مآزق الإعلام العراقي

                                             

                          إبراهيم الزبيدي

ما تعلمناه عن الفن الإذاعي والتلفزيوني لا يتغير بتغير الظروف. فقواعد اللعبة الإعلامية ثابتة إلى حد كبير. وما أضافته وما تضيفه التكنولوجيا المتسارعة إلى وسائل البث المرئي والمقروء والمسموع لا يمس جوهر اللعبة.


فالهدف الرئيس لأي جهاز إعلامي هو الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من البشر، والغرض واحد، وهو تمرير خبر أو فكرة أو عقيدة أو بضاعة أو خدمة، أو أي شيء آخر. ومن أجل هذا الهدف يعمد المخطط الاستراتيجي في ذلك الجهاز إلى اعتماد وسائل وأدوات تساعده على تسهيل مرور بضاعته إلى المتلقي لتحقيق الهدف. وأول تلك الوسائل وأهمها ما نسميه (الجسور المساعدة)، وهي عناصر إغرائية يلجأ إليها الهيكل العام لاصطياد المتلقي وتحضيره لقبول المادة المخبأة وراء تلك الجسور. وتتنوع الجسور وتتعدد باختلاف طبيعة الجهاز الإعلامي، وتبعا لمهارة قائد الجهاز الإعلامي كذلك. وأهم وأول وأخطر تلك الجسور هي العناصر البشرية البرامجية التي تتولى عرض الخبر أوالفكرة وتقديمها وتلميعها وتمريرها إلى أوسع ما يمكن من المواطنين. وقد تفعل مذيعة واحدة في إذاعة، أو محاور واحد في فضائية، أو عمود صحفي في جريدة، أضعاف ما تفعله أغنية أو تمثيلية أو إعلان.

وما لا يقبل الجدل أن الإعلام مهنة وصناعة كغيرها من المهن والصناعات، تدرس في المعاهد والجامعات، مثل الهندسة والمحاماة والجراحة والطيران. ولكل فصيلة من فصائل الإعلام قواعدُها وقوانينها وأسرارها المهنية الخاصة بها. وبقدر توفر المهنيين الناجحين في الجريدة أو الراديو أو الفضائية يكون احترام الناس لأخبارها وأفكارها، وانتشارها وازدهارها أكبر وأسرع.

وتحرص الدول التي تحترم شعوبها على إتاحة الفرص لأبنائها اليافعين لدراسة الصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون وتعلم المهنة على أصولها وقواعدها الأساسية، ثم ينطلق المتخرج فيها بعد ذلك مستعينا بمواهبه الخاصة وقدراته الإبداعية المتجددة. ولكن الدراسة وحدها لا تخلق مذيعا ناجحا ولا مخرجا بارزا ولا محاورا جيدا يطغى على غيره من المحاورين.

ومع سقوط النظام السابق وقبضته الحديدية التي خنقت الإعلام ثلاثين عاما كان منتظرا ومتوقعا وطبيعيا أن يفلت الزمام من يد السلطة، ويدخل العراقيون في مرحلة فوضى إعلام لا مثيل لها لا في تاريخ العراق ولا المنطقة، فتخرج إلى الساحة عشرات الإذاعات والفضائيات والجرائد والمجلات.

وطبيعي أن تصاحب هذا الفورة معارك طاحنة بين الصحفيين والإذاعيين والتلفزيونيين المحترفين وبين الطارئين على هذه المهنة الرائجة. فقد صار من المعتاد أن يصبح عامل في مصنع حليب رئيس تحرير جريدة، ومراسل صحفي مديرا عاما لإذاعة وتلفزيون الدولة العراقية نفسها، ومعلم اللغة لعربية في مدرسة ابتدائية مستشارا عاما لهيئة الإذاعة والتلفزيون، وأن يتشكل مجلس أمناء هيئة الإعلام من طبيبة نسائية وحلاق وبائع قطع غيار سيارات وصحفي من الدرجة العاشرة.

وبعدوى الفضائيات التي أصابت العراقيين صار طبيعيا ومتوقعا أن يختفي أصحاب الخبرات الحقيقية من الإعلاميين العراقيين ويتراجعوا أما جيوش الهواة والمتطفلين.

ولابد من الاعتراف، مقدما، بأن سبب هذه الإشكالية هم الممولون، وهم أربعة فصائل، أمريكا وإيران وأحزاب السلطة وفئة رجال الأعمال.

والثابت تاريخيا أن سلطة الاحتلال التي احتكرت الإعلام العراقي، حتى من قبل سقوط النظام في نيسان 2003، هي التي فتحت الباب لهيمة المتطفلين ومزوري شهادات الخبرة والاختصاص. فقد تولى الأمريكيون وحدهم تعيين الكادر البرامجي للإذاعة والتلفزيون وجريدة الصباح، ثم عمدت السفارة الأمريكية، بعد ذلك، إلى إغراق الساحة بالفضائيات والإذاعات والجرائد، دون تدقيق. فكان يكفي أن يتقدم أي عراقي بشهادة خبرة إعلامية سابقة، حقيقية أو مزورة، ليحصل على تمويل.

ومن أوائل حالات العبث الأمريكي بهذه المهنة إقدام القائد الأمريكي المسؤول عن قطاع الإعلام على فرض أحدهم، وكان مراسلا لإذاعة عراقية صغيرة غير احترافية تبث من أوربا، مشرفا عاما على شبكة الإعلام العراقية كلها. ولأنه محدود الخبرة والكفاءة فقد أوقع نفسه في ورطة أخرجته من الميدان بسرعة فائقة. فقد دفع به الغرور إلى وضع نفسه في ورطة قاتلة أخرجته من الميدان. فقد اقتحم مجال الحوار التلفزيوني (توك شو)، والذي يعتبر أصعب ألوان العمل الإذاعي والتلفزيوني وأخطرها، لما له من قوانين وقواعد لابد أن يكون من يتصدى له ملما بها وملتزما بحدودها وأعرافها. وأول هذه القوانين أن يكون المحاور محايدا تقتصر مهمته على انتزاع أقصى ما يمكن من أراء أو معلومات من الضيف، وَترْك مهمة الحكم والاختيار للمتلقي وحده، دون ضغوط ولا تدخلات.

وما زال العراقيون يتذكرون تلك الندوة التلفزيونية القاتلة. فقد كان موضوعها (من الذي يشكل الأغلبية في التعداد، شيعة العراق أم سُنته؟).

وقد استضاف في ندوته تلك معمما شيعيا وآخر سنيا لمناقشة هذا الموضوع الخلافي الشائك المخيف. فقال الشيعي: إن الشيعة هم الأكثرية، ورد عليه السني قائلا: إذا أضفنا الكورد والتركمان إلى العرب السنة لصاروا هم الأكثرية. وهنا غضب (المحاور الشجاع) وصاح بعصبية: ما أسمح لك تزور الحقائق، إن الشيعة هم الأكثرية.

في اليوم التالي أصدر القائد الأمريكي المسؤول عن شبكة الإعلام آنذاك أمرا بمنحه إجازة إجبارية لزيارة أهله في لندن، ثم أبلغه بعد ذلك، وهو هناك، بألا يعود.

أما ثاني العوامل التي عبثت بالإعلام العراقي فهي إيران. فقد عمدت، في حربها الثقافية والسياسية الطائفية في العراق، إلى إطلاق عشرات الفضائيات وعشرات الإذاعات والصحف والوكالات والمواقع الإلكترونية لتتولى تعميق الخلافات الطائفية بين العراقيين وإغراق المواطن بالطقوس، وشحنه بالكراهية لمكونات المجتمع الأخرى، وإبقائه في حالة استنفار دائمة لخدمة الأهداف السياسية الإيرانية أكثر من أي شيء آخر. ولكثرة الفضائيات والإذاعات العراقية التي أطلقتها أو مولتها إيران، ولقلة المهنيين المحترفين المستعدين للعمل في خدمة المعسكر الإيراني فقد أصبح في حكم الضرورة الاستعانة بالطفيليين، الأمر الذي جعل أغلب تلك الفضائيات والإذاعات مشاريع فاشلة لا تابعها غير قلة من المواطنين العراقيين.

ومن هنا صار من يستعرض أجهزة الإعلام التي تغص بها الساحة العراقية لا يجد إلا عددا قليلا جدا منها يحترم المهنة ويلتزم بأخلاقها ويستخدم أشخاصا مهنيين حقيقيين لإدارتها ورسم سياساتها وبرمجتها وتقديمها للناس.

أما العامل الثالث الذي خرب الإعلام فهو نوري المالكي وحزب الدعوة وسلطته التي تحتكر الأمن والمال والثقافة والإعلام والسياسة والقضاء. ويكذب من يزعم أن في العراق حرية رأي وصحافة. فلم تنجُ أحد من

أنياب السلطة إلا إذا هرب إلى خارج العراق. وحتى الفضائيات التي اختارت البث من دول الجوار لم تسلم من ضغوط السلطة العراقية على حكومات تلك الدول لمضايقة الإلام المعارض لسلطة المالكي. وما جرى لقناة البغدادية مؤخرا دليل صارخ على ديكتاتورية حزب الدعوة ورئيسه ومستشاريه .

أما الفئة الرابعة التي شاركت في تعقيد هذه الإشكالية في الإعلام العراقي فهي فئة الشخصيات والأحزاب العراقية التي اقتضت حاجتها السياسية أو العقائدية امتلاك فضائية أو إذاعة أو موقع إخباري ألكتروني لتحقيق أهدافها. وليس هناك مبرر مفهوم ومقبول يفسر اعتماد هذه الشخصيات والأحزاب على عناصر مبتدئة أو طارئة على المهنة، وقبولها بحرق أموالها على مشاريع هامشية لا تحقق أهدافها.

وبعد ثلاث عشرة سنة ما زلنا لم نضع أقدامنا على أول الطريق. والمحزن أن العراقيين ما زالوا يترقبون ولادة الفضائية الوطنية العراقية الصادقة الخالية من الأحقاد الطائفية أو العنصرية، والعاملة على كشف الفساد والمفسدين، بموضوعية وتجرد ونزاهة، وبعيدا عن الابتزاز والارتزاق والاحتيال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع