في سرعة تداول النقود في البلدان العربية ، يمكننا الاستعانة بدرجة النضج المالي في الاقتصادات العربية من خلال توظيف هيكل عرض النقد ودرجة الكثافة المصرفية .
اذ نجد أن الودائع المصرفية في بلدان دول مجلس التعاون الخليجي تربو على 70% - باستثناء سلطنة عمان التي لم تزد الودائع المصرفية فيها عن 50% - في حين سلك هيكل عرض النقد في الاقتصادات العربية غير النفطية سلوكاً مغايراً جداً ، إذ تباينت الودائع المصرفية بين 37.5% كحد ادنى في لبنان و 48.5% كحد اقصى في مصر .
بعبارة أخرى ، فإن المرونة الدخلية للطلب على الموجودات المالية وبالذات الودائع المصرفية في دول الخليج العربية هي اكبر بكثير من المرونة الدخلية لطلب على العملة .
في حين لا تزال المرونة الدخلية لطلب ع العملة اكبر بكثير من المرونة الدخلية لطلب على الودائع المصرفية في الاقتصادات الأكثر تنوعاً .
أما درجة الكثافة المصرفية - و التي يتم احتسابها على أساس عدد الفروع لكل 10.000 نسمة – الكثافة المصرفية =عدد الفروع x 10000/ عدد السكان فتشير كذلك الى اختلاف ملحوظ بين الدول العربية . اذ في حين تزيد درجة الكثافة المصرفية عن 1.0 في كل من لبنان ، و دولة الامارات البحرين ، سلطنة عمان ، تقل عن 1.0 بقليل في كل من الأردن ، الكويت ، قطر ، السعودية ، و تنخفض الى دون 0.25 في كل من مصر و سوريا
ان التباين في درجة الكثافة المصرفية يمكن أن يعزى الى الاختلاف في درجة تطور العادات المصرفية ومدى الحوافز المعطاة من قبل المصارف ، بالإضافة الى الضغوط التضخمية وانخفاض أسعار الفائدة على الودائع مما يقلل من جاذبية الودائع المصرفية الادخارية .
ان التباين في سرعة تداول النقود في البلدان العربية للفترة الممتدة من 1983-1995 ، يمكن ادراكه الان بعد معرفة النضج المالي لهذه الأقطار .
اذ تراوحت سرعة التداول في المجموعة الأولى (دول مجلس التعاون الخليجي ) بين 11.68 كحد اعلى في سلطنة عمان و 3.14 كحد ادنى في السعودية ، كما نلاحظ اتجاهها نحو الانخفاض المستمر لكل دولة من الدول هذه المجموعة على حدة ، و يعكس ذلك حقيقة ان معدلات التوسعه في المعروض النقدي هي اعلى من معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي .
أما بالنسبة لدول المجموعة الثانية ( بلاد الشام ومصر ) فقد تراوحت سرعة التداول ما بين 0.72 في سوريا كحد ادنى و 4.62 في مصر كحد اقصى . ويلاحظ أن سرعة التداول لم تأخذ مساراً مميزاً في دول تلك المجموعة بل كانت عرضة للتقلبات ، ويعكس ذلك نمطاً غير متسق للتغير في المعروض النقدي مقارنة بالتغير في ناتج المحلي الإجمالي
( ثالثا) تحديد الاتجاه العام لسرعة التداول :
بقى علينا الان ان نجيب عن تساؤل أخير و يتمثل في تحديد " الاتجاه العام " لسرعة التداول في البلدان النامية وتاثير هذا الاتجاه على فاعلية السياسة النقدية وتنفيذها .
ان من اولى الدراسات المعنية بتحديد الاتجاه العام لسرعه التداول هي تلك التي قام بها Millton Friedman عن الاقتصاد الامريكي ، و التي امتدت لفترة تقارب القرن من زمن ( 1867-1954 ) ، حيث ربط فيها السلوك العام لسرعة التداول بالدخل الفردي الحقيقي ، اذ خرج بفرضية مفادها : ان مع الزيادة في الدخل الفردي الحقيقي على المدى الطويل ، فإن المعروض النقدي يزداد بمعدلات أكبر من الزيادة في الدخل النقدي الامر الذي سيعني اتجاه سرعة التداول نحو الانخفاض على المدى الطويل .
و قد عزز من هذا الرأي دراسات سرعة التداول الدولية المقارنة التي قام بها فريق من الباحثين في نهاية الستينات و أوائل السبعينات ، و التي ربطت هي الأخرى الاتجاه العام لسرعة التداول بمعدلات النمو في الدخل الفردي .
الا ان الاتجاهات الحديثة في التحليل تنحو منحى مغايراً ، حيث تصب توكيدها على أثر العوامل المؤسسية Institutional في تفسير الاتجاه العام لسرعة التداول .
الخلاصة و الاستنتاجات :
أن الدور المتباين الذي احتلته سرعة التداول في كل من التحليلين النقودي و الكينزي قد انسحب بدوره على السياسات المتضادة التي تبناها كل من المدرستين . فمن جانب يأتي ايمان النقوديين بوجود علاقة مباشرة بين عرض النقد و الناتج القومي . وحلقة الوصل المهمة في هذه يجسدها استقرار سرعة التداول . و نتيجة ذلك ، فإن السلطات النقدية يمكنها احداث الزيادة المرغوبة في حجم الانفاق المطلوب بلوغه من خلال تكييف المعروض النقدي لسرعة التداول المعطاه مما يجعل السياسة النقدية اداه لازمة و ضرورية للسيطرة على الفاعلية الاقتصادية . اما دور السياسة المالية كاداه من أدوات التثبيت فقد تم تهميشها ، حيث الرأي النقودي يقرر ان أي توسع مالي ( غير مصحوب بتوسع نقدي ) و ان كان له بعض التأثير على الدخل القومي في المدى القصير الا انه على المدى الطويل " سيزاحم " أو يحل محل بعض مكونات الانفاق الاستثماري الخاص بحيث ان الدخل الحقيقي سيبقى على حاله دون تغيير و هو ما يعرف في الادبيات الاقتصادية " بأثر التزاحم " The Crowding " - Out Effect .
اما في الجانب المقابل يجد الكينزيون ان الية الانتقال للسياسة النقدية هي آلية غير مباشرة ، بمعنى ان التغير في عرض النقد يمكن ان يؤثر على الانفاق الكلي فقط اذا أدى ذلك الى حدوث تغير في معدلات الفائدة ، و من هنا يأتي انكارهم للعلاقة المباشرة بين عرض النقد و الانفاق . فالعلاقة بين العرض النقدي و الناتج ( خلافا للنقوديين ) هي علاقة متغيرة نظراً لان التقلبات في سرعة التداول قد تبطل مفعول أي تغيير في المعروض النقدي بخلاف الأدوات المباشرة للسياسة المالية ( التغير في الانفاق الحكومي و / أو التغير في معدلات الضريبة ) و التي يمكنها احداث تأثير مباشر و قابل للتقدير على الناتج .
أن وضع حد فاصل للجدل النظري بين اقطاب المدرستين وما تمحض عنه من انتهاج سياسات متباينة لا يمكننا بلوغه للهوة السحيقة التي تفصل بينهما .
فإذا ما تركنا الجدل النظري جانباً ، يمكننا - رغم ذلك - القول ان ما هو متفق عليه الان و على نطاق واسع ، ان عرض النقد ، و خاصة في الدول ذات الأسواق المالية المتطورة أضحى لها بعدان : حجم الكتلة النقدية و سرعة تداولها . وعليه فان سرعة تداول النقود لا مناص من أخذها في الاعتبار من الناحية العملية و ذلك عند رسم السياسات و تنفيذها بغض النظر عن المشارب المختلفة التي ينهل منها صانعو القرار .
اما البلدان النامية ، و التي تشترك غالبية اقتصاداتها بعدد من السمات المميزة و التي تمثل أهمها في ضيق نطاق الأسواق المالية و النقدية وبالتالي ، ضعف أهمية الموجودات المالية فيها ، بالإضافة الى ذلك تعايش نوعين من الاسواق النقدية فيها ، الأسواق النقدية المنظمة والأسواق النقدية غير المنظمة و الأهم من كل ذلك ، تشترك غالبية هذه الدول في ضعف العادات المصرفية ، و المتأتي من حداثة النظم المصرفية ومحدودية نشاطها .
إن هذه العوامل مجتمعة ستنعكس بدورها على طبيعة سرعة التداول في الاقتصادات النامية ، حيث الاتجاه العام لسرعة التداول فيها هو اتجاه تنازلي ، و الذي يمكن ان نجد تفسيره في عملية التنقيد في هذه البلدان و التي ترافقها عمليتان متداخلتان :
1- انتقال الاقتصاد من اقتصاد المقايضة الى اقتصاد نقدي و ما يتمحض عنه من زيادة استخدام النقود لأغراض تسوية المعاملات 2- نمو المصاريف التجارية و انتشارها .
ان الاتجاه التنازلي هدا لسرعة التداول في هذه البلدان سينعكس بدوره على تنفيذ السياسة النقدية ، اذ سيعني الامر عند ذاك ان بمقدور السلطات النقدية في البلدان النامية زيادة المعروض النقدي و تمويل مدى واسع من العمليات الاستثمارية دون ان تخلق ضغوطاً تضخمية في الاقتصاد )وعلى السلطات النقدية في العراق ان تعي هذه الحقيقة ) و ذلك بخلاف ما هو عليه الامر في الدول الصناعية المتقدمة حيث الاتجاه العام لسرعة التداول فيها - كقاعدة - هو ذو اتجاه تصاعدي ناجم عن الرقي المالي الذي بلغته . وهكذا فان سلوك سرعة التداول فيها قد يحد من فاعلية السياسة النقدية ، بل وقد يبطلها ، خاصة عند تبني السلطات النقدية سياسة انكماشية نظراً للكم الكبير المتاح من الموجودات البديلة للنقود و الذي يمكننا ان نجد تفسيره في النمو الهائل لمؤسسات المالية الوسيطة خاصة خلال المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة ، حيث ما برحت هذه المؤسسات تطور ادواتها الائتمانية و تبتكر ما هو جديد منها .
3483 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع