بقلم الروائي العراقي طارق احمد السلطاني
عودة مُهاجِرْ
رغم التفجع على الخراب الذي اصاب بغداد فقد استعادت بغداد مركزها القديم عاصمة للمملكة العراقية التي تأسست سنة 1921 ميلادية .
ومنذ تلك الحقبة من الزمن يقوم العديد من مواطني المحافظات الاخرى الانتقال للأقامة في العاصمة بغداد. رغم وقوع الويلات والنكبات الخطيرة حتى اليوم؟
سالت اثرها الدماء انهاراً غزيرة بسبب الفتن ، الانقلابات ، الحروب ، الحصار ، الاحتلال التخلخل الاجتماعي ، اعمال الارهاب و الانفلات الامني (بما فيها التجاوزات على الارصفة والطرق والساحات والتي تشكل ظاهرة غير حضارية) ، التطرف الاثني والديني والطائفي . رغم كل هذه الظروف القاسية ، الاليمة ، الصعبة، القاهرة تبقى بغداد قوية صامدة تبقى بغداد عاصمة العراق الحبيب وقلبه النابض بالحياة والحب والخير .
تبقى بغداد عاصمة العلم والسلام لكل الانسانية ، وبإرادة ووحدة كل ابناء – نساءً ورجالاً – الشعب العراقي وانضباطه لن تغرب شمسك يا بغداد ابد الدهر.
وعلى ارض بغداد الحبيبة.. أرض السواد ..أرض التأريخ..أرض الحضارة..أرض الثقافة. كتبت قصة الاحزان الطويله عودة مهاجر.
ان حضارة ومبان وتوسع بغداد لا تزال شامخة ومكتوبة بحروف من نور فوق ارضها العزيزة.
انه الشاب ناظم ادريس الواسطي انتقل الى العاصمة بغداد . بعد ولادته في احدى اقضية لواء الكوت الذي يطلق عليه في الوقت الحاضر أسم محافظة واسط .
وعند ولادته اطلق عليه والداه اسم ناظم . وعند بلوغه السنة الرابعة من العمر ادخلته والدته دورة تعليمية تقام في احد جوامع المدينة لتدريس قراءة القرآن الكريم وكتابة وقراءة اللغة العربية .
وان انجازه هذه الدراسة قد حققت له فوائد كبيرة ومكاسب تفوق متميز على الطلبة الآخرين عند دخوله الى المدرسة في المرحلة الابتدائية . حتى صار يحقق الدرجات العليا في مواضيع اللغة العربية والتأريخ .
حتى ان اسم (( ناظم ادريس )) قد اصبح معروفا ومشهوراً لدى كافة طلاب المدرسة! لانه كان لُيحتفى به امام كافة الطلاب الذين يحضرون احتفالات رفع العلم الوطني التي تقام في نهاية كل اسبوع والتي يعرض فيها الطالب ناظم امامهم .
عند حلول العطلة المدرسية الصيفية كان يقوم ناظم بالعمل في المتجر الكبير الذي يمتلكه الحاج عامر محمود النجم لمزاولة بيع وتركيب انواع الزجاج والمرايا في السوق العام للقضاء، لقاء اجور اسبوعية للعمل ستة ايام من يوم السبت الى يوم الخميس. كما كان يحصل على الاكراميات من المبالغ المالية من بعض الزبائن والتي يطلق عليها في العراق اسم (( البخشيش)) عندما يذهب الى البيوت لتبديل وتركيب زجاج الشبابيك او مرايا دواليب الملابس والتي كانت تثبت المرآة فوق احدى ابواب دولاب الملابس التي تستطيع المرأة او العروس رؤية جمال وجهها وثوبها . ويطلق على دولاب الملابس اسم (( الكنتور )).
* * *
لهذا طلب ناظم من والده ان يجلب له صندوقا صغيراً من الخشب مع قفل _ حصالة نقود _ حتى يمكنه ادخار النقود المعدنية والورقية التي يحصل عليها لقاء مواصلة عمله في تركيب الزجاج مع الحاج عامر الذي تعلم منه كيفية التعامل مع الناس بكل صدق وامانة واخلاق طيبة . كما اقام علاقة صداقة مع العديد من شباب المنطقة ، واشترك معهم بالتعاون في ترميم بيت كبير مهجور يقع في مقدمة احد بساتين اشجار النخيل وانواع الفاكهة . يقع قبالة نهر دجلة الذي يجري عبر لواء الكوت نحو لواء البصرة جنوب العراق . ويفصل مابين البستان والنهر طريق سير السيارات الى الأقضية والنواحي والقرى البعيدة.
وقد اتخذ الشباب البيت المهجور بعد انجاز ترميمه . ناديا رياضيا محليا لتدريب السباحة والكمال الجسماني وسباقات العاب كرة القدم والطائرة والركض فيما بينهم.
وفي العديد من ايام العطلة المدرسية الصيفية يقضون معظم الوقت سوية في النادي الملحق مع البستان .
فقد اشتدت لديهم الرغبة والحب للسباحة فوق مياه نهر دجلة الخير حتى بعد تجاوزهم فترة سن المراهقة . يتمتعون بحرارة الشمس والحرية ، كما لو ان الشمس والحرية شيء واحد .
يتسلقون اشجار النخيل والتوت العاليتان ، يقطفون ثمار التمر والتوت . ثم يجلسون تحت ظلالها الوارفة ، يتبادلون الاحاديث والاكل بهدوء . حتى الاكتفاء من اكل الثمار الناضجة . وقد يتعجب القارئ العزيز عن التجربة الحقيقية عند تسلق اشجار النخيل كُنتُ ابلغ من العمر 12 سنة _اثنى عشر سنة _ (( دون العدة اليدوية التي يستعملها الفلاحين عند مواسم التقليم والتلقيح وقطف عناقيد التمور )) بأستعمال يداي وقدماي وصعود اشجار النخيل بهذه الطريقة تشبه تماما، أو يُقال تشبه بالضبط طريقة صعود القرود الى اشجار جوز الهند لقطف ثمار حبات جوز الهند . لكن! الانسان عند صعوده اشجار النخيل لقطف التمور يعلق علاقة على كتفه تُصنع في العادة من سعف النخيل. يجمع فيها التمور. وفي بعض الاحيان تربط العلاقة بحبل طويل. ثم يقوم صاعود النخلة بأنزالها نحو الارض بهدوء بعد ان تعبأ بالتمور .
ورغم حرارة الصيف الشديدة ! فثمار التمور عند قطفها تكون باردة ، لذيذة الحلاوة . . . خاصة بعض انواع التمور من البربن الاحمر والخستاوي والشكري والسلطاني والزهدي والفاكهة والخضروات .
وان ممارسة الرياضة واكل الغذاء الصحي خير دواء لصحة الانسان واطالة سنوات عمره .
الحقيقة ان الزيادة في انتاج التمور والفواكه والخضروات في فصل الصيف في العراق تجعل من الصيف صديقا للفقراء!
وعندما كان ناظم يتعرى في مراهقته ويسبح فوق مياه نهر دجلة الخير ، ويستحم في ضحى ربيعي، وتعبق ازاهير برية في منخريه ، ويستنشق بضياء الشمس الاعالي ، وتدغدغه مويجات النهر بهدوء ، كانت احلام المراهقة نوافير قزحيَّة اللون ، تطيِّره الى حبيبته العاصمة بغداد ! وقد استقرت في عقله وقلبه وروحه فكرة الانتقال الى بغداد فور التخرج من مرحلة الدراسة الثانوية* للدراسة في احدى الكليات او المعاهد. كي يحقق احلامه وآماله عند بلوغه سن الشباب للأقامة والعيش والعمل ببغداد .
*الدراسة الثانوية : كانت الدراسة الثانوية في تلك الفترة من الزمن خمس سنوات . ثم تم تمديد الدراسة الى ست سنوات واطلق عليها اسم الدراسة الاعدادية في الوقت الحاضر .
لم يقتصر اعتماد ناظم في تعليمه على الكتب المدرسية المقررة فقط. بل كان يقوم بشراء العديد من الكتب والمجلات الادبية والفنية الاسبوعية والشهرية التي كان اسمها العالم .
كما واصل قراءَة الكتب التأريخية عن بغداد كل ما ورد في الكتب التأريخية العديدة . حتى ان ناظم تولع في حب بغداد منذ بلوغه سن المراهقة !
وهكذا يبعد عن نفسه ، لساعات قصيرة ، الاشباح الكئيبة في تلك السن التي خرج فيها الحيوان الاعجم داخل جسده لينادي بحقه في الحياة ! حتى صار يفضل المثابرة على القراءَة . حيث تمكن من اخماد انفاسه وكبح جماحه متخطيا مرحلة المراهقة الخطيرة بطفرة نوعية الى مرحلة الشباب والرجولة بصورة مباشرة. فقد اخذ يعمل بهمة ، والهمة بطبيعتها تنضج الانسان بسرعة . والعمل بطبيعته ينضج الانسان بسرعة ، وبهذا دخل ناظم في عمر النضوج بأسرع مايمكن . يحب القراءة ، ويحب السباحة في النهر دجلة الخير عند حلول فصل الصيف.
تمر الساعات مثل الايام ، والايام مثل السنين . وتصير اكثر ثقلاً ، كانت الحياة من حوله حركة ، فقد نزل ناظم الى ميدان العمل في سن مبكرة عند توقف الدراسة أثناء حلول العطلة المدرسية الصيفية . حتى هذا اليوم الذي بدأ فيه الدراسة للصف الخامس الثانوي الفرع الادبي ونهاية الدراسة الثانوية . لتحقيق رغبته في اتمام دراسته في احدى الكليات او المعاهد ببغداد .
وفي نهايه السنة الدراسية الثانوية أُعلنت النتائج النهائية. فحصل ناظم معدل مجموع درجات كان عاليا يُسمح له مواصلة دراسته العليا في احدى الكليات ، خاصة الكلية العسكرية او كلية الشرطة .
لكن والده ! رفض رفضاً باتا سفر ولده ناظم الى بغداد للدراسة في احدى الكليات لأنه يشعر بالخوف لأسباب قوية من ان ولده اذا سافر للدراسة لمدة اربع سنوات في احدى الكليات ببغداد سوف يحرم من رؤيته بصورة نهائية .
لأن بغداد ستسِحُرهُ للأقامة فوق ارضها للعيش والعمل مدى الحياة!
ان رفض والده السفر للدراسة ببغداد صار امامه عقبة كأداء اشبه بجبلان صخريان اغلقا عليه طريق المرور للوصول الى دخول احدى الكليات ببغداد التي يرغب اتمام دراسته العليا فيها .
* * *
لا يفوتنا ان نذكر الاسباب الحقيقية التي دفعت قرار السيد ادريس الواسطي الى منع ولده ناظم من السفر الى بغداد لاتمام دراسته العليا في احد الكليات هناك . لانه كان يمتلك متجراً كبير المساحة تم بناءه على شكل غرف عديدة متلاصقة الواحدة الى جانب الاخرى وعلى جهتي اليمنى واليسرى .
ذات سقوف عالية يفصل بينهما شارع _ ممر _ مبلط لدخول وخروج الشاحنات التي تنقل المواد الغذائية التي تباع بسعر الجملة الى صغار التجار ويطلق على المحل التجاري هذا ( الخان ) .
لخزن وبيع وتوزيع المواد الغذائية مثل صفائح الدهن الحيواني والنباتي والرز والطحين والباقلاء والفاصوليا والحمص والشاي والسكر والصابون والتبغ وغيرها.
لكن ! ابنه ناظم منذ طفولته لايذهب الى متجر والده لغرض الزيارة او العمل .
لأنه يتضايق من استنشاق روائح الصابون وغيرها . رغم ان اسباب منع والده لاتمام دراسته العليا في احدى الكليات الهدف منه هو اجباره على العمل معه في المتجر.
من اجل الاهتمام بمعيشة والدته واخواته الثلاثة وفاء وآمال وهبة واولادهم واحفادهم في المستقبل . لان العمل في المحل التجاري يحقق الى جميع افراد العائلة بالعيش الرغيد والرفاه والراحة لحصوله على الارباح المالية العالية . اما قيامه ببيع هذا الميراث وتوزيعه وضياعه ، للتفرغ والعمل بعد التخرج من الكلية بوظيفة في احدى الدوائر الحكومية مقابل راتب شهري قد لا يكفيه دفع تكاليف العرس والزواج لتكوين الاسرة؟!
كما سيعرض كافة افراد عائلته واولادهم واحفادهم في المستقبل الى مخاطر الفقر والعوز والجوع والحرمان ! وهذه وصمة عار ستلحقني الى قبري بعد موتي اذا لم اجتهد واخطط الى تنفيذ مايدور في عقلي وقلبي وروحي الى :
(( حماية ثروة ميراث الاجداد والاباء الى الابناء والاحفاد )).
* * *
وهذه المصيبة التي وقعت فوق رأس ناظم قد حولت ساعات الفرح التي عاشها لا توصف ! عندما استلم نتيجة نجاحه بتفوق واجتيازه مرحلة الدراسة الثانوية ، الى ساعات حزن حقيقي تخيم فوق رأسه ليلاً ونهاراً ! اخذ يخرج من البيت في الصباح الباكر دون تناول الفطور . ثم الذهاب الى مزاولة العمل في تركيب الزجاج والمرايا بمتجر الحاج عامر محمود النجم . وعند حلول الليل يعود الى البيت ويدخل الى غرفته بصمت دون ان يلقي التحيه على اي احد في البيت ! لقد اضرب اضرابا غريباً !
لقد قرر الاضراب عن تناول الطعام والحديث بأي كلام مع والديه ! بسبب رفض والده له بالسفر الى بغداد لاتمام دراسته العليا هناك . حتى خيل اليه ان الشمس توارت آسفة غاضبة، وان الغيوم تنهمر مطراً حُزناً عليه. تصور ان كل ما حوله من سكون وهدوء تحول في لحظة واحدة عاصفة هوجاء تطن اذنه ، كأنها أتيه من مكان بعيد عميق .
عمت الغرفة سحابة رمادية حزينة، لم تقدر ام ناظم على التغلب عليها ، راح ناظم يهذي ويهذي . . . كان الحزن الذي استشعره هو الحزن الذي كان خليقا بأن يستشعره امام أي امرئ تقع عيناه عليه طريح الموت ! فجأة ! دخلت الغرفة والدته وتحدثت اليه قائلة :ـ
- ولدي ناظم . ارجوك . لماذا تبدو حزينا وآثار المرض ظاهرة للعيان على وجهك . هل تشعر بأية اوجاع او آلام في جسمك ؟
رد على والدته قائلا :
- لا . لا ياأمي . ان رفض والدي لاتمام دراستي العالية في احدى الكليات في العاصمة بغداد قد ضيَّع عليَّ مواظبة الدراسة والجهود مدة 11 سنة _ احد عشر سنة _ من عمري ادراج الرياح . لقد حطم كل احلامي وآمالي ! لقد ذبحني من الوريد الى الوريد ! حتى اصبحت اليوم انسان ميت في هذه الحياة يا أُمي! لقد اصبحت خيالا من خيالات الماضي!
ردت علية قائلة :
- لاتحزن ياولدي العزيز . اصبر ياولدي لمدة ثلاثة ايام فقط. تهيأ في تحضير حقيبة سفرك الى بغداد في اية لحظة مع كافة وثائقك الدراسية ومستمسكاتك الشخصية. انني امتلك مصوغات ذهبية كثيرة ورثتها عن اهلي . سوف ابيعها غدا صباحا . وسوف اعطيك مبلغا ماليا كبيراً . وانك ياولدي ستبقى قريبا مني دائماً. لانك تسكن في اعماق قلبي وروحي ودمي ونفسي. واوصيك ان لاتخبر اي احد بسفرك الى بغداد . وسيكون موعد سفرك الى بغداد بصورة سرية تماما! ويكون الموضوع بيني وبينك فقط . واوصيك ان تحافظ على المال من السرقة او الضياع . وان تكون حذراً مع الغرباء لئلا تتعرض الى عمليات النصب والاحتيال .
وعند شروق الشمس في يوم الرحيل . اخذت ام ناظم تودع ابنها الوحيد عند الباب الخارجية للقصر بكل حب وفرح وحنان ، لانها تمكنت ان تحقق احلام وآمال بناء مستقبل زاهر الى ابنها العزيز على قلبها ناظم ! الذي اسرع في المشي عبر ارض زراعية للوصول الى الشارع الخارجي العام المبلط حديثا بالاسفلت ، والمخصص لتسهيل نقل البضائع والمسافرين مابين البصرة وبغداد عبر لوائي العمارة والكوت. بكل الحيطة والحذر من اكتشاف امر هروبه الى بغداد؟! من قبل احد السواق او مسافري الحافلات التي تنطلق من الكراج الموجود داخل المدينة . وبعد مرور فترة قصيرة صعد ناظم الى احدى الحافلات التي تعمل على خط المسافرين مابين البصرة وبغداد وبالعكس . وجلس فوق احد المقاعد. حال وصول الحافلة الى العاصمة بغداد. تم نزول المسافرين في ساحة الطيران . عبر ناظم الشارع للدخول الى حديقة الملك غازي المحاذية الى شارع الباب الشرقي المؤدي الى شارع الرشيد الذي افتتح ببغداد يوم 23 تموز (يوليو) 1916م. فجلس للاستراحة فوق احدى المصطبات المنتشرة حول ساقية ماء كبيرة المساحة شبيهة ببحيرة صناعية تمتد على طول سياج الحديقة الجانبي المحاط بأشجار الصفصاف العالية التي تصعد نحو السماء ، سيقانها ورائحتها ، تتمايل اغصانها حينما يتحرك نسيم الهواء . كانت الساقية تسحب مياهها من نهر دجلة الخير والخلود .
اخذ ناظم ينشد امامها مقاطع من قصيدة بغداد المنشورة في ديوان ظلال العهود للشاعر العراقي عبد صاحب شكر والتي اذاعها سنة 1936 قائلا :
يحتل قلبي منك يابغداد زخار شوق لاعج ووداد لناظري يلوح من مرآك ما قد سنه الآباء والاجداد , ولقيت من الم المصائب كل ما من هوله تتفتت الاكباد لم انس من عهد الشباب مجالساً للانس يمرح بينها الرواد (بابي نؤاس) حيث دجلة ينثني طرباً ولا يأتي العيون رقاد قد ذقت لذات السهاد فقلت يا ليت الليالي كلهن سهاد قل للمهاجر كيف ينعم باله افبعد بغداد هناك بلاد خرج من الحديقة نحو منطقة الباب الشرقي . انبهر لرؤية العديد من دور السينما والمطاعم وباعة الكتب والمجلات والصحف . وعند دخوله الى شارع الرشيد الذي تم افتتاحهُ يوم 23 تموز (يوليو) 1916م اخذ يمشي وسط جمع سادت الفرحة افراده . فراحوا يتبادلون الحديث كما لو كانوا يعرف بعضهم بعضاً منذ زمن بعيد !
واصل المشي فوق رصيف الجهة اليسرى من شارع الرشيد في البحث عن فندق تكون اسعار الاقامة فيه معتدلة .
حتى انه شاهد الفنادق التي شيدت على الجهة المقابلة التي تطل على نهر دجلة الذي تجري مياهه بمحاذاة شارع الرشيد. تكون من فنادق الدرجة الاولى ، واستغرب من وجود رجل يبيع انواع عديدة من باقات الزهور عند الباب الخارجية لاحد فنادق الدرجة الاولى. كما شاهد سيارات الاجرة الصالون غالبيتها من السيارات الحديثة الموديلات وتحمل علامة مدورة مطبوعة فوق زجاج مقدمة السيارة ومؤخرتها كتب عليها: ان هذه السيارة مسموح دخولها الى شارع الرشيد الذي يزدهر بالمحلات التجارية والمطاعم الفاخرة والمقاهي التي اشتهرت بالتجمعات الثقافية والفنية والادبية في عرض انتاج انواع الكتب في الشعر والنثر والنقد والرواية والقصة القصيرة .
نزل ناظم في احد الفنادق الواقعة في منطقة السنك يطلق عليه اسم فندق السعادة . سلم الى ادارة الفندق مبلغا من المال لحفظه في قاصة الفندق الحديدية لقاء ايصال أمانة .
لكن ناظم ! كان يحمل كيسا صغيرا من القماش علق برقبته ويخفيه داخل ثيابه لان الكيس يحتوي على مبلغ كبير من الاوراق النقدية من فئة كبيرة ذات فئة 50 دينار و 100 دينار والتي كانت متدوالة في العهد الملكي .
بعد استراحة في الغرفة لوقت قصير خرج من الفندق لتناول طعام الغداء . ثم جلس في مقهى ام كلثوم الواقعة بالقرب من سوق الهرج بمنطقة الميدان والذي تباع فيه كافة الاجهزة الكهربائية المنزلية المستعملة والجديدة . وتباع ايضا بعض منتوجات الصناعات اليدوية وغيرها. عند حلول العصر دخل ناظم الى احدى دور السينما لمشاهدة فيلم كانت بطلته الممثلة الامريكية مارلين مونرو الشهيرة بتمثيلها وجمالها وغنائها واغرائها وهي من مواليد 1/6/1926 م .
دخلت ميدان العمل في احد معامل الخياطة وهي في سن مبكرة فلم تكن تتجاوز خمسة عشر سنة من العمر. مما دفع احد الاثرياء الى التزامها وادخالها الى عالم السينما في هوليود لدراسة التمثيل على ايادي كبار المدربين في هوليود . وانفق عليها مبالغ كبيرة من الدولارات الامريكية . حتى اصبحت من كبار الممثلات المشهورات في الولايات المتحدة الامريكية وفي العديد من دول العالم ايضا وفي شهرة درجة الممثل الشاب جيمس دين !
حتى اخذ الجنود الامريكان يحتفظون بصورة فوتوغرافية للممثلة مارلين مونرو التي سافرت الى كوريا الجنوبية سنة 1954م للغناء والرقص لترفيه القادة والضباط والجنود المتواجدين اثناء الحرب الكورية في تلك السنة. كما انها ظهرت تغني في القصر الابيض بمناسبة مناسبة عيد ميلاد الرئيس الامريكي الراحل جون كينيدي . بحضوره شخصيا وبجانبه تغرد عيد ميلاد سعيد اليك... في هذه المناسبة وهي تغني بصوت ناعم طفولي جميل ومتميز عند دخوله اذن الانسان الذي يستمع اليها؟!
وبعد مرور فترة من الزمن صُدِمَ الناس ، صُدِمَ كل المعجبين، ومنهم كاتب هذه السطور بوفاة الممثلة مارلين مونرو بصورة مفاجئة وظروف غامضة يوم 5/8/1962م ، عن عمر 36 سنة ( ستة وثلاثون سنة)؟!
واعلن انها توفيت منتحرة بعد ان تناولت كمية كبيرة من الحبوب المنومة !
لكن! بعد مرور 53 سنة ( ثلاثة وخمسون سنة ) على اغلاق التحقيقات في مقتل اسطورة هوليود الراحلة مارلين مونرو .
اعترف ضابط متقاعد في وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي اي اي ) ، يدعى نورمان هودجز ، بأنه هو من قام بأغتيال مونرو بأمر من ادارة ال (سي اي اي ) .
ونشر موقع ذا رايفل بيرد ، خبراً مفاجئاً مفاده انه كان دخول نورمان هودجز ، ( 78 عاما) المستشفى الاثنين الماضي ، سببا في كشف جلل عن السبب الفعلي وراء وفاة مونرو ، مشيراً الى أنه نفذ 37 عملية إغتيال أُخرى لأجل خدمة لمصالح مسؤولين في الادراة الامريكية ، خلال الفترة مابين 1959 – 1972 ، بما في ذلك عملية تصفية –اغتيال – الممثلة مارلين مونرو. وأوضح هودجز ان مديراً بالوكالة ويدعى جيمس هايورث اسند له مهمه اغتيال مونرو التي ربطتها علاقة غير سوية بالرئيس الامريكي الراحل جون كنيدي وغيره من الرؤساء اذ انها لم تقم علاقة مع كنيدي فقط وإنما مع فيدل كاسترو ايضاً ، مشيراً الى انه على الرغم من انه لم يقدم من قبل قتل امرأة فاءنه لم يجد بداً من الانصياع للأوامر، وأشار الموقع الألكتروني الذي نشر الخبر الى هودجز اوضح أنَّ ثمة مخاوف إنتابت الاستخبارات المركزية الامريكية ((سي اي اي )) من ان تقوم مونرو بنقل معلومات لممثل دولة اخرى ، بشأن دوائر الحكم الامريكية ، ولهذا كان لابد من اغتيالها ) .
خرج ناظم من سينما روكسي الواقعة في شارع الرشيد ببغداد متأثراً بالأعجاب الشديد لرؤيته لاول مرة الابداع الذي قدمته الممثلة مارلين مونرو في تمثيل مشاهد الاغراء والرقص الجميل ، والغناء بصوتها الطفولي المتميز المحبوب لترفيه قلوب الصغار والكبار من كلا الجنسين ... !
عند حلول الليل ذهب ناظم لتناول طعام العشاء في احد المطاعم الشعبية الواقعة في شارع ابي نؤاس المحاذي الى ضفاف نهر دجلة، والذي يقدم اللحوم المشويه على نيران فحم الخشب، و تقدم مع المشويات المقبلات والخيار المخلل والخبز حال عودته إلى الفندق صعد الى سطح الفندق للنوم فوق احد اسرة النوم التي صفت فوق سطح الفندق للراغبين من الزبائن الراغبين في استنشاق نسمات الهواء النقي البارد الذي تفوح منه رائحة امواج مياه نهر دجلة الخير الطيبة الذي لا يبعد عن الفندق سوی خطوات قليلة. وفي تلك الليلة انتابته نوبة ارق فلم تغمض عيناه لساعات عديدة!
فقد اكتشف ان هروبه من البيت بصورة سرية لتحقيق أماله واحلامه قد فشلت ووصلت الى طريق مسدود تماما؟!
لان والده سوف يعثر عليه بكل سهولة فور دخوله إلى الدراسه في اية كلية ببغداد. لان اسمه سوف ينشر عند قبوله للدراسة في الكلية ويعلق فوق لوحة الاعلانات عند مدخل الكلية مع اسماء الطلبة الجدد.
وبأمكان والده اعادته الى لواء الكوت فور العثور على اسمه! حتی انه قد يُجبره على ترك الدراسة بأستعمال القوة؟!
وهذه المخاوف قلبت كل خُططه وافكاره رأساً على عقب وخیمت فوق رأسه كسحابة حزن سوداء. فقرر التوقف عن المراجعات والبحث عن مقعد دراسي بصورة نهائية في كلية ببغداد لكنه فَضَلَ مواصلة البحث عن محل للعمل وبيت للسكن في اطراف المدينة بعيداً عن انظار بعض الزوار الى العاصمة بغداد من سكنة لواء الكوت الذين تربطه بهم اية علاقات سابقة في المعرفة او الصداقة او القرابة.
* * *
عند حلول الصباح انطلق ناظم عبر شارع الرشيد. بعيداً عن انظار الناس. توقف عند احد المحال التجارية لشراء الملابس. استأنف المشي دون هدف او مكان محدد. حتى وصل إلى مدخل شارع ابي نؤاس المطل على طول ضفاف نهر دجلة الخالد. استأجر عربة تجرها الخيول وطلب من الحوذي اسدال المظلة حال جلوسه فوق المقعد الخلفي للقيام في جولة للاطلاع على معالم بغداد. اخذ الحوذي يسوط دون كلل الحصانين اللذين يجران العربة اندفع الحصانان يسابقات الريح!
ابتسم ناظم وهو ينظر إلى البيوت البغدادية الخالدة القديمة منها والحديثة.
يستنشق رائحة دخان شي الاسماك من جهة رصيف النهر ومن الجهة المقابلة يستمتع بجو جميل، كله معطر برائحة بساتين البرتقال! تلك البساتين المزروعة بأشجار النخيل والزيتون وكافة انواع الفاكهة وانواع الحمضيات من الليمون الحلو والحامض والنارنج. كان حوذي العربة التي تجرها الخيول رجلا كبير السن. وعند وصوله الى ناحية الكرادة الشرقية اخذ يتحدث مع ناظم اشبه بمرشد سیاحي و قال:-
- كان في هذه البقعة من الارض على ضفة نهر دجلة محطة يطلق عليها اسم ((كرد)) وهي قديمة وبدائية لسحب الماء من نهر دجلة بواسطة الدواب. حيث تقوم بالدوران حول الكرد لرفع الماء من النهر ثم يصب داخل حوض يشيد على ضفة النهر . ثم يجري الماء الذي يتجمع في الحوض بواسطة السواقي الطويلة. لسقي مزارع الخضروات والبساتين والحدائق العامة. وهناك کرد يطلق عليه اسم ((کرد الباشا)) يصب الماء في حوض الساقية التي تم تبليطها بالحجر والاسمنت الصلب ويجري الماء عبر البيوت السكنية حيث تقوم العوائل بغسل الملابس وقدور واطباق الطعام فوق رصيف الساقية المبلط بالاسمنت. ثم يجري الماء لسقي العديد من البساتين والحديقة الدائرية التي انشأت وسط تقاطع الشوارع للسير في الرواح والرجوع نحو الباب الشرقي وشارع ابي نؤاس وقد اطلق عليها اسم حديقة الفردوس وهي تشبه حديقة الملك غازي في الباب الشرقي حيث تحيطها المسطبات واشجار الياس العالية وانواع الزهور والحشيش الاخضر. كما ان نهر دجلة يجري حول ناحية الكرادة الشرقية ابتداء من مفرق الكرادة الذي يطلق عليه في الوقت الحاضر اسم ساحة كهرمانة حيث توجد شوارع بمحاذاة شارع ابي نؤاس الاول نحو الكرادة داخل والثاني حول الكرادة خارج للسير نحو المسرح الوطني ومنطقة المسبح وعرصات الهندية والناظمية. ثم معمل الصناعات الجلدية (معمل ب ت سابقا ) ثم ساحة الحرية والتي كانت مقبرة سيد ادريس ثم منطقتي الجادرية والزوية. لكن! واصل الحوذي السير بعربته فوق اسفلت شارع ابي نؤاس بعد اجتيازه المنطقة المقابلة الى ساحة كهرمانة التي يطلق عليها محلة كرد الباشا. ثم تليها مستشفى الراهبات، ارخيتة، ابو قلام، شارع اسود، شارع النقيب، محلة هويدي، محلة البوجمعة، محلة البوليس خانة، محلة البوشجاع، محلة سيد ادريس، ثم تجري مياه نهر دجلة حول الكرادة الشرقية على شكل نصف دائرة يطلق عليها محلات الزوية والجادرية والناظمية. والتي كانت اراضيها مزروعة بالبساتين التي تحتوي على اشجار النخيل والتين والزيتون والسدر(النبق) والتوت وكل انواع الحمضيات من البرتقال والليمون الحلو والحامض والنارنج وغيرها. كما توجد مساحات كبيرة من الاراضي مزروعة بأنواع الخضروات كالبامية والباقلاء والقرع الابيض والاحمر والباذنجان وانواع الخيار.
عند رجوع الحوذي إلى الشارع الذي يقع وسط الكرادة مابين شارع ابي نؤاس والكرادة خارج. وفي محلة البوليس خانه تحدث ناظم الى الحوذي قائلا:-
- قف! اوقف العربة.
مال الحوذي بكل جذعه الى الخلف جاذبا عنان الحصانين واوقف العربة على الفور!
نزل ناظم من العربة بعد دفع الاجرة الى الحوذي. بعد جولة ناظم في الكرادة الشرقية عرف انها تعتبر شبه جزيرة لان نهر دجلة يحيطها من جهاتها الثلاثة. كما اعجبته محلة البوليس خانة لأنها تعتبر المركز الحقيقي والرئيسي الى ناحية الكرادة الشرقية. لوجود مركز الشرطة ودائرة البريد والبرق والهاتف و انطلاق خطوط حافلات النقل العام الحمراء اللون الى باب الشرقي وباب المعظم بنفس محلة البوليس خانة. اضافة الى وجود الحمامات العامة للنساء والرجال والمكتبة الخاصة لبيع القرطاسية والكتب والصحف اليومية ومخابز للخبز والصمون واسواق عامرة بالخضروات والفواكه واللحوم وكافة المواد الغذائية المنزلية. كما يوجد نادي رياضي بالقرب من شارع المصارع العراقي عباس الديك. لا يفوتنا أن نذكر اسباب عرض الخضروات والفواكه الطازجة في السوق لان شراؤها باسعار الجملة يتم في المحل التجاري الذي يطلق عليه اسم ((العلوة )) لانها تورد من المناطق الزراعية القريبة في مناطق الزوية والجادرية والقری الواقعة في الضفة المقابلة لنهر دجلة في الدورة والقری الاخری الى ديالی ويتم نقلها بواسطة العبارة الكبيرة التي يتم سحبها بواسطة الزوارق النهرية ما بين ضفتي نهر دجلة ما بين الدورة والمسبح في الكرادة الشرقية والتي تورد محملة على شاحنات النقل الصغيرة (البيكب) او على ظهور الدواب من البغال والحمير الى المحل التجاري لبيع الخضروات والفواكه بالجملة او بطرق المزايدات ويطلق عليه اسم العلوة.
وفي الزمن الماضي تم تشييد محطة لتصفية مياه الشرب بطرق بدائية قديمة بعد سحبها من مياه نهر دجلة في محلة الناظمية وتم نصب خزان ماء كبير فوق ركائز حديدية عالية لتوزيع الماء الصافي الى الدور السكنية في منطقة الناظمية وما حولها في الكرادة الشرقية التي يحيطها نهر دجلة من جهاتها الثلاثة. ونظرا لزيادة عدد السكان في بغداد تم تغيير صنف الاراضي الزراعية الى اراضي سكنية وتجارية وصناعية. لهذا تم تغيير صنف الاراضي الزراعية الواقعة مابين محلتي الناظمية والمسبح إلى صنف ارض سكنية وتجارية. و تم رسم وتخطيط الخرائط والمساحات للشوارع والدور السكنية والمدارس والمرافق الخدمية والاسواق التجارية والحدائق العامة واطلق على هذه المحلة الجديدة اسم عرصات الهندية.
بعد اتمام افتتاح ناظم الى المحل التجاري. ومباشرته اعمال تركيب انواع الزجاج الشفاف والمشجر والملون للشبابيك المنزلية وتأسيسات انابيب الماء والمرافق الصحية والمغاسل الاخرى. وبنفس الوقت باشر التدريب لممارسة رياضة الكمال الجسماني في النادي الرياضي الواقع في الجهة المقابلة لمحله التجاري. وقد تعرف الى العديد من اعضاء النادي الذين عرفوا بقضية الشاب ناظم الذي ترك بيت اهله في لواء الكوت وهاجر الى العاصمه بغداد من اجل مواصلة دراسته في احدى الكليات. لكن! وقع ناظم في ظروف شخصية قاهرة خارجة عن ارادتة حالت دون امكانه من التسجيل في احدى الكليات ببغداد او الرجوع الى البيت في الكوت!
اخذ يشعر بخوف شديد من اطالة ايام اقامته فقد عرف ان والده السيد ادريس الواسطي قد قرر رفض رجوعه الى البيت وابلغ والدته مايلي:-
- ان ترك ناظم للبيت بصورة مفاجئة بعد رفضه العمل معي بالتجارة قد سبب لي صدمة قوية لا يمكنني ان اسامحه على هذا العمل الشنيع! لذا قررت ان لا ابحث عنه في اي مكان. ولن اسمح له بالرجوع الى البيت بصورة نهائية. وسوف احرمه من الميراث بعد موتي في المستقبل! فقد تأكدت من ان ولدي ناظم لا يحترم ولا يطيع والديه على الاطلاق! اخذ يشعر بخوف شديد من اطالة اقامته في العاصمه بغداد عاطلا دون اي عمل الى تعرضه الى صرف مبلغ المال الذي يمتلكه حتى اليوم.
لهذه الاسباب الضرورية للمعيشه اضطر للعمل في تركيب انواع الزجاج للشبابيك المنزلية، وتأسيسات انابيب الماء والمغاسل والمرافق للبيوت ايضاً. رغم ان بعض البيوت تكون بعيدة عن موقع محله التجاري وبقائه في العمل لساعات طويلة ومتعبة بنفس الوقت.
وفوق كل هذه المصاعب والتعب الجسماني الذي يتعرض له اثناء العمل، يواظب الحضور الى النادي الرياضي لمواصلة التدريب الى رياضة الكمال الجسماني. لهذا اخذ الجميع ينظرون الى ناظم نظرات محبه واعجاب، فهو بهي الطلعه، طويل، رشيق القامه، يصفف شعر رأسه الداكن السواد الى الاعلى لتبرز جبهة عريضة فوق عينين نرجسيتين ، يفصل بينهما حاجبان كثيفتان في الشعر. حتى اخذ العديد من اعضاء النادي الرياضي يعملون على دعم زميلهم ناظم. فكان من دواعي سرورهم ان يكون ناظم قريباً منهم اذ انهم شعروا بفوائد تلك الزمالة والصداقة والمثابرة الممتازة التي كانت بمثابه مدرسة جميلة لهم. لطالما اعتزوا وتفاخروا برؤية زميلهم، يعمل بكل جهد نهاراً ويواصل التمارين الرياضية في النادي.
وعند حلول موسم الصيف تقدم بدراسة واقتراح الى الهيئة الادارية للنادي الرياضي للموافقه على اقامة فرع للنادي بصورة مؤقتة خلال موسم الصيف على ضفاف نهر دجلة لتدريب السباحه. كما تعهد ان يتفرغ للمراجعة على استحصال الموافقات الرسميه من الدائرة المختصة في امانه العاصمة.
كما اضاف الى دراستة ان الرياضة والغذاء خير دواء لصحه الانسان واطاله سنين عمره.... والتمارين الرياضيه 15 دقيقه يومياً( خمسة عشر دقيقه يومياً ) كالمشي والركض والسباحه تقوي المناعه والتنفس ودورة الدم ووظائف الجهاز المناعي الذي يتخلص من الامراض المعدية.
كما ان للسباحه فوائد صحيه عديدة لجسم الانسان. خاصه تنشيط الدورة الدموية للشباب من الجنسين. وان تعلم السباحه من المتطلبات الضرورية لاحتياج الانسان في الحياة. خاصه في حالات الطوارئ اثناء موسم ذوبان الثلوج وزيادة مياه الانهار تؤدي الى وقوع الفياضات التي تقع فوق كوكب الأرض.
وبكل فخر ونشاط انجز ناظم تشييد فرع للنادي الرياضي بصورة مؤقته على ضفاف نهر دجلة وبمساحة واسعه في الكرادة بتشيت اركانه بأعمدة خشبيه من جذوع اشجار الصفصاف اليابسة وسعف النخيل وحصران البردي.
بعد فترة الظهيرة يومياً يتم حضور العديد من اعضاء النادي للسباحه. اما الاعضاء المبتدئين الجدد فيتم تدريبهم في الاماكن القريبة من جرف النهر وبعيداً من الاماكن العميقه لئلا يتعرضوا الى مخاطر الغرق!
وعند فترة الاستراحه بعد انتهاء السباحة تقدم الى الاعضاء وجبات خفيفة من الطعام مثل الفاكهة او وجبه الرقي اي البطيخ الاحمر الحلو مع الجبن الابيض الطري والصمون او ارغفة الخبز. ولا يفوتنا ان نذكر ان البطيخ الاحمر يتم وضعه في داخل سلال قبل الاكل ثم يتم تبريده تحت ماء النهر. بعدها يقطع الى قطع صغيرة ليؤكل طعاما بارداً وخفيفا وصحيا ولذيذا مع الجبن والصمون.
* * *
بعد مضي سنة استطاع ناظم ان ينسجم مع هذه العائلة الرياضية الجديدة، السعيدة بعملها، الا وهي العائلة الرياضية، لقد سارت الامور على ما يرام.
وكان ذلك بالنسبه اليه حياه جديدة!
يعمل بهمة، والهمة بطبيعتها تنضج الانسان بسرعه. والعمل بطبيعة ينضج الانسان بسرعه، وبهذا دخل ناظم عمراً شبيه بعمر الرجال وقد اجتاز مرحلة الشباب بسرعه. يحب القراءة والسباحه في نهر دجلة عند حلول الصيف. حيث تجرى السباقات الثنائية بينه وبين صديق طفولته وحيد يبدأ السباق بينهما من ضفة الانطلاق دون توقف. وفي ايام العطل كانا يسبحان منذ الصباح الباكر، حيث تكون مياه النهر دافئة، رقيقه. حتى ان ناظم كان يشجع اصدقاؤه ومعارفه الاخرين على تعلم رياضة السباحة. نظرا لفوائدها الصحيه العديدة لجسم الانسان وعلى وجه الخصوص تنشيط الدورة الدموية للشباب من الجنسين. كما ان السباحة من المتطلبات الضرورية لكل انسان في الحياة.
كما توجت حياته بالعاطفة الرقيقة، وتكاملت اخلاق روح متوثبة نادرة المثال، ويتجلى شأن العاطفه لديه في ميادين شتى من اهمها: حب الله، حب الناس، حب الارض، حب الوطن، حب الاهل، حب الاصدقاء والمعارف، حب الاجتهاد، حب المثابرة، حب التعليم، حب القراءة، حب السباحة، حب الثقافة، حب النجاح، حب الخير، حب الحق، حب الصدق، حب الحرية، حب الديمقراطية، حب الاخلاص، حب العمل، حب الوفاء، حب الامانه، حب الاحسان، حب النزاهة، حب العقل، حب الحكمة، حب الفضيلة، كذلك حب الجمال في مظاهره السامية، وتذوق جمال الاصوات والانغام والالحان. وكل هذه السيرة الحسنة، والاخلاق الجميلة والمجسدة بالعلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير. وشئ من هذه الصفات لايدرك بالحواس الباطنية، وكل هذه الخلال محبوبة والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته. وانه شاب متعلم ونشط وله مستقبله الزاهر في المجد والثراء.
ناظم متميز على نحو عجيب، بانهمار النعم عليه، كان يفوق الجميع بلطفه وجماله وكان ذكاؤه من النوع الذي ليس اكتسابا بالمعرفه، بالنسبة له، عمله بقدر ماهو حدس وضرورة. كان يبدو ان هناك نمطا عاديا من الحياة.
فالشعور بالجمال فطري في الطبيعة البشرية. وان انفعال الانسان بالجمال منذ بدء حواسه في الادراك وتعلق ارواح الاطفال البريئة بكل جميل تدركه حواسهم ابلغ دليل على فطرية المتعة الجمالية في طبيعه الآدمي الرائعة.
وهي قمة لذات ابن آدم التي تبدأ عند الطفل بلذة اللعب.
وتأتي بعدها لذة الزينة ثم لذة الجنس. وبعدها لذة الرئاسة ثم لذة العلم والمعرفه التي اعلاها لذة معرفة الامور الآلهية، وهي تكون في سن الاربعين، فان كل جمال محبوب عند مدرك الجمال، وذلك لعين الجمال. لان ادراك الجمال فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها.
وللآنسان حواس خمس, لكل منها موضوع تدركه ولذة ببعض ما تدرك، فتحبه وتميل اليه بطبيعتها : فلذة العين في الابصار ورؤية الصور الجميلة، ولذة الاذن في النغمات الطيبة والموزونة ... ويقر بوجود جمال محسوس يلتذ به عضو الحس، وهذا احد الاراء في التجربة الجمالية . لكن للانسان حسا سادسا ( مظنته القلب، لا يدركه الا من كان له قلب). او(البصيرة الباطنة )
ان البصيرة الباطنة اقوى من البصر الظاهر. والقلب اشد ادراكا من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل اعظم من جمال الصور الظاهرة للابصار.
وهناك ثلاثة اشياء ضرورية للجمال:
الاكتمال، التناسق، والبهاء . هل تتطابق هذه الاشياء مع اشكال الادراك؟ والصفة العليا للجمال هي انه نور من عالم آخر ...
يشار الى كلمة الجمال في التقاليد الادبية، اما بمعناها الشائع فهو شيء آخر. ان النفوس تلتذ النظر الى الماء الجاري وانواع الازهار والاطيار الجميلة. دون ان يكون مع ذلك اشتهاء، بل ( ان الانسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر اليها لا لطلب حظ وراء النظر) ومن ملامح الجمال الظاهر في الانسان ( ارتفاع القامه على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الاعضاء وتناسب خلقه الوجه. بحيث لاتنبو الطباع عن النظر اليها ).
كذلك حسن اللون وكون البياض مشربا بالحمرة وامتداد القامة الى غير ذلك مما يوصف في جمال الانسان، فان الحسن الاغلب على الخلق حسن الابصار. واكثر التفاتهم الى صور الاشخاص، فيظن ان ما ليس مبصرا ولا متخيلا ولا متشكلا.
* * *
اخذت عين ناظم تدرك لذة الحسن والجمال، الظاهر والباطن، وكذلك الصور الجميلة!! زايله الخوف والخجل من النساء!! بفعل الحس بلذة الجمال المميز في المرأة.
سار ناظم سيراً حسناً لا تشوبه شائبة في تقديم افضل الخدمات للناس في تركيب الزجاج وتأسيسات انابيب الماء للبيوت والمطاعم بكل همة ونشاط.
لقد احب العمل كثيراً، وكان ما يفرحه هو تقديم افضل الخدمات لكل افراد وهيئات المجتمع كافة دون اي تمييز مقابل اجور لا تقبل المنافسة على الاطلاق. فهو يكره الجشع التجاري كرهاً شديداً. ويعمل مع العاملين معه كخلية نحل! مثلما ينتج النحل العسل الطبيعي الممتاز الى صحه الانسان. فهم ينتجون الاعمال بصورة فنية ممتازة بكل جد واهتمام وأمانة وثقة واخلاص. لهذا اشتهر ناظم بسمعة طيبة. وتلقى دعم الكثيرين من معارفه واصدقائه في النادي الرياضي ومنهم التاجر محمود ابراهيم الذهبي وهو من كبار تجار الاقمشة الصوفية لخياطة البدلات الرجالية والنسائية الشتوية والتي يتم استيرادها من المعامل القديمة والشهيرة في العالم، خاصة من المعامل الاوربية والانكليزية. كذلك يعمل في النادي كمدرب للكمال الجسماني للمبتدئين. كما اقام علاقة صداقة مع وسام حازم الحسيني الذي يتدرب معه في رياضة الكمال الجسماني والذي تحدث مع والده الذي يمتلك شركة كبيرة لتنفيذ مشاريع مجمعات سكنية تتكون من ألآف البيوت والشقق السكنية. فطلب من والده ان يتعاقد مع ناظم على تنفيذ اعمال تركيب انواع الزجاج، وتأسيسات انابيب الماء الى احدى مشاريع الاسكان.
على الفور! وافق والد وسام على التعاقد مع ناظم ادريس الواسطي على تنفيذ عقد تركيب الزجاج ومد انابيب الماء الى مشروع اسكان يتكون من 4000 بيت( اربعة الاف بيت ). ودفع الى ناظم سلفة مقدما على الحساب بمبلغ خمسة ملايين دينار. وتم توقيع العقد بحضور صديقه وسام في مقر الشركة شكرهم ناظم وودعهم بكل ادب واحترام.
اودع ناظم مبلغ السلفة في البنك وقام بتسليم المحل التجاري في الكرادة الى احد العاملين معه من الذين لديهم الخبرة والكفاءة والامانه على الاستمرار بالعمل. كما استأجر قصراً مؤثثاً في منطقة عرصات الهندية.
كما استأجر خان كبير المساحة كان يستخدم في الماضي كفندق للتجار كما ملحق بعدة قاعات وغرف كبيرة كانت تستعمل كأسطبل لِلْجِمالْ والبغال والحمير التي تنقل البضائع من الدول المجاورة الى العراق. ويقع الخان في منطقة باب الاغا مابين شارع الرشيد وسوق الشورجة التجاري. وقام بتوكيل محامية لتسجيل شركة ناظم للتجارة العامة_ مشروع فردي برأس مال قدره 100,000دينار ( مائة الف دينار عراقي ). كما اشترى سيارة صالون حديثة وسجلها بأسمه لتسهيل تنقلاته لشراء كافة المواد التي يحتاجها لتنفيذ العقد لتركيب انواع الزجاج وانابيب الماء والحنفيات والاقفال وغيرها، من تجار الجملة. كما قام في مراجعة العديد من المكتبات التي تبيع كتب القانون والتجارة والاقتصاد والقواميس والمصطلحات التجارية والمحاسبة وغيرها. وعند تأثيث الشركة اضاف الى اثاث غرفة الاجتماعات مكتبة كبيرة مصنوعة من الخشب الصاج. واوصى صديقه وسام ان لا يخبر احداً عن خبر تعاقده للعمل مع والده في الشركة خوفا من العادات الضارة لدى بعض الناس في الغيرة والحسد ونشر الاخبار الى كبار تجار الجملة الذين سيبادرون احتكار المواد الاولية وفرض زيادة للأسعار وخلق عثرات ومواقف خطيرة امام تنفيذ انجاز المشروع التي تؤدي الى توقف العمل وتأخيره واضرار وخسائر مالية كبيرة!
لهذا قام ناظم تسليم اعداد كبيرة من البيوت بعد الانتهاء من تركيب الزجاج وتأسيسات انابيب الماء وملحقاتها بعد مرور شهر واحد على المباشرة في تنفيذ اعمال المشروع الى المجمع السكني.
* * *
التقى ناظم مع صديقه التاجر محمود ابراهيم الذهبي الذي دعاه الى بيته يوم الجمعة القادمة لتناول طعام الغداء، وبنفس الوقت الاطلاع على كافة الشبابيك في قصري وقصر شقيقتي نجوى وتغيير الزجاج الى زجاج مقاوم للكسر. بسبب وجود شبابيك كبيرة تطل على الشرفة الواقعة في الطابق العلوي قبالة الشارع العام. فقد وقعت حادثة خطيرة في يوم عيد ميلاد ابنتي الصغيرة سمر! فبعد انتهاء الاطفال من اكل الكعك المحلي( اي الكيك ) وشرب عصير البرتقال الطبيعي والمشروبات الغازية الاخرى، بمناسبة عيد ميلاد ابنتي سمر. فعندما صعد الاطفال الى الطابق العلوي كُسِرَ زجاج الشباك الكبير الذي يشرف على الشرفة الخارجية المشيدة في الواجهة العلوية للقصر المقابلة للشارع العام. رغم ان الباب التي تؤدي الى الشرفة مقفولة، فقد تمكن الاطفال من العبور عبر الشباك الذي تم كسر الزجاج العادي الذي تم تركيبه اثناء بناء القصرين. قصري وقصر اختي نجوى. وقد اخذ عدد من الاطفال يلعبون فوق سياج الشرفة! وقد استلفت ذلك نظر احد المارة الذي اضطر الى وقف سيارته على الفور! طرق باب القصر الخارجية وتحدث الينا قائلا:
- ان عدد من الاطفال يلعبون فوق السياج الحديدي لشرفة الطابق العلوي! فشكرته كثيراً على اخبارنا وقمت بأنزال الاطفال فوراً الى الطابق الارضي. رد عليه ناظم قائلا:
- طيب ياسيد محمود سوف احضر الى بيتكم قبل حلول ظهر يوم الجمعة القادمة الى اخذ قياسات كافة الشبابيك.
- شكراً ياسيد ناظم
توادعا على امل اللقاء يوم الجمعة القادمة.
طرق ناظم الباب الخارجية لقصر صديقه التاجر محمود الذهبي. فتحت الباب شابة ترتدي ملابس البيت. بعد اداء التحيه تحدث اليها قائلا:
- ارجوك ابلاغ السيد محمود بأن ناظم قد حضر.
- تفضل بالدخول ياسيد ناظم. لقد اوصاني اخي ان استقبلك عند حضورك لانه ذهب الى السوق لشراء بعض الحاجيات. سارا سوية نحو غرفة الضيوف. حال جلوسه فوق الاريكة دخلت الطفلة سمر وسلمت عليه وجلست فوق الاريكة المقابلة.
سألته الشابة نجوى قائلة:-
- هل اجلب اليك فطور الصباح؟
- شكرا جزيلا. لقد تناولت فطوري في ساعة مبكرة من الصباح.
- طيب سوف اجلب اليك قدحا من الشاي
- لا مانع.
اسرعت نجوى الى المطبخ فرأت زوجة اخيها تعمل في اعداد الطعام.
اثناء شرب الشاي تم التعارف لاول مرة بين نجوى وناظم. فقد عرف ان الآنسة نجوى طالبة في كلية الادارة والاقتصاد في قسم المحاسبة. وخلال تواصل الحديث بينهما اعطاها ناظم بطاقته الشخصية وقال لها:-
- توجد لدي في الشركة مكتبة عامرة بالكتب. خاصة كتب التجارة والاقتصاد والمال وادارة الاعمال والمحاسبة وغيرها. على الفور! ردت عليه نجوى قائلة:-
- عرفت عنوان شركتك بالضبط. فهي تقع على بعد مسافة قصيرة عن محل اخي محمود التجاري.
- طيب. اذا احتجت الى فترة تدريب على تنظيم الحسابات او تدقيقها او ادخال المصروفات الى السجلات القانونية المصدقة من الكاتب العدل. سوف احضر الى مقر الشركة.
- لدي عقد تنفيذ اقسام من مشروع مجمع سكني لاعداد كبيرة من البيوت. يمكنك الحضور للتدريب والدراسة على اعمال المحاسبة.
- سوف اتصل بك تلفونيا قبل حضوري الى الشركة. ويمكنني المجيء مع اخي محمود عند ذهابه الى محله التجاري صباحاً في ايام الاستراحة عن الدوام في الكلية بعض الاحيان.
- اهلاً وسهلاً بِكِ يا آنسة نجوى.
- شكراً جزيلاً.
وعند حضور السيد محمود تحدث الى ابنته سمر وقال:-
- ابنتي سمر اذهبي مع عمتك نجوى التي ستساعد السيد ناظم في اخذ قياسات شبابيك قصرها اولاً. لانني سوف اصعد الى الطابق العلوي لرفع الاثاث التي صفت فوق الشباك المفتوح بسبب الزجاج الذي تحطم تماما.
- طيب يا والدي.
بعد ان عملا نجوى وناظم سوية في انجاز قياسات مساحة كافة شبابيك القصران. نزلا الى غرفة الطعام وجلسا جنبا الى جنب امام المائدة بحضور السيد محمود وزوجته وابنته سمر.
صُفَتْ على المائدة الصحون العديدة المملؤَة بأنواع الطعام من الرز والدجاج المشوي والمرق وانواع المقبلات من سلطة خضراء، زيتون، فاكهة وغيرها.
كما هي العادة في طقوس تناول الطعام يأكلون على انغام الموسيقى الهادئة. وفي غرفة الطعام تخيم عليها الاضواء الخافتة. بينما ناظم ونجوى يتبادلان النظرات الطويلة. فقد تفجر في داخلهما شوق شديد. وأحساس غريب!
بعد احتساء شاي العصر ابلغهم بأنه سيباشر العمل في تغيير زجاج الشبابيك القديم واستبداله بتركيب زجاج مقاوم للكسر. سارت معه نجوى حتى الباب الخارجية. توادعا على امل اللقاء يوم غد. عند حلول الليل صعدت نجوى الى غرفة نومها. اخذت تتقلب فوق فراش سريرها المغطى بشرشف من قماش الحرير الناعم الذي طبعت فوقه رسوم الزهور الحمراء اللون. لقد كانت يوم امس تتمتع فوق هذا السرير متعة الاحلام الحقيقة التي سوف تتحقق فوق هذا السرير والذي سوف يفتح الباب على مصراعيه امام رغباتها الجنسية التي ظلت مكبوتة سنين طوال.
لم يفارق تفكيرها في هذه الليلة صورة ناظم. ظلت ماثلة امام عينيها. فهو رجل وسيم، قوي، غني، كريم، يبدو انظر شبابا عن عمره الحقيقي. لقد وقعت في غرامه منذ النظرة الاولى اثناء اللقاء والتعارف لاول مرة. وضعت يدها فوق جبينها، تحلم، تتحدث في داخلها قائلة:-
- كنت احلم منذ طفولتي ان أكرس نفسي لرجل غني ورائع، وهذا ما تمنيته طيلة أيام مراهقتي وشبابي. اعترف بأنني آمل على نحو مبهم بأن تكون هذه الليلة بداية حب. آه! ان النساء يخضعن أكثر منكم أنتم الرجال في توجهات احاسيسهن لمشاعر الإعجاب التي تتولد في داخلهن. أنا أيضا لا أعرف ناظم جيدا ومع ذلك يبدو لي انه ذلك الرجل الذي كنت أبحث عنه دائما في داخلي بقيت مستلقية فوق السرير تنتظر بزوغ الشمس بفارغ الصبر. عند الفجر استسلمت لسلطان النوم. استيقظت مذعورة! شعرت ان سرير نومها والغرفة يتحركان بقوة!
اعتقدت وقوع هزة ارضية اول الامر.
لكن! بعد ازاحة الستائر المسدلة فوق شباك غرفة نومها المطلة على الحديقة الامامية للقصر. عرفت ان الاصوات العالية قد صدرت جراء تفريغ الشاحنات للعديد من الصناديق الكبيرة المعبأة بألواح الزجاج وطاولات حديدية كبيرة ايضا تستعمل لتقطيع الزجاج. كما استلفت نظر نجوى وجود رجل بجوار اشجار الصفصاف العالية المزروعة في الحديقة قرب الحائط الجانبي وقد نزع قميصه ويشاهد عاريا للقسم العلوي من جسمه.
وهو يمارس تمارين الرياضة الصباحية. يمتلك جسما رياضيا جميلا!
عند النظر اليه تأكدت من انه الشاب ناظم وهو عضو في النادي الرياضي مع اخيها محمود وقد حضر اليوم للأشراف على تركيب زجاج جديد للشبابيك مقاوم للكسر. اخذت نجوى تتحدث في داخلها قائلة:
- الحقيقة والواقع ان ناظم شاب وسيم وجميل. جلد جسده خاليا من الشعر والزغب. له وجها باسما احمراً متورداً وجميل جداً. جسده متناسق مع عضلات صدره وبطنه وكتفيه وزنديه، حلو كأنه جبلة من الكريستال والضوء الذي تعكسه اشعة الشمس المشرقة في هذا الفجر الجميل!
ومن الواضح ان بنيته الجسدية تتفق مع مواهبه العقلية. واتوقع انه سيحقق مستقبلاً زاهراً! سوف ازوره في الشركة من اجل تقوية الحب الذي وقع بيننا بصورة مفاجئة من النظرة الاولى في اللقاء الاول.
تواصلت لقاءات ناظم ونجوى في الشركة وخارجها. فقد كانا يذهبان الى المتاحف ومعارض الرسم والحدائق العامة، ولا يملان من التجوال في شوارع بغداد . تركت هذه اللقاءات اثراً حاداً في نفس ناظم، صار تأثير هذه الصداقة كتأثير السحر!!
فحين تدخل نجوى الى الشركة ، تتعطل مواعيده، تلغى، او تؤجل الى يوم اخر.
وقد بات العاملون في الشركة يعرفون ذلك تمام المعرفة طيلة الشهر الماضي.
وذات مساء، عند رجوع ناظم الى المنزل، خلا الى نفسه، واستعاد في ذاكرته قصته مع نجوى اخيراً استقر رأيه على ان يدرب نفسه بالتدريج على عدم لقائها كل اسبوع.
طبق ناظم على نفسه هذه التجربة الصعبة، تحمل قسوتها وعذابها عدة اسابيع ، قطع فيها كل لقاءاته مع نجوى، خلق اعذاراً وهمية للبعاد عنها، رغم انها تروق له، وتحرك لديه احساساَ بالتقدير.
ومرت عليه الايام ثقيلة وكئيبة فأصبح سريع الغضب في عمله، وفقد شهيته للطعام، ونام ليلة مؤرقة وكان يتقلب على فراشه طوال الليل كأنه يفترش الحجر!!.
وفي صباح اليوم التالي، وجد نفسه بحركة لا شعورية يدير قرص التليفون ليحدث نجوى في البيت . واعتذر لها عن عدم مقابلتها. وارتبط الاثنان بموعد جديد.
ووجد ناظم نفسه يتلهف الى هذا الموعد الجديد أضعاف ما كان يتلهف على مواعيده السابقة.
وحمل رأسه بين يديه واستغرق في تفكير عميق لقد اعترف بينه نفسه انه احب نجوى!
احبها رغم البعاد عنها ، او لعل طريق الكتب انزلق به الى هوة الحب.
انطلق ناظم بسيارته نحو متنزه بارك السعدون جلست نجوى الى جانبه في المقعد الامامي، وقد جلبت معها الكثير من الاطعمة المعلبة والجبن والخبز والعصير. دفعت كل قيمة هذه المأكولات والمشروبات من قبلها، فقد كان هذا شرطاَ مسبقاَ لموافقتها الخروج معه في هذه النزهة.
جلسا على احدى المصطبات التي صفت على طول الممشى الذي يتوسط المتنزه الكثيفة بأشجار الصنوبر والحشائش.
بعد فترة قصيرة من تناولهما اكلهما وشربهما العصير، اخرجت نجوى من حقيبتها كتاباَ تاريخيا عن نشأة وتطور النشر في الوطن العربي، اخذت تقرأ بعض الفقرات في صوت مرتفع ليسمعها ناظم :
(( لم تكن صناعة الكتاب من حيث التأليف والطباعة والنشر والتسويق وما يتعلق بها غريبة على الوطن العربي. فقد كانت اجراءً مألوفاَ ولها تاريخ حافل ومزدهر سارت في خطوات واسعة في نشر الحضارة والفكر …. واذا تجاوزنا عصور التأريخ السحيق القدم ايام السومريين والبابليين والآشوريين في العراق، والفينيقيين في لبنان والفراعنة في وادي النيل ـ والذين كانت لهم نشاطات فعالة في صناعة الكتاب تأليفاَ وجمعاَ وحفظَاَ على اوعية مختلفة منها الواح طينية وقطع من البردي والرق (الرق: وهو جلد رقيق).
وقد جمعت هذه الاوعية الفكرية في مكتباتهم، فكانت نتاجات فكرية ووثائق وادلة صادقة على حضارتهم وفكرهم في مجالات المعرفة كلها اذا تجاوزنا هذه الحقب واقتصرنا الحديث الموجز عما كانت عليه صناعة الكتاب ايام الحكم العربي والاسلامي التي بدأت في القرن الهجري الاول (القرن السابع الميلادي).
وظلت هذه الصناعة في نمو وازدهار، وظلت شعلة وهاجة تنقلها الاجيال فيتسع لمعانها في تعاقب السنين والقرون.
وقد دفعت العرب الى تسجيل هذه الافكار تطور ادوات الكتابة واوعيتها، فكان التحول من الاوعية القديمة تدريجياَ الى ان وصلت نضوجها بصناعة الورق في بغداد في القرن الثامن الميلادي فكان سبباَ في نشر الكتاب وازدياد تعدد النسخ للكتاب الواحد، وسهل تجميع الكتب في مكتبات كثيرة أسست لخدمة الناس وطلاب المعرفة وعلماء البحث والراغبين في الدراسة والتأليف.
ومن هنا كثر التأليف على شكل مخطوطات بلغ عددها اليوم اكثر من ثلاثة ملايين مخطوطة مبعثرة بين مكتبات العالم العربي وفي اوربا وامريكا واسيا وافريقيا...))
ظلت نجوى تقرأ بينما كان ناظم يرهف السمع اليها وينظر في اعجاب شديد الى شفتيها الجميلتين وهما يخرجان الكلمات في رنة جميلة …
توقفت عن القراءة، فجأة، هبت ريح عنيفة وقوية، رشقتهما بوابل من الغبار وبقايا النفايات والاوراق التي يتركها بعض زوار المتنزه، مبعثرة على الارض. كانت الريح قد كنست المتنزه تماماً ونظفتها من هذه النفايات.
ارتفعت الشمس الحارة. كانا يسيران في طريق الخروج من المنتزه. صار الهواء جافاً وحاراً وطقطق اغصان الصنوبر والصفصاف من الحرارة.
رأى ناظم وهجاً ضعيفاً، على الفور، صاحبه تصاعد لهب ودخان الى عنان السماء، شعر بالخوف فجأة. اثار مشهد تصاعد النيران ارتباكه.
شعرا بالاطمئنان لدى صعودهما الى السيارة. فقد اتيحت لهما فرصة الكلام والتنفس بهدوء. فطيلة جلوسهما في متنزة بارك السعدون لم تتح الفرصة لناظم ان يقول كلمة. فسبقها الحديث قائلاً:ــ انسه نجوى، تبين لي اليوم، اننا ضعفاء كثيراً في معرفة التأريخ.ـ كيف ؟ـ لم تكن لي اية معرفة سابقة من ان الفضل الاول في صناعة الورق يعود الى بغداد، الى العرب.ـ يا سيد ناظم، يقول مثل تركي عن بغداد : لا توجد ثمة حبيبه مثل الام، ولا ديار تضاهي بغداد.
لدى وصولهما الى الساحة التي يتفرع منها شارع جانبي. اوقف ناظم السيارة
وقال :ـ نجوى، انظري !! كم هي جمليه مياه نهر دجلة؟
غداً، ننظم سفرة اليها، لنعوض يومنا هذا على ضفاف نهر دجلة الخالد .
طيب، يقولون ان السفر يوسع الافق.
عند ذهاب الانسة نجوى الى شركة السيد ناظم في تمام الساعة الثانية بعد ظهر اليوم التالي على الفور ! خرجا من الشركة وعند صعودهما الى السيارة جلست نجوى الى جانبه في المقدمة . بعد مسافة قليلة وقف ناظم ودعاها لتناول طعام الغداء في احد المطاعم .
وقد زالت بينهما حواجز الخجل او الخوف من الآخر وتوطدت بينهما صداقة قوية بعد مرور شهر واحد فقط! كأنما مضت على صداقتهما سنوات طويلة ! حتى انهما اخذا يتنزهان على ضفاف شارع ابي نؤاس وكل واحد منهما يتأبط ذراع الآخر .
دخلا احدى الكازينوات المطلة على نهر دجلة بشارع ابي نؤاس . توقفا قليلاً للتفرج على نار الحطب المشتعلة ، وقد علقت حولها اسماك النهر بشكل دائري منتظم .
بعد اتمام الشواء للبطن تطرح السمكة على ظهرها فوق جمرات فحم الخشب المتقدة . حتى تنضج السمكة ، ويطلق اسم شهير على هذا السمك هو (السمك المسكوف) ويقدم مع السمك المشوي العنبة الحارة والزلاطة الطازجة الخضراء والخيار المخلل الناعم والخبز المحمص الحار.
تحدث ناظم الى نجوى قائلاً :
- نجوى افتحي فمك . وما ان فتحت فمها وضع ناظم بداخله لقمة لحم سمك مشوي وقال لها :
- عزيزتي نجوى هذه اللقمة اللذيذة من لحم السمك المشوي هي من رقبة السمكة ويطلق عليها اسم (لقمة الصياد) أي ان هذه اللقمة من حصة الشخص الذي اصطاد هذه السمكة.
ثم اضاف ناظم الى نجوى قائلاً :
- آنسة نجوى غداً الجمعة ، سوف نقوم بجولة حول الطرق الخارجية في اطراف العاصمة بغداد .
- طيب سأكون في انتظارك الساعة العاشرة صباحاً بالقرب من بيتي .
وفي صباح اليوم التالي نجوى وناظم انطلقا بسفرتهما الى خارج بغداد لزيارة المدائن
اخذت نجوى تقود السيارة بكل جرأة في هذا الطريق الخارجي الطويل وجسم ناظم يلتصق بجسمها ويطلب منها زيادة السرعة تارة وتخفيضها تارة حتى وصولهما الى مدينة المدائن السياحية .
بعد زيارة مرقد الصحابي سلمان المحمدي () دعاها ناظم للقيام بجولة قصيرة فوق السدة الترابية المشيدة قبالة ضفاف نهر دجلة من اجل حماية مدينة المدائن من فيضان نهر دجلة عند ارتفاع منسوب المياه الى درجات عالية .
انعطف ناظم مع نجوى نحو رصيف الشاطئ لمرسى زوارق صيد الاسماك والزوارق الاخرى المزينة بأشرطة ملونة والتي تقوم بجولات نهرية فوق مياه نهر دجلة الخالد لاستمتاع الناس بمشاهدة بساتين اشجار الفواكه المثمرة والمعمرة على جانبي نهر دجلة .
استأجر ناظم احد هذه الزوارق وطلب من الربان ان تكون الجولة طويلة لمشاهدة بساتين ومعالم مدينة المدائن الشمالية .
حال عودتهما الى البر شعرا بالسعادة والفرح وهما يشاهدان مجموعات عديدة من الناس وهم يرقصون على انغام الموسيقى العراقية الشعبية والتراثية العريقة في العالم، الدبكات الجماعية القديمة لاسيما الرجال والنساء على السواء نابعة من فن وتراث عراقي قديم الزمن ليطلق عليها اسم (دبكة الجوبية) .
وكان امام الساحة الكبيرة المسيجة بأسلاك مشبكة للحفاظ على آثار طاق كسرى أحد المصورين الفوتوغرافيين المتجولين قد اقام خيمة صغيرة ارضيتها مفروشة بالسجاد والوسائد وجلب معه عدداً من قطع الملابس العربية للنساء والرجال .
ارتدى ناظم فوق ملابسه الجلباب ووضع فوق رأسه اليشماغ والعقال، كما ارتدت نجوى الملابس العربية ثم جلسا جنباً الى جنب داخل الخيمة واخذ المصور يلتقط لهما الصور الفوتوغرافية التذكارية ولعدة لقطات متنوعة كقيس وليلى داخل الخيمة وهما يقفان تارة ويجلسان تارة اخرى بعد حب عنيف وفراق طويل !!
لاحظ ناظم ان التعب والجوع قد ظهر على وجه نجوى دعاها للجلوس امام المائدة . امتلأت الاطباق بلحم الغنم المثروم المشوي – الكباب – والعديد من اطباق السلاطة الخضراء ، والمشويات من الطماطة والبصل والثوم والفلفل الاخضر ، وطرشي الخيار المخلل والمحشي بالثوم والكرفس والتوابل الهندية الحارة مع تقديم السلال المليئة بالخبز المحمص .
اخذت نجوى تأكل بتأن وهدوء بالغين .
الواقع انه لا يوجد محيط للمرأة التي تحبها ، اجمل من لقائها على شاطئ المياه الجارية تحت ظلال زرقة السماء وشذى الزهور وسحر الغابات العذراء والحقول النظيرة وان تنعم بالحب في غير خجل او تحفظ .
لم يستطع ناظم بلع الطعام بالكاد يغص ويختنق !
نجوى . هذا الملاك الجميل الجالس قبالته .
ينظر الى شفتيها ، اثارت لديه الكثير من المشاعر وهي تضع اللقمة الصغيرة داخل فمها ! كيف تمضغ هذه اللقمة؟ هذا المضغ اشعل ناراً حامية في دمائه الفائرة؟ نجوى فكت عقدة الزواج المستعصية لديه منذ سنوات .
انتابته نوبة خيالات واحلام يقظة غريبة ! اثارت لديه شهوة جنسية عارمة الى مضاجعتها !
في طريق عودتهما واصلت نجوى سياقة السيارة وناظم يجلس الى جانبها ويقرب وجهه من وجهها عند تبادل الاحاديث بينهما .
- عزيزي ناظم كان هذا اليوم اسعد يوم في حياتي .
- عزيزتي نجوى ان السعادة التي غمرت قلبينا وروحينا هذا اليوم كسعادة عروسة وعريس في الايام الاولى من شهر العسل .
- صحيح يا عزيزي ناظم فقد لاحظت الكثير من الناس وهم ينظرون الينا ويحسبون اننا زوجين سعيدين .
- الحقيقة يا عزيزتي نجوى ان لقاءاتنا وصداقتنا بهذه السرعة القياسية قد فكت العقدة من الزواج.
- عزيزي ناظم لقد اتعبتك كثيراً!
- كلا يا عزيزتي نجوى اني اشعر بالسعادة والراحة معك والجمعة القادمة سوف نسافر على طريق خارجي اخر خارج العاصمة بغداد وسيكون يوماً جميلاً اجمل من هذا اليوم !
في الموعد المحدد بعد ظهر يوم السبت طلب ناظم من نجوى سياقة سيارته نحو قصره الواقع في عرصات الهندية – كرادة خارج . حال وصولها القصر نزل من السيارة وفتح الباب الحديدية الكبيرة الخارجية .
فجأة ! نادت عليهما مدبرة المنزل وابلغتهما ان طعام الغداء جاهز فوق المائدة في غرفة الطعام .
عند دخول نجوى القصر لاول مرة تحدثت مدبرة المنزل قائلة:
- سبحان الخالق يا سيد ناظم ان خطيبتك جميلة جداً !
- شكراً يا سيدة امينة .
حديث مدبرة المنزل استلفت نظر نجوى وتفكيرها .
فقد اخذت تدور في داخلها افكار غريبة تارة وتتحدث الى نفسها تارة اخرى !
مثلما ترغب حواء ان تعيش في الجنة مع ابينا آدم () كذلك ترغب المرأة فوق كوكب الارض ان تعيش في بيت مع زوجها دون أي ضغط او تدخل او انزعاج من احد .
لذلك فرحت نجوى وهي تدخل قصر ناظم . شعرت انها تعيش معه كزوجة بكل حرية وسعادة وفرح دائم لانه يعيش وحيداً في هذا القصر الفخم . سيطر على قلبها وعقلها حب جارف وقوي الى ناظم توسطت اطباق الطعام صينية وضع فوقها سمكة كبيرة مشوية . تحيط بها حبات الطماطة المشوية ، واطباق صغيرة مملوءة بالعنبة الهندية الحارة .
ناظم ونجوى جلسا جنباً الى جنب امام المائدة ، بدأت نجوى تأكل الطعام بهدوء . تحدثت الى ناظم قائلة :
- كنت صادقاً يا ناظم عندما اخبرتني ان مدبرة المنزل طباخة ماهرة تعد طعاماً شهياً ولذيذاً.
- شذى افتحي فمك وتذوقي لحم السمك المشوي الطيب. هذه القطعة من لحم رقبة السمكة ويطلق عليها اسم : (لقمة الصياد) .
- حقاً انه لحم سمك مشوي لذيذ ورقيق جداً .
ناظم ونجوى نسيا نفسيهما على مائدة الطعام ، فقد اكلا كثيرا بشهية مفتوحة . حتى ان شذى قالت له :
- لقد اكلت كثيراً . اشعر بنعاس شديد احتاج لنومة القيلولة .
- طيب يا عزيزتي . تعالي معي لنصعد الى غرفة النوم.
حال دخولهما غرفة النوم استلقت نجوى فوق سرير النوم الواسع الوثير . قال لها ناظم :
- سوف انزل لانام فوق الاريكة .
لكن نجوى ! اسرعت نحوه وسحبته من يده وقالت :
- تعال تمدد فوق السرير الى جانبي . فالسرير واسع يتسع لنوم اربعة اشخاص.
استسلما لسلطان نومة القيلولة ، نومة الظهيرة .
استيقظا من النوم بعد مرور ساعتين
بعد احتساء شاي العصر اصطحب ناظم نجوى لتوصيلها الى بيت اهلها . توادعا على امل اللقاء صباح الغد الى سفرة سياحية خارج العاصمة .
* * *
وفي الموعد المحدد اخذت نجوى تقود السيارة بجرأة في الطريق الخارجي نحو الغرب الى بحيرة الحبانية . ظل ناظم يجلس الى جانبها . حال وصولهما بحيرة الحبانية انزل ناظم من صندوق السيارة حافظة من الفلين تحتوي على الثلج وقناني عصير البرتقال الطبيعي والمقبلات الى داخل البيت الجاهز (الشاليه) .
بعد استراحة قليلة خرجا للتجوال حول ضفاف بحيرة الحبانية . ثم استأجر ناظم زورقاً لقيامهما بجولة فوق مياه البحيرة .
بعد الانتهاء من الجولة دخلا الى مطعم الاسماك التابع الى مطعم فندق الحبانية السياحي وطلب ناظم من النادل ان يجلب لهما سمكة مشوية ويغلفها مع المقبلات المشوية والعنبة والخبز .
كانت المائدة في البيت الجاهز ذات شكل جميل ثقلت بصحون الطعام والمقبلات والمكسرات والفاكهة وقناني البرتقال الطبيعي. اما طريقة ترتيب المائدة فكانت بجهود ناظم وذوقه الرفيع .
جلست نجوى الى جانبه امام المائدة تتناول الطعام والمقبلات وشرب كؤوس عصير البرتقال الطبيعي بهدوء .
حب وعشق وعناق . هذا ما اعتادا عليه ناظم ونجوى وما يشعران به من سعادة حقيقية منذ الايام الماضية .
منذ عرفا طيب العناق وضمة الهوى ، واكتشفا بفضلهما العالم . لم يكونا يتصوران؟! ان لقاء اثنين يمكن ان يخلق هذا الانسجام العميق الذي يريان من خلاله صورة الجنة الحقيقية. كما ان وجود آدم وحيداً مع حواء في الجنة لا يقلل من قيمة عواطفه نحوها .
فما اروع شيء هو ان تفتح القلب والفرحة والارتعاشة والاغنيات التي تخطر على الشفاه .
احياناً كلمة واحياناً وردة .
- نجوى حبيبتي ! يقبلها وحالما تمس شفتاه شفتيها تمد ذراعيها حول رقبته .
- حبيبي ناظم اني احبك . احبك.
- وانا احبك ايضاً ، والحب هو الحياة .
- وان الحب اولاً هو الفرحة التي تسري من الرأس الى اخمص القدم ويسري مثل الدم في العروق.
- نجوى ، قلت لك ان الحب يمنح الانسان السعادة .
ويجعل الفرحة تتمشى في عروقه. لقد كنت ساعتها جاداً غير انه يخيل للانسان ان الحب يتكاثف مع مرور الايام .
ويشتعل في الدم . ثم يصبح ثقيلاً يصعب حمله .
ويضيف المرء حتى يتمنى ان يتقاسمه مع غيره .
- لقد تقاسمت معك حمل هذا الثقل، هذا الحب . وانت تعرف يا ناظم، ان حياتي هي حياة الاستقامة والورع.
- هذه هي الحقيقة الخالصة ، وسيقوى حبنا بعد الزواج.
- اقول لك الحقيقة يا ناظم : اني احبك اكثر من حياتي .
- انظري الى عيني يا نجوى : سترين اني احبك بجنون فلست زير نساء ، بل محب للحياة العائلية .
- الحياة معركة كبيرة . والمهم ان نعيشها بأقل قدر من الخسائر .
- لقد قررنا انا وانت كرجل وامرأة ، ان نقضي بقية عمرينا معاً فيجب ان تكون لدينا خطة واسلوب في الحياة .
- الحياة جامعة . نتعلم فيها الشيء الكثير وكل ما نحن في حاجة اليه، هو ان يحب كلانا الآخر حباً سليماً.
- كما سنبقى دائماً محبين للخير والانسانية .
- بعد اسبوع سوف ازوركم لطلب يدك من اخيك محمود واعلان خطوبتنا. انني احبك واريد أن تكوني زوجتي
انك خير زوجة فاضلة ووفية وقربك مني يكمل حياتي ويملأ فراغ قلبي .
استلقت نجوى فوق السرير ، تمدد ناظم الى جانبها .
نزعا ملابسهما . التقى جسداهما . بعد ذلك سقط شعرها الذهبي ليضع ستاراً بينها وبين وجه ناظم . لقد كانا في عالم آخر ؟!
في عش الغرام على ضفاف بحيرة الحبانية .
غائبين في خلوتهما منذ الظهر ، بوافر السعادة التي ينعم بها العشاق.
تحدث اليها قائلاً :
- آه ! يا حبيبتي نجوى ، اصعدي الى السيارة لنسرع في العودة الى البيت قبل حلول الظلام.
الموعد مع ناظم لم يحن بعد ، فالساعة الآن العاشرة والنصف صباحا . بعد أن تناولت نجوى فطور الصباح ذهبت إلى صالون الحلاقة النسائي وطلبت من الحلاقة أن تحف زغب وجهها الناعم قبل حلول الظهر دخلت إلى الحمام لغسل جسدها وإزالة الشعر من تحت أبطيها وأعلى فخذيها . أخذت تصب الماء الدافئ فوق جسدها، حال نزوله، وبحركة غير أرادية تضع يدها فوق فرجها اللحمي النظيف من الشعر والزغب . أخذت تدلك جسدها ، تدلك بشرتها البيضاء . ثم اخذت تدلك كعبي قدميها الدرمان* السمينان بعناية سرت في جسدها رجات مريعة ، مثل رجات الكهرباء، كأن الكثير من فولتات الكهرباء قد صعقتها. فجأة ! انتابتها نوبة فزع شديد لحظة اكتشافها أن ناظم يقف أمامها عاريا ! وفي الحمام خيل إليها من خلال البخار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كعبي قدميها الدرمان: مَنْ دَرُمَ كَعْبِها عَظُمَ كعثبُها.
المتصاعد من أرضية الحمام الإسمنتية أنها أمام رجل عملاق قوي من أولئك العماليق التي تحكي عنهم
القصص الغريبة والعجيبة . ظلت تنظر إلى خياله باندهاش وانبهار . سرحت شعر رأسها تسريحة جميلة، ومسحت وجهها وشفتيها بمساحيق زينة خفيفة الألوان ، عطرت رقبتها بعطر ذو رائحة زكية . ارتدت بدلة من قطعتين ، تنورة وسترة بيضاء اللون ، كما لبست قميصا أحمر اللون . استعدت للقاء ناظم كعروس تلتقي بعريسها في ليلة الزفاف !
وفي الساعة الواحدة تماما ، توقفت أمام باب قصرها سيارة صالون فارهة نوع منشأ امريكي حديثة الصنع بيضاء اللون . حال سماع نجوى صوت منبه السيارة نزلت درجات السلم بسرعة .
بعد تبادل التحيات جلست إلى جانبه وهي تطير من الفرح ! تستنشق هواءاً جديدا ، شعرت أن جسدها محلقا في أعالي السماء !
سيطرت السعادة على عقلها وقلبها وروحها . الحقيقة أنها لم تعد تصدق عينيها ! فهي تجلس الآن إلى جانب الرجل الذي طالما كان يترأى لها في الأحلام .
حال دخولهما المطعم انزويا أمام مائدة في الركن القصي من القاعة. طلب ناظم من النادل أن يُنزل إلى مائدتهما كأسان من عصير البرتقال وان ينزل المقبلات واللحوم المشوية فيما بعد .
استمرت تلج الصالة وجبة بعد أخرى من الزبائن . وسرعان ما أصبح المطعم مزدحما للغاية. أخذت أصوات المضغ تتزايد ورنات الكؤوس تسمع في كل مكان .
تطلع إليها وهو صامت . ثم هتف بنبرة غريبة وقال :
- نجوى . لنغير هذا المكان . لدي بيت منعزل وخاص.
- ماذا تقول يا ناظم ؟
- أقول إنكِ المرأة التي أريدها .
هتفت نجوى قائلة :
- يا إلهي !
ردَّ عليها ناظم متحمسا وهو يضع يده على فمها :
- ليس إلهكِ بإله لي ، وليس هناك من شيء أخر غير الحب .
ردت عليه بغنج ودلال قائلة :
- موافقة . أذهب معك إلى أخر الدنيا .
استأذن منها الذهاب للتحدث بالهاتف .
فعلا . اتصل بالمحاسب وسكرتيره الخاص ماجد فهو يعمل بإخلاص كأنه كلب وفي . قال له :
- اسمع جيدا يا ماجد . أرجو أن تجلب الى بيتي دجاج مشوي ومقبلات بعد الساعة الثانية.
رد عليه ماجد قائلا :
_ طيب استاذ .
حال عودته الى المائدة طلب من النادل ان يغلف الطلبات لأخذها معه سفري.
حال دخولهما قصر ناظم خلعت نجوى سترتها وحذاءها.
اخذت توظب المائدة بينما دخل ناظم إلى الغرفة لتغيير ملابسه . ارتدى جلبابا حريريا أبيض اللون. حال انتهائها من توظيب المائدة طلب منها ناظم تغيير ملابسها . فيوجد جلباب جديد في دولاب الملابس وعلى مقاسها بالضبط وبإمكانها أن ترتديه من أجل راحتها. أطاعته ونزلت عند إرادته ولم يجد صعوبة في إقناعها الدخول إلى غرفة النوم وتغيير ملابسها بعد أن ضحكت ملئ شدقيها وقالت له :
- لقد أعربت رأي شخص يفيض تماما عن إحساس بعزة النفس . سوف أنزع ملابسي ، وأرتدي الجلباب الرجالي .
فزعت فزعا شديدا حال فتحها باب دولاب الملابس ! فقد رأت رزما عديدة من الأوراق النقدية مكدسة فوق الرفوف العليا من الدولاب !
استغربت وجود هذه المبالغ الكبيرة في دولاب الملابس؟! احتفظت بما رأته في داخلها ولم تسأل ناظم عن سبب وجود هذه الأموال .
أفرطا في تناول الطعام والحلوى واحتسيا كؤوس عصير البرتقال الطبيعي . فانطلقت شهواتهما الحبيسة ، يمضيان يومهما ، ويستمتعان باللذة والحب والمرح .
تأملها ناظم بنظرة كلها إعجاب . همس في أذنها قائلا:
- نجوى . أني لا أصدق عيني إنك تجلسين إلى جانبي ؟ أحلم هو أم حقيقة ؟
ردت عليه بسرعة :
- حبيبي ناظم . كم أتمنى أن أبقى معك حيث تكون فلا نفترق .
اشتد الكرامفون وهو يطلق الموسيقى الشرقية . أخذ ناظم يصفق طربا ، انتشت نجوى ، لفت لمسات وعيناه رأسها ، نهضت من مقعدها ، لفت أحدى ربطات العنق القديمة على وركيها وراحت ترقص كما لم ترقص في حياتها. بينما يهرع ناظم لكي يضع اسطوانة أخرى . انتهت من الرقص ،
استلقت على الأريكة قرب المدفأة. وقد بدت التعاسة واضحة على ملامح وجهها الأبيض ، أحست بأنها لم تنتصر في الرقص على ناظم ،
أخذ ناظم يهمس في داخله قائلا :
- كان واضحا أنها ما تزال خطواتها ثابتة ... ومرونة قامتها . وليونة جسدها ... واتساع عينيها الزرقاوين . كل ذلك ينم عن غريزة جنسية ملتهبة تملأ الجو حولها بعبير الجاذبية الجنسية . كما تملأ الجو بشذاها قنينة العطور التي لم يحكم غلقها .
لكن ناظم ! اشتهى نجوى شهوة الحيوان للحيوان . اخذ يلف ذراعه حولها ، يعتصر خصرها الأهيف . سحبها بهدوء نحو غرفة النوم.نزع الجلباب وملابسها الداخلية قطعة أثر قطعة دون مبالاة أو ممانعة من جانبها . التصق نهداها بصدره، نهدان بارزان ، صارخان. الحريق الجنسي يتغلغل إلى جسدها الأبيض الفائر كحيوانات برية في ذروة تلاحمها، يقابلها رجل شبق مثلها ، أخذت تذوب داخل حضنه ، مسحورة برجولته ، ووسامته ، مخدرة بلمسات يده المثيرة وقبلاته الدافئة.
تسرب إليهما دفء مسحور ، أحسا بأرتعاشة غريبة وشوق مُلح إلى إطفاء حريق الشهوة والشبق الفائران .
انسجما في إيقاع مجنون ، استلقيا عاريين مثل أدم وحواء في بدء الخليقة الأولى .
تداخلا مثل حيوانيين فتيين . أسكرتهما الفطرية الضاجة في عروقهما . همد الإحساس بالزمن. انسحقت بكارتها، اعتصر نهداها مثل عنقود العنب .
رفعت إليه عينين فرحتين . أحست بشعور الأنثى حين تصيب الدفء واللذة وتطوق بالحرارة. استسلمت لنظراته الآسرة . وغرفت من العمر أحلى لحظاته . أخذت تتحدث في داخلها قائلة :
- لماذا سلمت نفسي إلى ناظم بين ليلة وضحاها من تعارفنا ؟
- لماذا سمحت له أن يفض بكارتي بهذه السرعة ؟
- آه! اشعر إن إلاهه الشهوة بأن
(( Goddes of desire Ban)) قد تلبست كل انحاء جسدي الفائر!
ستحفر هذه التجربة اعمق الأثر في ذاكرتي في المستقبل...!
عصر اليوم المحدد لخطبة نجوى اصطحب ناظم معه عدداً من اصدقائه لحضور حفل الخطوبة . بالفعل تمت مراسيم الخطوبة وقراءة سورة الفاتحة بعد موافقة اخيها على زواجهما. واعلن ذلك امام جميع اصدقائه وافراد عائلته وعدد كبير من الاقارب والجيران الذين حضروا لتقديم التهاني بمناسبة خطوبة نجوى .
بعد ان قدم لها ناظم خاتم الخطوبة وعلبة طقم المصوغات الذهبية .
تحدث اخيها قائلاً :
- خير البر عاجله . سوف اذهب لاستدعاء المأذون الشرعي السيد عباس الموسوي لعقد الزواج وتزويجكما بعقد الزواج الشرعي، ومن ثم بامكانكما تصديقه في المحكمة الشرعية .
حال حضور المأذون الشرعي للزواج بدأ في اجراءات العقد قائلاً:
- الانسة نجوى ابراهيم الذهبي هل توافقين على توكيلي لعقد قرانك امام الله والناس؟
- نعم سيدي الشيخ .
- الانسة نجوى ابراهيم الذهبي هل توافقين على زواجك من السيد ناظم ادريس الواسطي بصداق معجل قدره (5000) دينار (خمسة آلاف دينار) وصداق مؤخر قدره (5000) دينار (خمسة آلاف دينار . اذا وافقت قولي نعم .
- نعم سيدي الشيخ .
- السيد ناظم ادريس الواسطي هل توافق على زواجك من الآنسة نجوى ابراهيم الذهبي بصداق معجل قدره (5000) دينار (خمسة آلاف دينار) وصداق مؤخر قدره (5000) دينار (خمسة آلاف دينار) .
- نعم .
- أيها الزوجان الآنسة نجوى ابراهيم الذهبي والسيد ناظم ادريس الواسطي ابارك لكما زواجكما واتمنى لكما العيش الرغيد بالرفاه والبنين . آمين .
تصاعدت اصوات زغاريد وتصفيق وغناء الاهل ورقصهم.
كما دعى الجميع لحضور حفل الزفاف الذي سيقام في اول الشهر القادم في قصر السيد ناظم الواقع في عرصات الهندية .
خرج الضيوف بعد تناول الحلوى وطعام العشاء .
* * *
اوقدت الشموع وسط صينية الحناء المزينة بعجين الحناء الحمراء واغصان الياس الخضراء وانواع الحلوى وكمية من قطع العملات المعدنية القديمة والحديثة.
حضر ناظم الى بيت شذى . أخذ كل واحد منهما يصبغ بالحناء طرف كف الآخر بكل رقة وحنان بهذه المناسبة السعيدة ، والتي تسبق ليلة الزفاف بحسب التقاليد والعادات البغدادية السائدة .
يطلق عليها اسم : ليلة الحنَّة
لا يفوتنا أن نذكر ان القصر الذي المؤجر من قبل ناظم كان حديث البناء ، وقد تم تأثيثه بصورة كاملة الى كافة الغرف والادوات والاجهزة المنزلية والمطبخية والكهربائية ولم تستعمل في السابق من قبل اشخاص آخرين لان ناظم هو اول من استأجر القصر المؤثث. لهذا تم اتفاق ان حفل الزفاف في قصر ناظم . وسوف يبقيان للسكن في قصر ناظم . وسوف ينتقلان الى قصر نجوى بعد انتهاء مدة عقد الايجار. وفي هذه الليلة اخذت المصابيح تضيء القصر وقد علقت نشرات المصابيح الملونة في الحديقة من شجرة الى شجرة اخرى ابتهاجاً باقامة حفل عرس ناظم ونجوى التي ارتدت بدلة عرس بيضاء اللون طويلة تكشف عن صدرها وظهرها وزنديها ، جلس الى جانبها العريس ناظم وهو يرتدي بدلة زرقاء اللون وقد علق فوق صدره ربطة عنق حمراء اللون كما علق فوق جيب سترته العلوي منديلاً حريرياً احمر اللون .
تواصل حضور الضيوف وجلوسهم امام الموائد التي صفت فوق الحشيش الاخضر للحديقة الواسعة الارجاء، كان الضيوف يتوجهون مباشرة لتقديم التهاني الى العروسين .
بعد تناول الضيوف طعام العشاء والفواكه وشرب العصائر الباردة والشاي تم زفاف الآنسة نجوى الى عريسها السيد ناظم الى داخل غرفة نومهما في الطابق العلوي وهي تحمل بيدها باقة ورد طبيعي جميلة مزينة بأنواع الزهور واغصان الياس الخضراء ,
حال دخولهما غرفة النوم جلسا فوق طرف السرير ليستريحا قليلاً وحدهما . احست بأن جاذبيتها تملكته قرب وجهها من وجهه حتى كان الوجهان يلتقيان ، هامسة : قبل ان اتزوجك كنت ميتة تماماً، منحتني الحياة الجديدة وعليّ أن امنحك السعادة . لنأكل ونشرب ونتمتع بكل لحظة من لحظات عمرينا .
لننسى اقدارنا ، لننسى همومنا ، لننسى كل الامور الاخرى، لأنها مرهونة بيد القدر . دنت منه اكثر، حتى لامس صدرها صدره ، انحنى ناظم على وجهها وقد لهثت انفاسه وصهرت احاسيسه فجأة ضمها بذراعين قويتين ، وبكل ما يملك من حرمان ورغبة اكيدة مدمرة.
ارتفعت يديه لتحيط برأسها ، تغلغلت اصابعه في طيات شعرها الذهبي ، برقة وعنف ومتعة ، جذبها اليه حتى احست بخدر لذيذ، تراخت مستسلمة وانحنت على السرير متضرجة الوجه منفعلة النفس ، فبدت كأنها خلقت من اجله، وان الله ما صنع آية الجمال فيها إلاّ من أجله وحده.
راح يقبلها بنهم ، وقسوة ، ولذة جارفة ، فبدأ مثل نحلة تمتص زهرة بعد طوال حرمان التقى الحب في نشوته وسحره ، وبدت الحياة ساكنة إلاّ من انفاسهما واسترسلت انغام قلبيهما بلحن عذب شجي لا يسمعه سواهما . للحب طعم آخر . للحب سحر يبدد اللوعة ويمحي الشجن ، لا شيء يوازي قيمة الحب ، لا شيء يعادل سلطته وعلوه ، وكيفية سحره ، فهو يسقط المستقبل في حساب الزمن ، كما يسقط الماضي في المخيلة ويمد المرء بلحظات خالدة تمكنه من العيش بذكراها جيلاً بعد جيل .
نهضت نجوى مترنحة سكرى ، نزعت ثياب العرس الخارجية والداخلية كما نزع ناظم كافة ملابسه .
وراحت تمرر بأصابعها على شعره لترتبه وتقول :
- لنستلقي فوق فراش السرير الواسع الوثير . سوف اهديك وردة جميلة حمراء من هذه الباقة بمناسبة هذه الذكرى سأطلق عليها اسم وردة العرس، وطبيعة هذه الليلة هي اجمل لوحة فنية في الحياة .
واجمل الالحان الموسيقية للانسان!
الحان الحب والخلود !
* * *
فجأة ! انتابت ناظم نوبة شديدة من الخوف حين عاودته ذكرى قيامه بفض بكارة حبيبته العذراء نجوى في الايام التي سبقت اية اجراءات شرعية او قانونية للزواج ! كعقد الزواج او الاعلان العام للزواج بين المرأة والرجل امام الناس . كدعوتهم لحضور حفلتي ليلة الحناء وليلة الزفاف وخاصة حضور الاهل والاقرباء والاصدقاء والجيران في العادة ، اثناء ليلة الزفاف . يبقى الكثير من الضيوف خاصة اهل العروس والعريس والاقرباء والاصدقاء في انتظار قيام العريس بفض بكارة عروسة العذراء! وهذاما يزيدهم فرحا وابتهاجا لتقديم التحيات والتهاني لهما وسط اجواء الرقص والغناء وزغاريد النساء .
* * *
وخوف نجوى وناظم ان يكتشف احد المدعوين ان العروس قد تم فض بكارتها قبل عقد الزواج بينهما والتي تعتبر كجريمة زنى وفضيحة كبرى تشوه سمعة عائلتيهما في المجتمع .
ولهذه الاسباب قررا القيام بتمثيل من فيلم سينمائي يقوم فيها البطل فض بكارة البطلة لهذا قررا البقاء في غرفة النوم لأطول فترة ممكنة. وبعد مرور اكثر من ساعتين في انتظار الضيوف في الطابق الارضي . تصاعدت اصوات تصفيق اياديهم ، واصوات زغاريد النساء عند رؤيتهم العروسة والعريس ينزلان درجات السلم بهدوء والتعب ظاهراً على وجهيما. ناظم يرتدي جلبابا ابيض اللون والذي يطلق عليه اسم ((دشداشة )) ايضا.
بينما ترتدي نجوى ثياب النوم الحمراء اللون مغطاة بروب طويل. ظهر ناظم انه منتشيا بخمر فوزه في هذه الليلة .
ليلة الزفاف ، والتي يطلق عليها ليلة الدخلة . وهي ليلة فض بكارة العروس .
اخذت مدبرة المنزل تودع كافة الضيوف . بينما ناظم ونجوى صعدا الى غرفة نومهما ليستريحا قليلا وحدهما بعد مغادرة كافة الضيوف الذين حضروا حفل الزفاف التمعت بروق قوس قزح ، اغمضت عينيها الناعستين لتحتفظ في نسخ ذاكرتها بخمرة تلك الدغدغات المهمومة التي لم تذقها من قبل ، استكان الزمن ، غاب العالم الخارجي ، انهمر المطر وراح يعزف بقيثارته الندية فوق سطح القصر . الجسدان ملتصقان في ضراوة ، وينفح بين عروقهما والاحتضان الانساني.
وظلت السماء تمطر بوقع رطيب يتجاوب مع امه الارض من سمفونية عميقة جداً، يجتاز فيها الحب والجسد المنفتح ، نواميس التقليد والاعراف وهمجية الانتظار لتتلاحم الارض والانسان في اعناق التناغم والتوحد والامتداد الخصيب .
بعد مضي ثلاثة سنوات على زواجهما، واصل ناظم عمله في الشركة في بيع انواع الزجاج وانابيب الماء والحنفيات والاقفال وغيرها الى العديد من تجار باعة المفرد في الالوية الشمالية والجنوبية في العراق وبالدفع الآجل. وبسبب توقف هؤلاء التجار عن تسديد مبالغ الديون الكبيرة التي تراكمت بذمتهم قد اوقعت ناظم في مشاكل مالية خطيرة قد تؤدي الى دخوله الى السجن والافلاس!
وقد غرق في بحر الديون بمبالغ كبيرة الى كبار التجار من باعة الجملة ووكلاء الشركات الاجنبية المصدرة للبضائع الى العراق.
مما اضطره الذهاب الى البنك لطلب قرض بمبلغ خمسة ملايين دينار يتم تسديدة بعد مدة سنتين من تأريخ استلام مبلغ القرض من البنك.
لكن! موظف قسم التسهيلات في البنك طلب منه تقديم العديد من المستندات الى البنك كضمان لتسديد مبلغ القرض. كسندات ملكية القصور والبنايات ونسخ من البيانات الكمركية للبضائع المستوردة خلال السنتين الماضيتين وغيرها. عند حلول العصر رجع ناظم الى البيت فوجد زوجته نجوى لازالت ممددة فوق السرير في غرفة النوم مستسلمة لنوم عميق مثل انسان اسلم الروح. اثناء نومة القيلولة بعد تناول طعام الغداء ظهر هذا اليوم تحت خيمة السكون والهدوء.
* * *
فجأة ! شق صوت نجوى هذا السكون الدائر فوق السرير .
- ناظم . لقد اشتهيت على التو اكل السمك المشوي !
لقد جلبت معي دجاجة مشوية للعشاء .
لا اريد اكل الدجاج , اشتهي تناول لحم السمك المشوي الآن !
خلطا المياه معا الحارة منها والباردة , صار الماء دافئا منعشا لجسديهما , اغتسلا سوية , فقد اعتادا على ذلك منذ يوم تفجر الحب بينهما . ارتديا ملابسهما وغادرا البيت نحو احدى الكازينوات المطلة على نهر دجلة بشارع ابي نؤاس . توقفا قليلا للتفرج على نار الحطب المشتعلة , وقد علقت حولها اسماك النهر بشكل دائري منتظم . بعد اتمام الشواء للبطن تطرح السمكة على ظهرها فوق جمرات فحم الخشب المتقدة . حتى تنضج السمكة . ويطلق اسما شهيرا على هذا السمك هو (السمك المسكوف) ويقدم مع السمك المشوي العنبة الحارة والزلاطة الطازجة الخضراء والخيار المخلل الناعم والخبز المحمص الحار .
* * *
استغرب ناظم ! بل تألم ايضا عندما رأى نجوى تأكل بشهية غير طبيعية . كأنسان لم يذق الطعام منذ ايام عديدة . اخذته الدهشة لهذا التغير المفاجىء الذي طرأ على تصرفات نجوى. خاصة طريقتي اكلها وحديثها ! فقد كان تغييرا مفاجئا يختلف كثيرا عن الماضي القريب! فقد اخذت تأكل بنهم وشهية مفتوحة وتتحدث بسرعة وبصوت مختلف وهي تروي مشاهد احلام تتخللها احداث ومواقف محرجة .
خرجا من الكازينو وكل منهما يتأبط ذراع الاخر . اخذا يسيران فوق ضفاف نهر دجلة الخير. مستمتعين بمنظر النهر المحاط باشجار الصفصاف التي تتصاعد نحو السماء , سيقانها ورائحتها , تمايل اغصانها حينما يتحرك النسيم , اخذ ناظم ينشد امامها مقاطع من قصيدة بغداد المنشورة في ديوان ظلال العهود للشاعر العراقي عبد الصاحب شكر والتي اذاعها سنة 1936 قائلا :
يحتل قلبي منك يا بغـــداد
زخار شوق لاعج ووداد
ولناظري يلوح من مرآك مـا
قد سنه الآباء والاجـداد
ولقيت من الم المصائب كل ما
من هوله تتفتت الاكبـاد
لم انسَ من عهد الشباب مجالسا
للانس يمرح بينها الرواد
( بأبي نؤاس ) حيث دجلة ينثني
طربا ولا يأتي العيون رقاد
قد ذقت لذات السهاد فقلت يا
ليت الليالي كلهن سهـاد
قل للمهاجر كيف ينعم بالــه
افبعد بغداد هناك بـلاد
آه ! انظر يا ناظم ياله من منظر ساحر !! ما اجمل هذه الليلة النيرة المضيئة , فقد انقشع السحاب من السماء واشتدت اضواء النجوم , تنعكس على مياه دجلة الخير .
كما تنعكس على صفحته النجوم البعيدة . انظري كيف تتراقص على مياهه ؟!
انظر الى القمر , وقد اكتمل بدرا كاملا هذه الليلة .
انظري اليه كيف يرتعش ؟ في بقعة ذهبية ضخمة على مياه دجلة الصافية.
يقولون ان الحرية جميلة تحت وهج الشمس ونورها , لكني اقول ان الحرية تكون اكثر جمالا تحت ضياء القمر والنجوم اللامعة من اعالي السماء .
عزيزتي نجوى . لقد تأخرنا كثيرا في هذه الليلة ! لنعود الى البيت حتى لانزعج هؤلاء النيام من المشردين . لندعهم ليناموا واحلامهم فوق هذه الارائك (المقاعد الطويلة ) المخصصة لاستراحة الناس الذين يتجولون عصراً فوق الرصيف المحاذي الى ضفاف نهر دجلة الخير والخلود .
وفي صباح اليوم التالي اعطت نجوى سند ملكية قصرها الى زوجها ناظم لتقديمه الى البنك من اجل استلام مبلغ قرض من المال .
بعد مرور ايام قليلة ساءت حالة نجوى الصحية. اخذت تتقيأ بكثرة، وتطلب احضار اطعمة شديدة الحموضة! مما اضطر ناظم الى نقلها الى المستشفى. وبعد اجراء الفحوصات الطبية عليها تبين انها حامل وتعاني فترة الوحام.
وعند رجوعهما الى القصر طلب منها ناظم ان تلازم الفراش للراحة والاطمئنان على صحتها وسلامة الجنين في بطنها وبعد مرور ستة اشهر دقت ساعة الطلق لنجوى زوجه ناظم مما اضطر لنقلها الى مستشفى الولادة. رزقت بمولودين(( توأم TWIN)) اطلق عليهما ناظم الذي يلازمها في المستشفى اسم هناء وسامر.
* * *
واليوم مضى على ناظم سنتان وهو يهتم في رعاية وتربية ولديه التوأم هناء وسامر واهتمامه بمعيشتهما بصورة ممتازة وينفق عليهما كافة المصاريف من حليب وحفاظات وملابس ومراجعات طبيب الاطفال لفترات زمنية دون اي انقطاع.
دون الطلب من زوجته نجوى ان تقوم بدفع قسم من هذه المصاريف الكثيرة رغم انها امرأة غنية، ولم يخبرها عن المشاكل المادية الخطيرة التي وقع فيها.
لأنه كان يبيع الى العديد من تجار باعة المفرق - المفرد - في بغداد والمدن الاخرى في العراق بطريقة الدفع الآجل. وان عدم تسديدهم مبالغ الديون الكبيرة التي تراكمت بذمتهم قد ادت الى نفاذ السيولة النقدية في كافة ارصدة ناظم! حتى صار غير قادر على تسديد مبلغ قرض البنك وكافة مبالغ الديون الاخرى المستحقة للدفع الى عدد من التجار ووكلاء الشركات الاجنبية التي تصدر البضائع الى العراق.
لكن ناظم! لم يخبر زوجته الغنية عن هذه المشاكل الخطيرة التي وقعت فوق رأسه شبيهة كضربة قوية بعصا صنعت من الحديد القاتل! كتم كل هذه المشاكل في اعماق صدره وقلبه وعقله ونفسه ادت الى انتكاسة خطيرة بصحته العصبية والنفسية!
تخيم فوق رأسه غيوم الكآبة والاحزان السوداء! اخذ ناظم يتهرب ويعتكف وحيداً بعيداً عن كافة الناس فوق سطح الطوابق العليا تارة ووراء اشجار الصنوبر والتوت والسدر ( النبق ) المعمرة والعالية في الحدائق والبساتين تارة أخرى.
يتحدث الى نفسه والى الانسان والحيوان والطيور والاشجار والحياة والموت قائلا:-
اليوم الأول
ما أجمل الصباح في الأيام الأواخر من شهر أيلول (سبتمبر ) في بلادي . العصافير تزقزق . الهواء يهب بنسمات عليلة تميل إلى البرودة ... ما أجمل أغصان الأشجار وهي تتراقص ، فرحة باستقبال يوم جديد . الطيور تحلق في أعالي السماء ... وأخرى تحط هنا وهناك ، تبحث عن الطعام من أجل إطعام أفراخها الذين تركتهم في الأعشاش ... مثل الإنسان الذي يخرج من بيته صباحا ، يُجهد نفسه في البحث عن عمل من أجل أن يكسب رزقه لتوفير قوت أطفاله وعائلته . أخذ الضوء ينشر نوره فوق الأرض ، صاعدا إلى السماء لاستقبال قرص الشمس الذي ظهر من بعيد ... من الركن القصي من كوكب الأرض .
الأرواح ، الجن ، الأطباق الطائرة تحلق ما بين الأرض والسماء ليلا ونهارا دون انقطاع .
أسراب الطيور تتحدث فيما بينها بلغات مختلفة ! وهذه الحمامة تنوح . لماذا؟ لست أدري . وهذه القطة هاربة، مستغيثة من هر يحاول اغتصابها ومضاجعتها في هذا الصباح الباكر دون خجل أو حياء . تسمع من بعيد أصوات اطلاقات نارية ، يبدو أنه تشييع إنسان ميت ، تم نقله إلى مثواه الأخير نحو المصير المجهول القرار.
هذه هي الحياة . دورة لا تتوقف . دورة ولادة الإنسان وموته .
اليوم الثاني
أخذت خيوط الفجر تنسج في السماء . بدأ جيش النور يزحف وراء جيش الظلام . ليبزغ نهار يوم جديد في الحياة . نسمات الهواء العليل تطلق أصوات موسيقى هادئة ... وعلى أنغامها تتراقص أغصان الأشجار وسعف النخيل بغنج ودلال .
اليوم الثالث
نباح الكلاب يتزايد بقوة . لعل ذئبا أو كلبا غريبا دخل المدينة . ظلت تطارده بضراوة ، ولى هاربا بانكسار وإذلال . أخذت العصافير تزقزق فوق أغصان الزيتون والبرتقال والسدر وسعف النخيل . تزقزق وتقول : لكم البشرى يا أبناء البشرية الأحياء . إن صباحا جديدا قد أشرق على وجه الأرض.
اليوم الرابع
لا يزال الظلام يخيم فوق الأرض . أخذت الزرقة الغامقة تظهر في السماء، تتوسطها سحبٌ بيضاء . لا زال الجو باردا ، هادئا . انتشر نور الصباح الزاهي . أخذت العصافير تزقزق بفرح شديد . زرقة السماء ظاهرة للعيان.
سحبٌ خفيفة تكتنف السماء بلونها الأبيض المائل إلى الاصفرار . وقف الحمام فوق الأسلاك الكهربائية دون نواح . أخذت بعض الطيور الداجنة في المنازل تقوم بالتمارين الرياضية الصباحية، فهي تحلق إلى الأعلى ثم تهبط نحو شجرة أو نخلة وهي مفتوحة الجناحين من جهتي اليمين واليسار وأسراب أخرى من الطيور محلقة في عنان السماء بصورة متناسقة ، جميلة ثم تأخذ بالدوران فوق سطوح المنازل .
اليوم الخامس
أخذ الضياء يتصاعد نحو السماء البيضاء ، هناك سحب رمادية تنتشر شبيهة بالبحيرات تماما . من الشرق ظهرت بحيرة كبيرة من السحب الرمادية ... العصافير لم تزقزق لحد الآن. صياح الديوك يؤذن بانبلاج صباح جديد فوق الأرض . الصمت والهدوء يسودان الكون هذا الصباح ! فجأة ! تحولت السحب الرمادية إلى لون أرجواني، كحبة الرمان . هبات النسيم العليل تدغدغ سعف النخيل وأغصان الزيتون والسدر والبرتقال . طارت حمامات الفختي من أعشاشها . بينما الأخرى تنوح (( كوكوتي )) (( كوكوتي )) .
أشرقت الشمس من وسط بحيرات السحب الرمادية الشرقية .
اليوم السادس
عصر هذا اليوم . اكتنفت السماء الزرقاء الباهتة سحبٌ رمادية وبيضاء . الطيور تحلق بتثاقل . أغصان الأشجار وسعف النخيل متوقفة عن الحركة . لا تداعبها أية نسمة هواء .
اشتدت حمرة الشمس الغاربة رغم السحب الرمادية الكثيفة . توقع سقوط قطرات من مطر خفيف . خيم الظلام . ظهر القمر بلونه البرتقالي . في هذه الليلة اشتد ضوء القمر الذي اخترق السحب التي شكلت دائرة متساوية الأقطار حول القمر . صار القمر نقطة الوسط لهذه الدائرة التي تشع منها ألوان جميلة كألوان قوس قزح.
اليوم السابع
يبزغ القمر قريبا من ليلة البدر . لا أدري كم عمر القمر في هذه الليلة؟ فهو مدور . اعتقد أن القمر في الغد سيكون بدرا كاملا ، بدرا بالتمام ، وأن غدا لناظره قريب...!
أخذ الثلج ينثر رذاذاً فوق الارض كرداء ناصع البياض.
- ما أجمل هذا الثلج ! ما أجمل هذه الأرض وهي ترتدي فستان العرس الجميل !
هكذا تحدث ناظم في داخله وهو يتأمل الثلج . أنشد يقول :
يا ثلج قد هيجت أشجاني
ذكّرتني أهلي وأوطاني
* * *
وناظم المسكين نوّاح
يقضي الليالي فاقد الأنسِ
* * *
يا نفس ناجي صاحب العرش
يا رازق الطير في العشِ
وهكذا بكى من أعماق قلبه لأول مرة منذ وقت طويل ، وكانت هناك دموع أخرى تتجمع . دموع الآلام والفراق والبعاد عن والدته واخواته الثلاثة . أُصيب بضعف الأعصاب ، وسيطر عليه القلق ولم يعد يهتم إلا بتأمل الطبيعة . يكتب الصفحة تلو الصفحة عن النجوم والغيوم ، الشمس والقمر ، الشروق والغروب ، الليل والنهار، الصيف والشتاء ، الربيع والخريف ، الأشجار والزهور . ورأى الطبيعة تكره المساواة وتمقتها ، فهي تحب التمييز بين الأفراد والطبقات والأنواع . فالسمك الكبير يمسك بالصغير ويلتهمه هذه هي القصة بأكملها.
اغرورقت عيناه بالدموع ، قفزت سحنات والدته بالندوب من أعماق ذاكرته ، راحت تلطم ذاته من الداخل ، تزحف إليه من عتمات السجن مصائب الحياة، تناديه للعيش من لجج العذاب ومصائب الزمن. وبين الفينة والفينة كان يقف وينادي في ذلك البستان بصوت ليس أفظع منه صوت ، يحفل بالحزن :
- أين أنتِ يا امي ؟ أين انتن يا اخواتي ؟ وبكى ناظم طويلا ، لقد سفح دموعا حارة ، لقد بكى في مرارة . وفيما هو يبكي راودته فكرة العودة إلى مدينته الأم الكوت.
ويتخذ له سكنا قريبا في منزله مهما كلف الأمر ؟ !
تحدث إلى نفسه بإصرار :
- منذ عشرين سنة وأنا متوارٍ ، وأشعر أن والدي لازال يبحث عني ! حبي لوالدتي واخواتي الثلاثة اكبر من والدي . آن الأوان للرحيل والعودة إلى مدينتي الحبيبة الكوت .
على الفور! قرر ناظم السفر الى لواء الكوت للقاء والدته لاقناعها بالتحدث مع والده عن حل الى مشكلته المادية في مساعدته لاعطائه مبلغا من المال لتسديد قرض البنك ومبالغ الديون التي تراكمت بذمته الى عدد من التجار.
وان والده ينفذ امر الله سبحانه وتعالى في حق الولد في عاجل الدنيا بخيره وشره كما ورد ادناه:-
حق الولد
(( واما حق ولدك. فتعلم انه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليتهُ من حسن الأدب، والدلالة على ربه، والمعونه له على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب.
فاعمل في امره من يعلم ان مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه المتزين بحُسْن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذِر الى ربه في ما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه. ولا قوة إلا بالله)).
* * *
سحب ناظم من محاسب الشركه ملف قرض البنك وكافة ملفات التجار الذين لديهم بذمة الشركة مبالغ ديون كبيرة بلغ مجموعها ضمن قرض البنك ما يقارب ٧ ملايين دينار ( سبعة ملايين دينار).
اقفل غرفته في الشركه بعد ان ترك الملفات فوق طاولة الكتابة وتوجه مباشرة الى كراج النقل العام واتفق مع احد سائقي سيارات الاجرة لنقله الى لواء الكوت فجر يوم غد.
وعند رجوعه الى القصر ادخل سيارته الى الكراج الملحق مع القصر بجوار الشارع الفرعي والمخصص الى اقامة حارس القصر. ليس كما اعتاد يوميا تركها فوق ارضية الطارمة الخارجية المبلطة بالاسمنت.
* * *
عند حلول فجر اليوم التالي غادر ناظم القصر خلسة عندما كان الكل نيام.
وبعد دقائق معدودة حضر سائق سيارة الاجرة الى باب القصر. صعد ناظم الى سيارة الاجرة وجلس الى جانب السائق في المقدمة وهو يحمل بيده حقيبة صغيرة. انطلقت السيارة مسرعة نحو لواء الكوت. اخذ ناظم يتنفس الهواء العليل... هواء الصباح المشرق الجميل.
لكن! حال وصول السائق صادف وجود تصليحات في الشارع العام للسيارات المتوجهة الى العاصمة بغداد مما اضطر سائقي كافة انواع السيارات التي تدخل الى العاصمة بغداد من المناطق الجنوبية نحو الشارع المخصص للسيارات المتوجهة الى المناطق الجنوبية والذي اصبح ممر واحد للذهاب والاياب.
فجأة! وقع اصطدام مروع من قبل شاحنة نقل بضائع كبيرة مع سيارة الاجرة الصالون التي تنقل ناظم الى لواء الكوت حيث تحطمت مقدمة سيارة الاجرة الصالون تحطيما كاملا!
وقد سببت الصدمة القوية للشاحنة وتحطم زجاج مقدمة السيارة الى تهشيم رأسيهما تماما! ونزف الدم من رأس التاجر ناظم ورأس سائق سيارة الاجرة.
حضر الى موقع الحادث العديد من سيارات الشرطة وتعالى الصراخ والعويل للعديد من الناس على هذه الفاجعة الآليمة التي وقعت هذا الصباح! حال ادخالهما الى قسم الاسعاف في المستشفى العام في المدينة. انتشر خبر وقوع هذا الحادث بين الناس كأنتشار النار في الهشيم!
لقد مات الاثنان بعد مرور ساعة على ادخالهما الى المستشفى. اخذت اعداد كبيرة من الناس تتوجه نحو المستشفى؟
خاصة بعض الناس من رجال الدين الذين عرفوا ان احد الموتى هو ناظم ادريس الواسطي من مواليد ارض لواء الكوت. وقد عاد الى الكوت بعد غياب استمر عشرين سنة مضت!
سبحان الخالق! لقد ولد فوق ارض لواء الكوت وعاد ليموت فوق ارض لواء الكوت!
وقد كان المرحوم ناظم محبوبا من قبل سكان اللواء وكان يتمتع بسمعة ممتازة بين الناس. وتم تشييعه من قصر والديه في لواء الكوت وتم نقل الجنازة الى قصر زوجته نجوى من اجل القاء النظرة الاخيرة والصلاة على جنازته. وتشييعه من قصر زوجته نجوى في بغداد ايضا.
ثم نقل جنازة المرحوم ناظم الى مثواه الاخير ليدفن تحت تراب الارض المخصصة الى عائلته.
بعد انتهاء مراسم التشييع ودفن جثمان ناظم ادريس الواسطي اقيمت مأتم العزاء في لواء الكوت في قصر والده. وبنفس الوقت اقيم مأتم عزاء ثان في العاصمة بغداد في قصر زوجته الارملة نجوى ابراهيم الذهبي والتي التزمت بأيام العدة الشرعية البالغة اربعة اشهر وعشرة ايام والاعتكاف - البقاء - في القصر. وعدم كشف وجهها او اي جزء من جسمها امام رجل غريب طيلة ايام العدة. واذا خرجت من القصر عليها ان تغطي وجهها بالنقاب وهي قطعة قماش خفيفة سوداء اللون يطلق عليها اسم البوشية. وان ترتدي ملابس الحداد السوداء اللون الطويلة والتي يطلق عليها اسم (الجبة ) او( العباية ).
ذهبت الارملة نجوى الى مقر شركة زوجها الذي توفاه الله. فور انتهاء مدة ايام العدة الشرعية.
تمت
1384 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع