الفريق الركن الدكتور عبد العزيز المفتي
محاضرة:الربيع الأول(كوردستان الجنوبية / العراق)
الربيع الأول (كوردستان الجنوبية / العراق)
كانت حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران حرباً نازفة حرمت الشباب من خيرة أيام نشاطهم وطموحاتهم حتى أصبحوا جائعين ويحتاجون كل شيء. وإذا كان الشعور الوطني هو الذي يرفع من معنويات الشباب في الحرب، ولكن بعد وقف القتال كان الجميع تواقين إلى السلام الدائم( ). وهكذا وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية، كان على جنود جيش العراق - البالغ عددهم مليون مقاتل- العمل منذ البداية لتجاوز التضخم في الأسعار، التي جاءت متزامنة مع انخفاض أسعار النفط، ومطالبة دائني العراق من الأجانب في دول الغرب (فرنسا وإيطاليا) وروسيا والعرب، وخاصة الكويت بمستحقات ديونهم( ).
اعتبر اجتياح الجيش العراقي للكويت في الثاني من آب عام 1990 بمثابة تصدير لأزمة ديون داخلية تعرضت لها الدولة العراقية وهي غير قادرة على دفع مستحقات الديون للدول الدائنة( )، وخاصة الكويت التي رفعت من إنتاجها النفطي في اليوم الثاني لوقف الحرب مع إيران في 8 آب عام 1988( ). وسبب إلى خفض سعر البرميل إلى سبع دولارات للبرميل الواحد، وهو ما يعني أن كل ما يحصل عليه العراق من عائدات نفطية لا تغطي فوائد الديون( ). والمال في الغالب يجعل صاحبهُ متعجرفاً أعمى البصيرة، وهو ما أصاب بعض أفراد أسرة آل الصباح الكويتية( ). كما أفاض الكاتبان الفرنسيان بيار سالنجر وإريك لوران في كتابهما حرب الخليج.
وبعيداً عن مناقشة تفصيلات الاجتياح وأسبابه الأخرى، فإن الحدث شكل منعرجاً خطيراً في تأريخ الدولة العراقية التي ولدت عام 1921م. وخلال المدة الواقعة ما بين غزو الكويت عام 1990م وحتى إخراج القوات العراقية منها عام 1991م لم تقم الجبهة الكوردستانية( ) بأي أعمال عسكرية. ذلك حينما وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش( ) (الأب) دعوة إلى الشعب العراقي في الخامس عشر من شباط عام 1991 لاعلان الثورة وإسقاط حكم صدام حسين وهو ما كان أهل الفرهود( ) ينتظرون موعده، حتى أن أعلن عن وقف اطلاق النار وانسحاب القوات العراقية من الكويت في السادس والعشرين من شباط 1991، كانـت انتفاضـة شعبـية فـي الجنوب قد بدأت لتتبعها أخرى في الشمال ضد حكم الرئيس صدام حسين.
إن من المتعذر وصف مجموعات المتظاهرين في البصرة والسليمانية في شهر آذار 1991 بالمجموعات الغادرة أو مجموعات الخيانة، حيث كان الهدف التخلص من نظام ديكتاتوري شمولي، وضع الشعب على الورق موضع التقدير والاجلال والإباء، وفـي القرارات الخطيرة التي تمس بناء الدولة وديمومتها كان الشعب على الهامش( ). حيث بدأت انتفاضة الجنوب من محافظة البصرة في الثاني من آذار عام 1991م. وتذكر صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في الرابع من آذار 1991م أن النظام العراقي يعيش في ذروة ضعفه بعد اختفاء جهازه الحزبي والأمني( )، وقد يكون ذلك الكلام مأخوذاً من تقارير أجهزة الاستخبارات المعادية، وتقرير السفارات الأجنبية التي بقيت داخل العاصمة ومنها السفارة الألمانية( ).
استمرت أجهزة الإعلام الأمريكية تشجيع الشعب العراقي على إزاحة صدام من السلطة( ). وهي في طريقة أدائها لم تكن مدّركة لتركيبة المجتمع العراقي الذي بات مستعداً لتشكيل دويلات طائفية وعرقية، الأولى (كوردية) في كوردستان العراق، وقد أبدى الرئيس التركي (توركت اوزال) عن استعداده لمعاونة الحركة الكوردية خلال لقاء جمعه برئيس الاتحاد الوطني الكوردستاني جلال الطالباني في أنقرة( ). أما الثانية فهي (شيعية) وقد أمنّت إيران دعماً وملجأً للعناصر التي عبرت الحدود، وهي مستعدة لدعم حكومة جديدة بغياب صدام( ). والدويلة الثالثة هي (سنية) وقد فوجئ الرئيس الأمريكي بوش- الذي كان يتابع أحداث ما بعد الحرب- بمعارضة المملكة العربية السعودية لوجهة نظر الإدارة الأمريكية، وهي تقول بصراحة أنها تخشى من ظهور دولة شيعية في جنوب العراق يمكن أن تستقطب شيعة الكويت والبحرين والمقاطعات الشرقية للمملكة وخاصة منطقتي الاحساء والقطيف مركز النفط السعودي( ). وهنا يذكر الكاتب الأمريكي (ديفيد وورمسر) في حديثه الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في الخامس عشر من آذار 1991م إلى التحول المفاجىء في موقف الولايات المتحدة إزاء انتفاضة الشعب العراقي في الجنوب "إن واشنطن ولعدة اعتبارات كانت تفضل انقلاباً عسكرياً لتغيير نظام الحكم في العراق بدلاً من القيام بانتفاضة شعبية وأنها كانت تحاول التخلص من صدام حسين وليس نظامه"( ). ولعل ما ذكره (ديفيد وورمسر) قد يكون لامس الحقيقة في تغير الموقف الأمريكي من إنتفاضة الشيعة. إلا أن الجانب التعبوي ونقصد به استخدام السمتيات المسلحة، فقد استخدمت على نطاق واسع لمواجهة المجموعات المسلحة في كربلاء والنجف، وكان دورها واضحاً في انهيار الانتفاضة في الجنوب عند نهار اليوم التاسع عشر من آذار عام 1991م( ).
* انتفاضة الأكراد في كوردستان العراق 5 آذار 1991م
انطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة الكوردية في الخامس من آذار عام 1991م بمبادرة من قبل جلال الطالباني الذي كان وقتها في واشنطن ينسق العمل مع الإدارة الأمريكية. وبموجب ما حصل من إتصالات لاسلكية مع رموز حزبه في مدينة (رانيه) الكوردية( )، فقد اشتركت مجاميع من المواطنين الأكراد الغاضبين في مظاهرات رافعين شعارات تدعو لإسقاط صدام حسين، وحسب شهود عيان كانوا يتابعون ما يجري، أنهم لم يشاهدوا أي من الشعارات التي تريد تنفيذ الحكم الذاتي وهو ما كان الزعيم الخالد الملا مصطفى البارزاني وحزبه تواقين لهُ، كم هم بحاجة إلى من يرشدهم إلى الطريق دون استخدام السلاح. وبحلول الرابع عشر من آذار كانت قوات الزعيمين الطالباني والبارزاني تسيّطران على معظم أراضي كوردستان( ). وفي الحادي والعشرين من آذار - وهو العيد القومي للأكراد - فقد تمكنت قوات من البيشمركة المسلحة من الاستيلاء على مدينة كركوك النفطية وضواحيها.
أدرك قادة الحزبين الكورديين الطريقة التي انتهت بها انتفاضة الشيعة في جنوب العراق، وظهر من بينهم من يحذرهم بعدم الاعتماد على وعود الولايات المتحدة الأمريكية في تعديل كفتهم وهم يواجهون قوات الحرس الجمهوري ووحدات الجيش الأخرى التي نجت من التدمير أثناء الحرب( ).
كان الامتحان الذي يتعين على الرئيس صدام حسين مواجهته هو في إخماد الانتفاضتين بأقرب وقت ممكن هذا في الوقت الذي سرت شائعات قوية، عن نية الحرس الجمهوري نقل جهد كبير من قواته إلى كوردستان، وأنه سيستخدم الأسلحة الكيماوية ليس ضد قوات البيشمركة الكوردية، بل ضد المدنيين الأكراد في قراهم ومدنهم، وكانت أشبه بالإنذار للقائدين الطالباني والبارزاني لأن يتخلوا عن كفاحهم ويستسلموا لحكومة بغداد قبل أن تحل بهم كارثة أخرى كالكوارث التي حدثت للأكراد في إيران عام 1946 وانهيار الثورة الكوردية بعد اتفاقية عام 1975 وعام 1988 (عند نهاية الحرب مع إيران)( ). الأمر الذي دفع أعداد كبيرة من الأكراد لهجرة مناطق سكناهم واللجوء إلى الحدود الإيرانية والتركية( ). ويعتقد الباحث أن تسميم الأجواء بين حكومة بغداد المركزية وقادة الأكراد هو هدف مركزي لإجبار الولايات المتحدة والغرب الأوروبي عموماً للتدخل ومنع حدوث (حلبجة) أخرى في كوردستان( ).
استقبل جلال الطالباني( ) بيترو. غالبريث الأمريكي - الذي بات يتنقل عبر نهر دجلة من محافظة "القامشلي" السورية إلى أراضي كوردستان- في مدينة (دهوك) الكوردية ليشاهد على الطبيعة هجرة آلاف العوائل الكوردية من مناطقهم، وعمليات القصف المدفعي لقوات الحرس الجمهوري، وقد أجبرتهما على مغادرة المكان إلى مكان آخر أكثر أماناً لقضاء الليل( ). وفي عملية مخطط لها لإثارة الرئيس الأمريكي بوش الأب حول نزوح الأكراد إلى تركيـا وهو حقيقة، أجـرت شبكة ABC الإخبارية مقابلة على الهواء مع موظف مجلس الشيوخ الأمريكـي بيترو. غالبريث، قال أنها الكارثة الإنسانية التي حلت بالأكراد، وفي مقابلة أخرى مصورة تلفزيونياً مع المعلق المحافظ (جورج ول)، جدد وصفها بالمحرقة الجديدة، والقوات الأمريكية لا زالت على أرض كوردستان( ). أظهرت هذه الكلمات وقعها الكبير في داخل الرأي العام الأمريكي والكونكرس والرئيس بوش نفسه الذي كان في استراحة يصطاد السمك في إجازة في ولاية فلوريدا( ). وجرت مكالمات هاتفية ثلاثية بين الرئيس الأمريكي (بوش) والرئيس التركي (توركت أوزال) ورئيس وزراء بريطانيا (جون ميجر)( ) حول تطور الأوضاع في منطقة كوردستان العراق وبيّن الأخير أن لديه تصّور حول ما يجب عملهُ للأكراد، ومنها عزل منطقة عراقية عن حكومة بغــداد تسمى "بالمــلاذ الآمن"Safe Haven تحت شعار إنساني لحمايتهم من الاضطهاد، سيّما وأن أعداداً كبيرة من الأكراد قد غادروا إلى تركيا وإيران( ). وبين جون ميجر رئيس وزراء بريطانيا تفصيل فكرته في اجتماع القمة للقادة الأوروبيين في لوكسمبرج في الثامن من نيسان 1991( ). وكأنه أي (ميجر) كان يفكر بكوردستان مستقلة بعد قرن من الزمان من التنكر لها. وربما هو الوقت المناسب لتغيير السياسة البريطانية والأمريكية بعد أن أصبح العراق دولة قوية (علمياً وعسكرياً). وهو ما كان يفكر به الرئيس الأمريكي بوش، لولا أن قائده الميداني الجنرال تشوارسكوف قد ضيّع عليه التقييّم الحقيقي لما تبقى لصدام من قوة عسكرية( ).
أصدر الرئيس بوش أوامره للجيش الأمريكي في شهر أيلول 1991م لفرض منطقة آمنة للأكراد، ومنع السمتيات المسلحة العراقية بالتحليق فوق منطقة كوردستان - وكأنهُ تصحيح للخطأ الذي ارتكبه الجنرال تشوارسكوف في خيمـة سفــوان عام 1991 - وأجبرت الرئيس صدام حسين الإنسحاب من مثلث زاخو- كركوك - العمادية (أي شمال الخط 36) لتعلنها فيما بعد منطقة محظورة على الطيران العراقي. فأصبح الأكراد خارج سيطرة سلطة بغداد ثم وسعتها الولايات المتحدة في الرابع من آب 1992م لحد خط عرض (32) جنوب بغداد لحماية الشيعة ولكن ضمن سيطرة حكومة بغداد( ). ويجد الباحث أن الحكم الذاتي الذي يريدهُ الأكراد قد تحقق في ايلول عام 1991، بعد جهد جهيد من الدماء للشعب الكوردي التي نزفت لتنفس هواء الحرية.
وفي حديث بين الزعيم الكوردي جلال الطالباني و(بيترو.غالبريث) في بيت الأول في قضاء شقلاوة (التابع لمحافظة أربيل)، سمع قصة شاب كردي اسمه (تيمور) عمره 15 عاماً (من أهالي قرية قولوجيو القريبة من قضاء كفري التابع لمحافظة كركوك)، وقال: إن الدبابات العراقية دخلت قريته، وحين كان عمره 12 عاماً، أخذتهم سيارات تابعة للجيش العراقي إلى قرية قرب سد (دوكان) حيث عزلوا الرجال عن النساء وبقي هو (أي تيمور مع النساء). ولم يعطوا طعام للرجال الأمر الذي دفع النساء على إلقاء بعض الخبز لهم عبر الأسلاك الشائكة. أُجبر الرجال على خلع ملابسهم وأخذوهم في شاحنات من نوع (زيل روسيه) ولم نراهم بعد ذلك. وبعد مضي شهر أخذوا النساء والأطفال في حافلات بإتجاه الحدود السعودية، وكان تيمور مع أمه وشقيقاته الثلاث وثلاث من خالاته لم يتناولوا أي طعام أو ماء طوال النهار مما اسفر عن وفاة إمرأة مع طفلها. وفي الحافلة، أنزلونا في مكان فيه خندق، وبدأ الجنود بإطلاق النار فأصابته رصاصة في (إبطه) كما أصابته رصاصة ثانية في ظهره. وكان في الخندق فتاة لا تزال حية تدعى (سركول) من قرية (هوارة برزه)، وعندما حاول الاثنين الهرب، القي القبض على الفتاة، فيما تمكن تيمور من اللجوء إلى قرية (عربية) اعتنت به وعالجته حتى شفي من مرضه.
طلب مجلس الأمن الدولي من العراق في نيسان عام 1991م، تقريراً عن مخزونه من الأسلحة الكيماوية والصاروخية، وبيان مواقعها وحالتها الراهنة، ليتبعه بقرار مجلس الأمن المرقم (688)( ) والذي دعا فيه العراق إلى وضع حد للقمع الذي يمارس في الجنوب والشمال ضد الشيعة والأكراد.
* القرار الدولي (688) لحماية أكراد العراق 1991-1996م
كان صدور قرار مجلس الأمن الدولي (688) الصادر في الخامس من نيسان عام 1991( )، قد حدد الدواعي الإنسانية المطلوبة لأكراد العراق عن طريق إيجاد منطقة الملاذ الآمن لهم( ). فيما حُرّم على العراق ومنع من ممارسة أي نشاط عسكري شمال خط عرض (36) الذي يحتوي على أجزاء من الإقليم الكوردي (كوردستان) - من الحدود التركية إلى خط جنوب محافظة الموصل العراقية – وإشارة تحذير من واشنطن لبغداد من مغبة استخدام القوة ضد اللاجئين الأكراد( ). وفي الرابع من آب عام 1992 حددت واشنطن خط عرض (32) جنوب بغداد لحماية الشيعة من سيطرة حكومة بغداد المركزية، وقد فهمت في أوساط المتابعين أنها عملية لتقسيم العراق( ).
دخلـت قوة المطرقة المتأهبـة التي تكونّت من قوات أمريكية وبريطانية وفرنسية إلـى أراضي كوردستان العراق في السابع عشـر مـن نيسان عام 1991، بهدف توفير الراحة - Operation Provide Comfort - لأكراد العراق الذي هجروا ديارهم نتيجة لاستخدام العراق القوة العسكرية ضد المدنيين، وإجبارهم اللجوء إلى الجبال القاحلة في جنوب تركيا. ولإشعار الأقليات في العالم أجمع بإنسانية الدول المشتركة في العملية فقد قامت قوات الدول الثلاث أعلاه بتزويد الأكراد في الجبال بالطعام والخيم والأدوية، وزودّوا وسائل الإعلام الأجنبية والأمريكية تحديداً بمعلومات، أن أعداد الأكراد العائدين كانوا بحدود نصف مليون كوردي( )، ذلك حين حددت رئاسة أركان الجيش التركي بعدم جواز إجراء أي عملية عبور لحدودها إلا بموافقة الطرف التركي( ). وفي خضم هذه التطورات صارت تركيا تؤكد على ضرورة عودة سلطة حكومة بغداد المركزية إلى شمال العراق من أجل تحقيق حالة الاستقرار في مناطق الحدود المشتركة. وفي هذا الصدد يذكر "هنري باركي" الأستاذ بجامعة لاهاي "أنه حتى صدام القوي هو أقل شراً في النهاية في نظر انقره من الوضع الحالي"( ). وسبب مثل هذا الموقف إلى سوء تفاهم بين أنقره والعديد من العواصم الأوروبية الغربية، فيما عدت واشنطن، أن موقف تركيا يخدم مصالح دمشق- بغداد – طهران على حساب المصلحة الأمريكية – التركية المشتركة( ). ويذهب باركي بالقول أن رموز حزب البعث تحت قيادة حافظ الأسد استفادو من عمليات حزب العمال الكوردستاني في مدارات نزاعهم مع الأتراك، وكانوا القوة التي أسهمت في وقف إطلاق النار بين عبد الله أوجلان وأنقره لمدة من الزمن( ). ويعلق عبد الله أوجلان نفسهُ في مقابلة له مع صحيفة الفيغارو الفرنسية في آذار عام 1992م بالقول "أن المشكلة الكوردية لا يمكن أن تسوى دون حزب العمال الكوردستاني، وسينتهي الأمر بإدراك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ذلك( ). أما العراق، فقد أشار عبد الله أوجلان، إلى أن الرئيس العراقي صدام حسين لا يمكنهُ أن يحل المشكلة الكوردية بمفرده، معللاً ذلك أنه إذا ما اقترب من تركيا أخاف الأمريكيين والإيرانيين، وإذا ما اقترب من الأكراد اقلق تركيا( ). حيث قام حزب PKK من فتح جبهة جديدة في مناطق انطاكيا ولواء والاسكندرون لمقاتلة الجيش التركي، وهو ما يتطلب من أنقره إدراك ذلك( ).
تم التوصل بين أنقره وواشنطن حول استخدام وحدة حرس الأمم المتحدة لحد (500) شخص في (17) و(18) أيار/مايو عام 1991 في كوردستان العراق. ولضمان تعبئتهم فإن تبريرات خاصة سوف تتخذ لضمان هبوط الطائرات السمتية التي تحمل إشارة الأمم المتحدة في مدن شمال العراق، دهوك وزاخو والموصل، وهي تحمل الدعم اللوجستي( ). وعلى هذا علق الرئيس الأمريكي (بوش الأب) بالقول، وجهتُ جيش الولايات المتحدة للبدء بتأسيس "مواقع تجمع" في كوردستان العراق تكون فيها مواد الإغاثة للاجئين متوفرة لكي توزع بصورة منتظمة( ). وتوافقاً مع قرار الأمم المتحدة المرقم 688 فإن واشنطن تنوي تحويل حماية هذه المواقع إلى الأمم المتحدة بأقرب وقت ممكن( ). فيما أصدرت وزارة الخارجية التركية موافقتها في الرابع والعشرين من تموز عام 1991، وقد تضمن النقاط التالية: تأمين رضوخ العراق لقرار مجلس الأمن دون تكرار هجرة الأكراد لبيوتهم مرة أخرى، وأن تمركز القوات الدولية في جنوب تركيا (قاعدة انجرلك، وبطمان) هو ضمن فعاليات حلف شمال الأطلسي، وأن وحدات تركية ستشارك فيها بصفة عنصر قيادي حيث هي الدولة المنظمة للوجود العسكري( ).
أما توزيع الجنود في قوة المطرقة المتأهبة في تشرين الثاني من عام 1992، فقد كانت على النحو التالي:
أ. ظهر وجود (1416) جندي أمريكي و(183) جندي بريطاني و(139) جندي فرنسي، و(74) جندي تركي، وقد توزعوا في قاعدتين تركيتين هما انجرلك (803) جندي وبيرنجليك (49) أمريكياً، و(6) أتراك وبريطانييّن وفرنسي واحد. أما في قاعدة زاخو العراقية، فقد كان هناك (10) جنود من الولايات المتحدة الأمريكية و(5) أتراك و(2) بريطاني وفرنسي واحد.
ب. كان لدى الولايات المتحدة الأمريكية قوة جوية مكونة من (9) طائرات عمودية و32 طائرة مقاتلة من طراز F-16 و A-10 و F-11 . واستخدمت بريطانيا (8) طائرات مقاتلة من طراز جاكور وطائرتان نقل وعدد من الدبابات، فيما كان لفرنسا (8) طائرات مقاتلة F-ICR . وتركيا (4) طائرات مقاتلة من طـراز F-16 و F-4.
ج. أمنت البحرية الأمريكية حاملة الطائرات "فورستال" المتواجدة في شرق البحر الأبيض المتوسط لتزويد قوات المطرقة المتأهبة معاونة جوية إذا ما تطلب الأمر( ). إن إسداء المعونات الإنسانية للأكراد لا يعني التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وهو ما ذهبت إليه المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة التي رأت أن خطوط العرض الوهمية 36 و32 لا يتضمنها القرار الأممي 688، وأن الفقرتين (3) و(7) منه يطالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة لتحقيق الغاية منهُ.
* تبدل المواقف البريطانية والأمريكية حول الكورد
إن النزاع العرقي في تركيا هو بمثابة دعوة للإنعزال عن المجتمع الدولي وأن عدم احتضانها لحل سياسي للمسألة الكوردية يحد بصورة خطيرة من حرية حركتها، بل يهدد علاقاتها بالغرب. وهي بالتالي لا يمكن أن تكون المصدر الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط)( ). فيما ذهب "فراهام فولو" الخبير في مؤسسة راند الأمريكية للدراسات بالقول أنهُ يقترح قيام فيدرالية وحكم ذاتي يعترف بالاستقلال الثقافي للأكراد( ). ولكن أنقره لها اعتقاد من أن الـ PKKممثلية في واشنطن يتولاها "قاني غولام"، الذي اجتمع مع مسؤولين في وزارة الخارجية في نيسان 1993 وقد احتجت تركيا على مشاركة غولام في الاجتماع، إلا أن الخارجية الأمريكية ردت قائلة أن غولام ليس تابعاً لـ PKK وأنه شارك في الاجتماع بصفة مترجم( ).
أما فيما يخص الموقف البريطاني من الحركة الكوردية في تركيا، فإن المسؤولين في بريطانيا قد كرروا الدعوة إلى إقامة حكم ذاتي للأكراد في تركيا. وفي هذا المجال دعا بعض الأعضاء في مجلس اللوردات في 29 تشرين الثاني 1993 الضغط على تركيا لتأسيس دولة كوردية مستقلة( )، وهو ما أثار دهشة الأتراك الذين عبروا بصراحة وأين كانت بريطانيا الإمبراطورية من حقوق الكورد على مدار قرن من الزمان. ووصف أحد أعضاء مجلس اللوردات الـ PKK بأنه يعمل لتحرير أكراد تركيا من التذويب السياسي والعرقي الذي تقوم به أنقره ضد الشعب الكوردي، في حين عبرت "ليندا تشوكر" وزيرة المساعدات الخارجية البريطانية في 27 نيسان 1994 عن قلقها الكبير من المعاملة التي يلقاها الأكراد في جنوب شرقي تركيا( )، وكأنها تريد إعادة بناء دولة كالتي قامت في مهاباد عام 1946، بعد فشل معاهدة سيفر عام 1920، وإن الأكراد والأرمن لا زالوا في إنتظار دوراً بريطانياً يعطيهم الحكم الذاتي في العراق وتركيا، وقد أزعج تركيا الدولة والشعب، حيث رأت فيه عودة لعهد استعماري بريطاني كان موجوداً في بداية الحرب العالمية الأولى، ولكن تركيا هذه المرّة ليست مهزومة في حرب، وهي قوية عسكرياً وصناعياً، وعضواً في حلف شمال الأطلسي.
وعند مناقشة موضوع إعطاء حكم ذاتي للكورد في جنوب شرق تركيا، عقد اجتماع في المجلس الوطني التركي الكبير، وتحدث اربكان قائلاً أن بقاء هذه القوات الأجنبية في القواعد الأمريكية في جنوب شرق الأناضول يعد خرقاً لاستقلال ووحدة الأراضي التركية لاسيما وأن هذه القوات تهدف إلى بقاء "ارمينيا الكبرى" داخل الأراضي التركية وحماية المصالح الصهيونية ضد العرب والمسلمين في المنطقة... إن هذه القوات لم تأت إلى تركيا لحماية ومساعدة الأكراد في كوردستان العراق كما تدعي بل جاءت من أجل دعم الانفصاليين والإرهابيين في تركيا وكوردستان العراق... بهذا تكون الحكومة التركية قد وضعت البلاد تحت الاحتلال، إذ أن أمريكا ترفض الانسحاب من تركيا حتى لو طلب منها ذلك... ( )، ودفعت نجم الدين أربكان إلى انتقاد سليمان ديمرئل بالقول: "أنه في حالة تأسيس "إسرائيل" أخرى في المنطقة بسبب قوات المطرقة المتأهبة، فإن من التزامات حزبه أن يرسل ديمرئل للمحكمة العليا لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى( ).
والجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية قد مارست ضغوطاً شديدة على تركيا لتجديد مدة بقاء قوة المطرقة المتأهبة. وخلال الزيارات التي قام بها توركت أوزال رئيس الجمهورية السابق، وسليمان ديمرئل رئيس الوزراء إلى واشنطن، أو الزيارات التي قام بها عدد من المسؤولين الغربيين إلى تركيا ومن بينهم الرئيس الفرنسي متيران ووزير الخارجية البريطانية" دوغلاس هيرد" كان الكلام المتناغم بينهما يشير إلى مليارات الدولارات للمشاريع الصناعية المزمع إقامتها في تركيا، هذا فضلاً عن المساعدات الأمريكية التي قدمت إلى تركيا في إطار القروض الثنائية وقد بلغت (575) مليون دولار خلال عام 1993( ). أو من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتمويل بعض مشاريع الري والطاقة، كثمن استثماري مقابل موافقة تركيا على تمديد بقاء القوات (المطرقة) المذكورة على أراضيها( ). والنظر في إعطاء حكم ذاتي لكورد تركيا( ).
* اتهامات تركية للولايات المتحدة الأمريكية عام 1993
تمت مناقشة تمديد قوة المطرقة المتأهبة، بعد إنقضاء ستة اشهر على وجودها في الأراضي التركية في الثاني من شباط عام 1993( )، وفي هذا المجال، أكد المعارضة التركية في المجلس الوطني التركي الكبير أن الحكومة التركية انتهكت الدستور عندما فتحت قاعدة "انجرلك" الجوية في شرق تركيا بدون تفويض برلماني، وجعلت من تركيا طرفاً في هجمات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة ضد العراق( ). وفيها اتهم "شوكت قازان" نائب رئيس حزب الرفاه و"الصديق" للعراق والرئيس صدام حسين أن تركيا كانت خادمة لأمريكا "بسماحها للطائرات الأمريكية بضرب الشعب العراقي وبغداد من قاعدتها في انجرلك... وأن القصف الأخير لبغداد في (17) كانون الثاني 1993 كان يستهدف اجتماع (450) أكاديمياً مسلماً من ستين بلداً في فندق الرشيد"( ). الأمر الذي جعل من اتهام شوكت قازان لرموز الحركة التركية صدور ردود فعل شديدة ليس فقط من الحزبين المؤتلفين الحاكمين، بل من نواب حزب الوطن الأم الذين وقعوا على طلب التصويت بالثقة. وفي هذا المجال قال "تونج بيلغيت" من حزب الطريق الصحيح" أنه "إذا اتهمت تركيا بانها خادمة الأمريكان فإن أحداً ما ربما يتهم بأنه خادم لصدام وخادم للمال"، مشيراً إلى علاقات حزب الرفاه الطيبة مع بغداد( ). وهو ما أجبر (قازان) إلى تصحيح كلماته بقوله، أنه كان يعني الحكومة، إلا أن رد الفعل لم يتوقف، وقال رئيس الوزراء "سليمان ديمرئل" أن على "شوكت قازان" أن يخجل من مقعده الذي هو بفضل تركيا الحاضرة، وأنه لم تكن هناك حكومة تركية لا في الماضي ولا في الحاضر خادمة لأمريكا... وفي هذا المجال لا بد من التأكيد على عدم مشاركة أي طائرة من قاعدة انجرلك في قصف بغداد"( ). وقال ديمرئل( ). أنه بين منتصف كانون الأول ومنتصف كانون الثاني اقفل الرادار العراقي المضاد للطائرات أو أضاء على طائرات قوة (توفير الراحة – المطرقة)، إحدى وعشرون مرة وتم الرد عليها أحد عشرة مرة فقط، وقال سليمان ديمرئل: "أن السلوك العراقي يعمل على إنهاء قدرة الردع لقوة التحالف، وأن الحكومة التركية لم تنتهك الدستور بتطبيقها الصلاحية من قبل البرلمان... أن فتح النار على اولئك الذين كانوا يعدّون لفتح النار عليك هو دفاع عن النفس، وهذا منصوص عليه في الترخيص البرلماني الممنوح لتمديد مدة بقاء القوة، ولا يحتاج إلى موافقة إضافية من البرلمان أو الحكومة، لقد طلبنا منهم عدم تجاوز حدود الدفاع عن النفس، وقد أنجزت الطائرات واجباتها( ).
ومن جانب آخر، اشار ديمرئل في كلمته أمام المجلس الوطني التركي الكبير بأن الحكومة الائتلافية من حزبي "الطريق الصحيح والشعبي الديمقراطي الاجتماعي" لم تكن هي الداعية للقوة الدولية، بل حكومة حزب الوطن الأم هي التي فعلت ذلك لتجنب هجرة كوردية أخرى إلى البلاد بسبب هجمات الجيش العراقي... أن قرار حكومة حزب الوطن الأم كان صحيحاً، وأن الظروف التي أدت إلى إتخاذ القرار لا زالت قائمة، ولا زال العراق يشكل تهديداً للأكراد والتركمان والعرب في كوردستان العراق الذين هم أشقاء الشعب التركي"( ). وأضاف ديمرئل قائلاً: "أن وحدة وحرمة أراضي العراق مهمة وأن أي تقسيم للعراق سيسبب مشاكل كبرى في المنطقة... ان حلاً مطلقاً للمشكلة يمكن إيجاده إذا واصل العراق السلام مع المجموعة الدولية ومع شعبه... لا تركيا ولا أي بلاد أخرى تريد رؤية حرب خليجية ثانية"( ).
وافق المجلس الوطني التركي الكبير في جلسته التي عقدها في الرابع والعشرين من حزيران عام 1993 على قرار تجديد مدة بقاء قوة المطرقة المتأهبة في تركيا لمرحلة جديدة رابعة تستغرق ستة أشهر أخرى تنتهي في أواخر شهر كانون الأول 1993، إذ صوت لصالح القرار حزبا الائتلاف الحاكم: حزب الطريق الصحيح والحزب الشعبي الديمقراطي الاجتماعي، ناهيك عن حزب العمل الشعبي الكوردي والمستقلين من مجموعة الرئيس الراحل "توركت اوزال" الذين استقالوا من حزب الوطن الأم( ). وفي هذا المجال، رغبت "تانسو تشيللر" رئيسة الوزراء التركي في أواخر حزيران عام 1993م على إتمام التصويت قبل اعلان تشكيل الحكومة وذلك من أجل ضمان اكبر عد ممكن من نواب حزبها لتأييد التمديد( )، وقد أوضح (اربكان) أن التصويت على تمديد بقاء قوة المطرقة في السابق كان قليلاً، أما الآن فقد لوحظت زيادة في التصويت وكذلك توسع الجبهة الرافضة للتمديد والمتمثلة في حزب الرفاء وبعض نواب حزب "الطريق الصحيح"، ونواب الحزب الشعبي الديمقراطي الاجتماعي والأحزاب المعارضة الأخرى( ).
أعلن حزب الرفاه معارضته الواضحة لبقاء قوة المطرقة، وطالب بإنهاء وجودها متهماً إياها بأنها السبب في عدم الاستقرار في المنطقة( )، وقد اتخذ الموقف نفسه الحزب اليساري الديمقراطي إذ أكد رئيسه "بولند أجويد"، أن هذه القوات خلقت فراغاً في السلطة في جنوب شرق تركيا، وأن تجديد بقائها سيعني إنتحاراً لتركيا وتنفيذاً لرغبات الولايات المتحدة وليس رغبات الشعب التركي( ). وفي نهاية المناقشات، تم التصويت على تجديد بقاء قوة المطرقة للمرة الخامسة ولمدة ستة أشهر أخرى، تنتهي في نهاية حزيران 1994، إذ صوت (196) نائب من مجموع (446) نائبا لصالح التجديد، فيما عارضه (160) نائباً، وتغيب (87) نائباً عن التصويت( ). هذا ويلاحظ على مناقشات المجلس الوطني التركي الكبير، أن هناك أصواتاً رافضة لبقاء قوة المطرقة المتأهبة، بدليل أن عدداً لا يستهان به من نواب حزب الطريق الصحيح والحزب الشيوعي الديمقراطي الاجتماعي قد تغيّبوا عن التصويت والذي بلغ عددهم سبعة وعشرين نائباً، وعدد أقل منهم صوتوا ضد قرار التجديد والبالغ عددهم أحد عشر نائباً. وحقيقة الأمر أن أعضاء المجلس الوطني التركي الكبير لا يستطيعون التصرف خلافاً لما يطلبه رؤساء احزابهم، ومن جانب آخر يقول "ماهر كيناك" المستشار السابق لجهاز المخابرات التركي، "أن كثيراً من نواب المجلس هم ضد بقاء قوة المطرقة ويؤيدون طردها، إلا أنه وفي كل مرة يمدد مدة بقائها، وكأن هناك قوة خفية تتدخل في هذا الموضوع"( )!!
*الرئيس الأمريكي بيل كلنتون يستقبل تانسوا تشيللر عام 1993
مارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على حكومة "تانسو تشيللر" حول تمديد بقاء قوة المطرقة لحماية الكورد. وكان هذا واضحاً في محادثات كلينتون مع تشيللر في البيت الأبيض في الخامس عشر من تشرين الأول 1993، إذ عبر كلنتون عن أمله في تمديد مدة بقاء القوة المتأهبة. وفي هذا المجال كتبت صحيفة "ملليت" قائلة: "تطرقت تشيللر وبصراحة خلال هذا الأسبوع عن حقيقة الدولة الكوردية، رغم أنها تتعارض مع إستراتيجية أمريكا في كوردستان العراق، مؤكدة أن تركيا تعرضت لألاعيب كثيرة خلال عشر سنوات. أن أقوال تشيللر تعني للوهلة الأولى بأن "توركت اوزال" الذي أخذ على عاتقه اللعب بالورقة الكوردية من أجل الإطاحة بالرئيس صدام حسين( ). قد تحولت هذه اللعبة لغير صالح تركيا، إذ أن الدعم الذي قدم للزعيمين الكورديين البارزاني والطالباني لم يجد نفعاً سوى تقوية عناصر الـ PKK في كوردستان العراق، فضلاً عن ذلك فإن المساعدات التي ارسلت إلى المنطقة عادت بالفائدة إلى الـ PKK أكثر من الأكراد في كوردستان العراق. وقد تحول الوضع في الجنوب الشرقي من تركيا إلى حرب حقيقية كما اشار إليها رئيس الأركان العامة التركي"( ). وفي هذا الصدد يروي الكاتب المختص بالشؤون الكوردية "محمد نور الدين" أن على مدى خمسة عشر عاماً – بين (1984 – 1999) – من المواجهات الدامية على حدود البلدين تركيا والعراق، قد صعدت من حدة الكراهية، ذلك أن "عبد الله أوجلان" استطاع حشد أكثر من خمسة عشر ألفاً من أنصاره( ). وفي المقابل، فإن الدولة التركية دفعت إلى مناطق القتال ما يزيد عن (200) ألف جندي بصورة دائمة موزعين على حدود سورية والعراق وإيران. وميزانية قيد الصرف قاربت الـ (7-8 مليارات دولار سنوياً)( ). كما عمدت تركيا، وهي تعد خطة طويلة الأمد لمقاتلة الـ PKK، إلى تأسيس نظام (حماة القرى) وذلك بالاعتماد على ميلشيات من العشائر الكوردية المعارضة لحزب العمال الكوردستاني، مهمتها حماية القرى من هجمات الحزب( ). وعلقت تشيللر – التي تحمل صورة واضحة لما يجري قبل إجراء مفاوضات مع الأجانب – حول محادثاتها مع الرئيس كلنتون حول قوة المطرقة المتأهبة في تركيا قائلة: "نحن لم ندخل في مشكلة في الجنوب الشرقي، لنطلب مساعدة لمواجهة عدوان إرهابي. ولكنها لم تعلن عن ذلك، بل حاول كلنتون التضييق علينا في موضوع حقوق الانسان، واتخاذ موقف ضد الارهاب. وقد اعترف بذلك كلنتون إذ تطرق في كلمته وذكر اسم الـ PKK وأعرب عن دعمه لنا على الصعيد الدولي( ). وفي الحقيقة، أن الرئيس كلنتون اعرب في محادثاته مع "تشيللر" في واشنطن عن أمله في تمديد تركيا لفترة بقاء قوة المطرقة، إلا أن تشيللر طرحت صعوبات هذا الموضوع عند مناقشته في المجلس الوطني التركي الكبير، وهذا يعني أن تشيللر لم تغلق الباب تماماً أمام طلب كلنتون إلا أنها لم تعرب في الوقت نفسه عن شيء مشجع لهذا الطلب( ). وفيما يخص علاقة قوة المطرقة المتأهبة مع الـ PKK، تقول تشيللر: "لم أرى بعد أدله تثبت أن قوة المطرقة المتأهبة تعمل لغير صالحنا، ولكن الموضوع يخضع إلى تقويم باستمرار، ولم نصل بعد إلى قرار حول هذا الموضوع. إن وجهات نظرنا قد تغيرت عن الزعيمين الكورديين الطالباني والبارزاني"( ).
أن موقف "توركت اوزال" من الحركة الكوردية تغير كثيراً عما كان عليه إبان حرب الخليج الثانية عام 1991. وصار يتحدث عن حقوق الأكراد بصوت عال( ). أما موقف دول التحالف من الهجوم التركي على مواقع حزب العمال الكوردستاني فقد تميز بالتأكيد نحو تركيا، حين أعلنت المتحدثة باسم القوات الأمريكية في قاعدة انجرلك التركية أن هجوم القوات التركية على حزب العمال الكوردستاني PKK شأن داخلي يخص الحكومة التركية( ). أما وزير خارجية المانيا "هانزديترش جيتشر" فقد أدان الهجوم التركي ووصفه بأنه انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي( ). أما وجهة نظر "تشيللر" من أكراد العراق، فإنه اتسم بمنطق العقلانية في السياسة الخارجية ولو بصورة شكلية، إذا اعترفت تشيللر عندما تسلمت السلطة في تركيا قائلة: "بأن الطالباني والبارزاني كان لهما نصيب في اللعبة، إذ أراد الغرب عن طريقهما إقامة دولة كردية في كوردستان العراق"( ). ولكن تشيللر تقر وتعترف من ناحية أخرى وهي تبتعد عن السلوك العقلاني في سياستها الخارجية، - من خلال التدخل في شؤون العراق - عندما قالت: " أنه تم التخلي عن هذه السياسة الحمقاء، إن القصد من إقامة دولة كوردية في كوردستان العراق يراد منه إلى حد ما التصدي للرئيس صدام حسين، باعتبار أن جلال الطالباني ومسعود البارزاني هما قوة ضد صدام، وقمنا نحن باستخدامهما أيضاً لمكافحة الإرهاب بين مدة وأخرى( ). إلا أننا نقول بأن تغييراً سيحدث في هذه الإستراتيجية، إذ لن نرسل بعد الآن أية مساعدات أو دعم لكوردستان العراق دون رقابة، وقد أكدت هذه الحقيقة للزعيمين الكورديين جلال الطالباني ومسعود البارزاني"( ).
إن تركيا كانت تخشى وعلى لسان قادتها من الحكم الذاتي الذي تم منحه في بداية السبعينات من القرن الماضي لأكراد العراق، فكيف يكون الحال في حالة وجود دولة كوردية في كوردستان العراق( ). ويبدو أن تركيا عندما تعمل على اسقاط النظام في بغداد، إنما ترمي من وراء ذلك التعامل مع أنظمة سياسية ضعيفة للسيطرة على مقدرات المنطقة العربية.
* موقف الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي من حزب العمال الكوردستاني PKK
أشار مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني، إلى تعاون حزبه مع PKK في المدة الواقعة بين 1980-1986، ولكنه أوضح أن هذه العلاقات تكون قد انقطعت بينهما منذ عام 1986( ). وبين مسعود البارزاني أن الـ " PKK وبعد تقوية حزب العمال الكوردستاني هو الحاجة إلى الحل السلمي والسياسي لمشكلة الأكراد في تركيا. وقد دفع هؤلاء إلى الشعور القومي للذود عن قوميتهم وحقوقهم. إن الطريقة الوحيدة في تركيا هــي المحافظة على الوحدة التركية، ليس وحدة الخريطة، بل وحدة القلوب بين الأكراد والأتراك التي من شأنها حل المشكلات بينهما، وفي الحقيقة إن الحل الأخير الذي يكمن في الحل السلمي والديمقراطي من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف حزب العمال الكوردستاني( ).
* حكم ذاتي للكورد في إيران والعراق دون تركيا!
عقد اجتماع في انقرة في العاشر من آذار عام 1994 بين مسؤولين على مستوى عال يمثلون حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا، لمناقشة السياسة الخارجية التركية إزاء الأكراد( ). وفي هذا الاجتماع أكد ممثلو حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بضرورة انفصال الأكراد في العراق وإيران عن حكومتي بغداد وطهران، وفقاً لحق تقرير مصير الأقليات( ). أما فيما يخص أكراد تركيا وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، فقد تركز الموقف الأمريكي حول أهمية حل هذه المسألة بعيداً عن استخدام العنف، وقيام تركيا بحق تقرير مصير اكرادها في إطار وحدة الأراضي التركية( ). وهو ما أكد عليه مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية "ستيف أوكسمان" لدى مغادرته أنقره في الحادي عشر من شهر آذار 1994م، أن الولايات المتحدة مع إيجاد حل لمشكلة جنوبي شرقي الأناضول بالطرق السياسية لكن من دون تهديد وحدة تركيا ودستورها وتقاليدها التعددية( ). وهو ما أثار بعض التساؤلات من قبل القادة الأتراك، وقد تركزت حول محورين: يتضمن الأول منه الحل الواقعي للمشكلة الكوردية في تركيا، والثاني يدور حول سؤال مركزي هو: لماذا استثنت الولايات المتحدة تركيا من خارطة كوردستان الكبرى القادمة، بالرغم من أن أجزاءها الجنوبية هي جزء من إقليم كوردستان.؟ وحقيقة الأمر أن الأتراك توصلوا إلى قناعات تختلف عن أراء حلفاؤهم حول القضية الكوردية في تركيا، وذلك لإدراكهم أن المحور الأول، يدور أن الولايات المتحدة لا ترغب التعامل مع حزب العمال الكوردستاني الذي يؤكد الانفصال، أما المحور الثاني فإنه يدور على قناعة الأتراك بأن الولايات المتحدة والقوى الغربية لم تكن لها الرغبة بتقسيم تركيا، ليس دفاعاً عن تركيا، ولكن مصالحها تقتضي ذلك بتصور واقعي عن وجود فاعلية روسية في السلوك السياسي الدولي. واحتمال عودتها إلى سياسة الاتحاد السوفيتي السابقة( ). كما عبر عن ذلك "طوبي غاتي" الخبير في الشؤون الروسية( ). وأن تركيا الدولة القومية والعلمانية هي عضو في حلف شمال الأطلسي.
وأشار اجتماع أنقرة إلى إدانة الإرهاب والدعم الكامل لتركيا في الدفاع عن النفس ضد أعمال العنف التي يقوم بها حزب العمال الكوردستاني التركي. ولكن في جانب آخر يتحدث الاجتماع إلى توفير مثل هذه الراحة لأكراد تركيا، إذ تقوم السلطات التركية باستخدام كل الأدوات لقمع الحركة الكوردية في جنوب شرق الأناضول، في الوقت الذي نرى إدانة لحقوق الإنسان في تركيا من قبل البرلمان الأوروبي. وآخرها مطالبته بإطلاق سراح ستة من البرلمانيين الأكراد في تركيا( ). إن هذا التغير الذي طرأ على السياسة التركية إزاء أكراد العراق، إنما مرده جملة أسباب من بينها( ):
1. الاتفاق الذي تم مؤخراً بين الأتراك وقادة الحركة الكوردية في كوردستان العراق من تزويد الأخيرة بمعلومات عن قواعد PKK في منطقة السليمانية. وكان من نتائج هذا الاتفاق أن شن الطيران التركي هجوماً على المنطقة المذكورة حطم فيه قواعد PKK. وقد تم شن هذا الهجوم بمعرفة الإدارة الأمريكية وقوات التحالف، حيث أكدّت تانسوا تشيللر رئيسة وزراء تركيا في مؤتمرها الصحفي التي عقدته في أنقرة ضرب قواعد PKK، وأنها أبلغت قرار حكومتها للولايات المتحدة والقوى المتحالفة لها قبل تنفيذ العملية العسكرية.
2. التأكيدات التي أعطيت من قبل الزعيم والقائد الكوردي مسعود البارزاني خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة في نهاية تشرين الثاني من عام 1993 للقادة الأتراك بعدم وجود علاقة بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي وPKK حزب العمال الكوردستاني في تركيا، ووقوف حزبه أمام ما أسماه بأرهاب PKK، مما أزال بعض الغموض والقلق في علاقات أكراد العراق مع تركيا.
3. أثيرت بعض الشكوك في أوساط القيادة التركية والرأي العام التركي حول وجود علاقة بين قوة المطرقة المتأهبة في تركيا وPKK، وتنامي المعارضة المتزايدة لهذه القوة في المجلس الوطني التركي الكبيرة والرأي العام التركي، وقد جاء هذا الاجتماع لخلق الثقة من جديد بين هذه القوة والقيادة التركية.
4. ساد اتجاه قوي في داخل الحكومة التركية ومنذ وصول تانسوا تشيللر إلى السلطة، وتحت ضغط المعارضة السياسية والرأي العام، من أجل رفع الحصار عن العراق ذلك بسبب الخسارة الاقتصادية الكبيرة التي تكبدتها تركيا من جراء غلق أنبوب النفط العراقي وتطبيق الحصار، وما قد يترتب على ذلك من تحسين للعلاقات العراقية التركية. وتحت هذه الظروف تحركت الولايات المتحدة والقوى المتحالفة معها لممارسة الضغط على القيادة التركية من أجل الإبقاء على سياسة الحصار وعدم التقارب من العراق. سيّما إذا عرفنا إن القرار في دول العالم الثالث بصورة عامة، وتركيا بصورة خاصة لم يكن قراراً وطنياً، وعليه فقد أريد من هذا اللقاء في أنقرة إفشال أي تقارب بين العراق بقيادة الرئيس صدام حسين وتركيا( ).
5. إن مشاركة تركيا للولايات المتحدة والقوة المتحالفة معها في قوة المطرقة المتأهبة هي بمثابة تغطية لأعمال العنف الذي تمارسه القيادة التركية إزاء الأقلية الكوردية في تركيا، وهي تبرير من جانب استخدامها للقوة والإبادة الجماعية لها، في الوقت الذي تم إصدار قرارات متعددة من قبل البرلمان الأوربي، وآخرها قرار البرلمان الأوربي في آذار 1994 الذي طالب فيه حكومة أنقرة بالإفراج فوراً عن ستة برلمانيين أكراد محتجزين بتهم مختلفة. وعلى الرغم من هذه القرارات، فأن هناك صمتاً من قبل الدول المذكورة من مسألة حقوق الإنسان في تركيا( ).
6. الهدف من هذا اللقاء الرباعي في أنقرة هو التدخل في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الأمم المتحدة (العراق) والذي يتناقض مع مبادئ القانون الدولي العام والمواثيق الدولية، ومن شأنه أضعاف السلطة المركزية في بغداد، وليس لمناقشة ما يسمى بعملية (توفير الراحة). وكان الأجدر لهذه الدول توفير هذه الراحة لأكراد تركيا الذين يعانون الاضطهاد والقتل والجهل وتفشي الأمراض والبطالـة، كمـا كان بإمكان هذه الدول توفير الراحة لمسلمي "البوسنـة والهرسـك" الذين مضت عليهـم مـدة لا يستهان بهـا من القتل والاضطهـاد دون أن يتحرك ضمير العالم الأوروبي. وأن تركيا المؤيدة لمسلمي البوسنة والهرسك، كان عليها طرح هذا الموضوع للنقاش مع هذه الدول!!
وفي المعنى نفسه، قال "ممتاز سويسال" وزير خارجية تركيا: "أن تركيا لن تضحي بمصالحها من أجل مصلحة أمريكا في المنطقة بعداءها للرئيس صدام حسين، وأن تركيا بعد الآن لن تسمح لهؤلاء بالسفر إلى كوردستان العراق دون التأكد من أهدافهم وبرامجهم". ومن ناحية أخرى، تحدث (سويسال) لإحدى محطات التلفاز الخاصة في 26 أيلول 1994، وشرح وجهة نظره بالسياسة الخارجية التركية، مؤكداً: "أن أنقرة مصممة للمسك بزمام الأمور في المنطقة ومنع قيام دولة أو كيان كردي مستقل هناك مهما كان شكل أو أطار هذا الكيان. وأن على أكراد العراق أن ينسوا أحلامهم هذه وأن يجلسوا بهدوء في أماكنهم". كما جدد وزير خارجية تركيا رفضه وجود القوات الأجنبية في تركيا بحجة حماية أكراد العراق، وأضاف قائلاً: "أن هذه القوات تمنع أنقرة من إقامة أوثق العلاقات مع العراق، وأنه شخصياً لا يريد أن يقضي حياته ليرضي أمريكا، كما لا يهمه أبداً ما يفكر به الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي فيما يخص أكراد العراق".
واتهم سويسال ممثلي الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية غير الحكومية الذين زاروا ويزورون كوردستان العراق بتهديد مصالح تركيا( ). ومن جانب آخر، انتقد (سويسال) الكونغرس الأمريكي بعدم فهم الأمور وتطورات الأحداث الكوردية في تركيا. وفي هذا المجال قال سويسال: "أن أنقرة ستيعد النظر في علاقاتها مع واشنطن إذا استمرت في مواقفها للضغط على تركيا في موضوع الأكراد وحزب العمال الكوردستاني". وفي واقع الأمر، أن هذا المنعطف الرئيس في السياسة الخارجية التركية ناتج عن فشل لقاء رئيسة الوزراء تانسوا تشيللر مع الرئيس الأمريكي كلنتون، إذ بدا واضحاً لها أن الولايات المتحدة لن تعوض تركيا (27) مليار دولار بسبب الحصار على العراق ( )!!
على الرغم من التطورات السالفة الذكر بين الحكومة التركية وأكراد العراق، إلا أن تركيا عادت وأكدت على دعم سلطة الحكومة العراقية في كوردستان العراق، وعدم المشاركة في أي تحرك يضر بسيادة العراق في منطقة الحكم الذاتي. وفي الحقيقة أن الحكومة التركية اتخذت هذه القرار بعد سلسلة من الاجتماعات التي ضمت كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الأتراك التي بدأت عندما كان "حكمت جتين" وزيراً للخارجية، واتخذت شكلها النهائي بعد تسلم "ممتاز سويسال" منصب وزير خارجية تركيا. وفي هذا المجال أكد مسؤولون أتراك كبار "أن الحكومة التركية توصلت إلى حقيقة أن الفراغ السياسي الناتج في كوردستان العراق قد أدى إلى وضع أمني خطير في جنوب شرقي تركيا"، وقد بدأت الحكومة التركية تلمس بوضوح أن الغرب يستخدم تركيا من أجل تحقيق أغراضه وأهدافه فقط دون النظر إلى مصالح تركيا التي تعد أكبر خاسر في الحرب التي شنت على العراق.
ولعل ما يأخذنا إلى التفكير الواسع حول الأمر، هو الفلسفة الأمريكية التي تريد أمريكا إخفاءها من وراء استخدام تركيا ضد الرئيس صدام حسين، حيث من الواضح أن واشنطن وبعد حرب الخليج الأولى (الحرب مع إيران 1980-1988م) والخليج الثانية (حرب الكويت عام 1991) أن مجموعة قواعد جديدة نشأت في عدة دول حول بحر قزوين، كانت هذه الدول في الأساس جزء من الدولة السوفيتية قبل تفككها رسمياً عام 1991م( ). وقواعد أخرى في تركيا يمكن استخدامها خارج مجال حلف الأطلسي( ). ولعل ما جاء على ذكر تركيا لأن تقوم بدور (معين) في الشرق الأوسط، فقد ذكر الصحفي التركي "محمد علي بيراند" في لقاء صحفي في شهر آذار 1993م مع أحد المسؤولين الأمريكان "ريكارد بيرل" (Rkird Perle) أن واشنطن تريد أنقره كحارس لمصالحها في الشرق الأوسط( )، فيما رد المسؤول الأمريكي أن سبب تكليف الجيش التركي بمهمة الدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة، أنه يعطي القيمة الحقيقية (الرخيصة) للجندي التركي مقابل قيمة الجندي الأمريكي، فالأول يكلف الخزينة الأمريكية ستة آلاف دولار سنوياً، فيما الثاني (أي الأمريكي) فإنه يكلف الخزينة تسعون ألف دولار سنوياً( ). ولكن حقيقة الأمر أن دولة مسلمة سنية مثل تركيا تستطيع أن تقسم دولة عربية مسلمة جارة لها هي العراق خدمةً لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية( ). وقد اقتنعت تركيا أن صدام حسين لا يتقن السياسة والحرب وهو يريد أن يستفاد من الفراغ السياسي الذي تركه انهيار السوفييت عام 1991م بدون استشارة واشنطن( ). إن تطورات الأحداث، أكدت أن صدام حسين وقع في الفخ الأمريكي( ). فقد قال الرئيس الأمريكي بوش (الأب) في اليوم الأول من حرب الخليج، أن هـدف أمريكـا هو بناء نظام جديد للعالم( ). وبالتالي فقد شكلت حرب الخليج الثانية (حرب الكويت عام 1991) فرصة كبيرة لأن تقوم أمريكا من خلالها استعراض قوتها أمام العالم، وكان استعراضاً ناجحاً( ).
وفي خضم هذه التطورات، طالب الرئيس التركي "سليمان ديمرئل" بترسيم جديد للحدود التركية العراقية لمنع تسلل المتمردين الأكراد من كوردستان العراق. وعدّ أن منطقة ولاية الموصل لا تزال تابعة لتركيا. وفي هذا المجال قال سليمان ديمرئل أنه يجب تصحيح هذه الحدود التي تمر فوق الجبال بحيث ينزل الخط الجديد إلى سفوح الجبال في الأراضي العراقية لمنع عمليات التسلل التي يقوم بها المتمردون الأكراد الأتراك( ). وأكد ديمرئل أن هذه الحدود هي خط النفط، فحدود تركيا تبدأ من حيث ينتهي النفط، تبعاً لتحديد علماء الجيولوجيا، ولم يتضمنها الميثاق الوطني. وأكد أيضاً أن ولاية الموصل لم تترك للعراق بموجب معاهدة لوزان تموز 1923، وأن لواء الموصل ما زال تابعاً لتركيا، وأضاف سليمان ديمرئل أن الموصل كانت سنة 1924 داخل حدود الميثاق الوطني، وقد تركت إلى العراق سنة 1926 اثر الانتفاضات الكوردية سنة 1925 في تركيا، وقد شكل ترسيم الحدود بين تركيا والعراق نقطة خلاف بين تركيا وبريطانيا، لأن العراق وضع تحت الانتداب البريطاني حتى العام 1932( ).
والحق، كان هناك رد فعل كبير من جانب العراق إزاء تصريحات سليمان ديمرئل. وفي هذا المجال، صرح ناطق باسم مجلس قيادة الثورة العراقي ما يأتي: "تلقى العراق باستنكار شديد التصريحات التي نسبت إلى السيد سليمان ديمرئل رئيس جمهورية تركيا التي دعا فيها إلى إعادة ترسيم الحدود بين العراق وتركيا بذريعة مكافحة الإرهاب، وقد تم تكليف وزارة الخارجية بطلب إيضاح عن هذه التصريحات من الحكومة التركية( ). ومن جانب آخر حذرت الجامعة العربية من الانعكاسات السلبية التركية الداعية إلى ترسيم جديد للحدود مع العراق مؤكدة تمسكها بوحدة وسلامة الأراضي العراقية. وأعربت الأمانة العامة للجامعة في بيان عن أسفها الشديد لتصريح سليمان ديمرئل مؤكدة تحذيرها من مثل هذه التصريحات المنافية لقواعد ومبادئ القانون الدولي لأنها لا تخدم العلاقات والمصالح العربية التركية( ).
إلا أن صدور قانون تحرير العراق الذي أقرهُ الكونغرس الأمريكي عام 1998. قد هيأ الطريق لإزالة صدام حسين من السلطة، ورسم للكرد طريقاً لإنجاز الحكم الذاتي في كوردستان العراق بعد غزو أمريكي – بريطاني لبلد ضعيف عام 2003. أما كوردستان إيران، فقد تكون الظروف السياسية الدولية هي من تروج لها وهي قابلة للظهور ... فيما يكون التفكير بكوردستان تركيا عرضة لقوة (روسيا والصين) في قادم الزمن، وباستمرارهما في السياسة المعادية للولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن التنبؤ في المستقبل القريب لظهور حكم ذاتي للكورد في تركيا، وقد يكون البديل الجديد هو كوردستان سورية.
-----------
( ) أهل الفرهود مصطلح بغدادي للجماعات التي ترغب بالنهب والسلب كما حدث لبيوت ومحلات اليهود في بغداد في أعقاب خسارة حرب مايس 1941.
( ) نوري المرسومي، المصدر السابق، ص84.
( ) صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في 4 آذار 1991م.
( ) أغلقت معظم السفارات الأجنبية في بغداد أبوابها، ورحلت موظفيها إلى الأردن، أما السفارة الألمانية فقد بقي طاقمها يعمل في بغداد، والأكثر أن ذلك العمل كان مبرمجاً لنقل ما يجري داخل العاصمة وقت الحرب. أنظر: إبراهيم الشمري، المصدر السابق، ص 148.
( ) محمد حسنين هيكل، المصدر السابق، ص575.
( ) كمال مجيد، المصدر السابق، ص 115.
( ) هادي حسن عليوي، المصدر السابق، ص 114.
( ) ماريوت فاروق سلوغلت، بيتر سلوغلت، المصدر السابق، ص 381.
( ) هادي حسن عليوي، المصدر السابق، ص 115.
( ) زينب السويح (ذكريات عن عراق حر- النار للمرة الأخيرة) مجلة الجمهورية الجديدة الصادرة في 25 آذار 2003م.
( ) ابراهيم عبد الطالب، المصدر السابق، ص 407.
( ) حسن لطيف الزبيدي، المصدر السابق، ص160.
( ) كان لدى العراق بعد حرب الكويت عام 1991 م ما يقارب ( 20-25) فرقة من أصل (55) فرقة اشتركت بالحرب. وهو ما يعني أن (1500-1800) دبابة لا زالت في الخدمة من أصل (4000) دبابة و(3000-3500) مدرعة من أصل (7000) مدرعة، فيما كان للحرس الجمهوري (6) فرق قادرة على انجاز واجباتها بكفاءة في منطقة كوردستان، أنظر: محمد حسنين هيكل، المصدر السابق، ص 576.
( ) كمال مجيد، المصدر السابق، ص 116-117.
( ) إبراهيم عبد الطالب، المصدر السابق، ص 409.
( ) حلبجة، روجّت إيران أخبار عن استخدام العراق للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في حلبجة في نهاية حرب الثمان سنوات، ولا يزال الموضوع مثار جدل كبير عن الطريقة والوسيلة التي استخدمت بها الأسلحة المحرمة دولياً. ولم تذكر السلطات التركية التي استقبلت آلاف اللاجئين الأكراد وجود مثل هذه الإصابات وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، وكان التحذير العراقي لاستخدام الأسلحة الكيماوية خدعة من خدع الحرب وغايتها إنهاء الحرب بأقل وقت ممكن.
( ) كان جلال الطالباني في زيارة إلى واشنطن في 10 آب 1991م، والتحق به الدكتور نجم الدين كريم (الطبيب الخاص له)، ولطيف رشيد (صهر الطالباني) وكان هم الطالباني أن يرتب له صديقه بيترو. غالبريث لقاءات مع بعض اعضاء الكونكرس الأمريكي لشرح القضية الكوردية، أنظر: بيترو. غالبريث، نهاية العراق، كيف تسبب التصور الأمريكي في إشعال حرب لا نهاية لها، ترجمة إياد حميد، بيروت، الدار العربية للعلوم، 2007، ص52.
( ) إبراهيم عبد الطالب، المصدر السابق، ص 408.
( ) بيترو. غالبريث، المصدر السابق، ص63-65.
( ) محمد حسنين هيكل، حرب الخليج، أوهام القوة والنصر، ط1، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992م، ص 580.
( ) جون ميجر: سياسيي بريطاني ولد في 29 آذار عام 1943 في لندن لعائلة محدودة الدخل تولى رئاسة الوزراء في بريطانيا من (28 تشرين الثاني 1990 إلى 2 مايو/ أيار عام 1997). في سن السادسة عشر ترك ميجر المدرسة ليبحث عن عمل، وعمل في أحد البنوك سنة 1965، ليرتقي بسرعة في السلم الوظيفي حتى صار نائباً لمدير البنك، وفي سنة 1968 دخل جون ميجر العمل السياسي مع حزب المحافظين ليفوز في الانتخابات المحلية، وفي سنة 1979 فاز جون ميجور بمقعد للمحافظين في البرلمان البريطاني وهي السنة نفسها التي فازت فيها مارغريت تاتشر برئاسة الوزراء، وتولى بعد ذلك العديد من المناصب الهامة مثل وزارة المالية بين 1989 ووزارة الخارجية سنة 1989، حتى اصبح رئيساً للوزراء سنة 1990 واستمر حتى عام 1997. كانت فكرة عزل كوردستان العراق عن حكومة بغداد هي التي تقدم بها جون ميجر.
( ) Dr. Najeeb Al- Nauimi and Richard Meese Martinus, International Legal Issues rising under the UN Decade of International Law, Nijhoff Publisher London,1995, p. 858.
( ) أحمد نوري النعيمي، المصدر السابق، ص 291.
( ) محمد حسنين هيكل، المصدر السابق، ص560.
( ) كان جلال الطالباني لا يثق بوعود الرئيس الأمريكي بوش، ولا يريد التعاون معه، ويجد أن بوش شجعهم على الثورة ثم أعطى لصدام حسين الضوء الأخضر لمهاجمة كوردستان، وأن الوثائق هي هدية شخصية لبيترو. غالبريث وليس للرئيس الأمريكي بوش؟ أنظر: بيترو.غالبريث، المصدر السابق، ص79-80.
( ) بيترو. غالبريث، المصدر السابق، ص77-78.
( ) بيترو. وغالبريت، المصدر السابق، ص 80.
( ) صحيفة صباح التركية الصادرة في (6) نيسان 1991.
( ) هيثم الكيلاني، تركيا والعرب، دراسة في العلاقات العربية التركية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، 1996، ص59-ص60.
( ) احمد النعيمي، المصدر السابق، ص 240.
( ) يحرص المسؤولين الأتراك على التمييز بين الأكراد وعدم وضع الجميع في سلة واحدة. وفي نظرهم ينقسم الأكراد إلى فئتين، الأولى تتعايش مع الأتراك بأمان وتؤلف جزءاً من النسيج الوطني واستطاعت أن تصل إلى أعلى المناصب في الدولة مثل الرئيس الراحل توركت أوزال ورئيس مجلس النواب حكمت جتين، ويقولون أن 1/3 أعضاء مجلس النواب هم من الأكراد بعضهم أحفاد الشيخ سعيد بيران الذي قاد الثورة الكوردية عام 1925م. ويرى كثيرين أن من المستحيل تحقيق انتصار عسكري على شعب رغم ضعف حزب العمال الكوردستاني PKK وتقهقره. انظر: عايدة العلي سري الدين، المسألة الكوردية في ملف السياسة الدولية، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط1، 2000م، ص 226.
( ) محمد نور الدين، المسألة الكوردية في تركيا بعد اعتقال أوجلان، مجلة الشرق الأوسط.
No. 78-79 Dec. 98/Jan, 1999.
( ) صحيفة الفيغارو الفرنسية الصادرة في 13 آذار عام 1992م.
الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي
3834 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع