الحقيقة حسنة وجميلة

                                                                          

                       القس لوسيان جميل

المقدمة: اعزائي القراء! قد يبدو هذا المقال، لأول وهلة مقالا فلسفيا، غير ان الأمر ليس كذلك، على الرغم من الجرس الفلسفي فيه.

فما اطلبه من هذا المقال هو ان يقدم لنا المعيار الذي يجعلنا نميز بين ما هو حق وما هو باطل، وبين ما هو حقيقي وما هو مزيف وفاسد وبين ما هو جميل وما هو قبيح، في كل أمور حياتنا، ولاسيما في الأمور السياسية منها. ولذلك يأتي العنوان ليعطينا صفات ومعيار الحقيقة ويقول: ان الحقيقة حسنة وجميلة، اي ان كل ما هو حسن وجميل هو حقيقة وكل ما هو شرير وقبيح هو مزيف وباطل، وهو متناقض مع الحقيقة.

لماذا هذا المقال الآن: غير ان وضعنا لهذا المقال الآن، يأتي لحاجة ملحة، لما نشاهده في ايامنا هذه من تفشي الكذب والتزوير والغش والتضليل، ولاسيما في الحياة السياسية، بشكل اساسي. ففي الواقع بتنا وكأننا بحاجة الى قاموس خاص، لكي يدلنا على المعاني الحقيقية التي تتحملها اية كلمة او اية عبارة يستخدمها السياسيون الكذابون، ممن يلجئون الى تزوير الحقائق، من اجل تضليل الآخرين، تمهيدا لقيامهم بالعدوان عليهم، او تبريرا لعدوان سبق ان قاموا به.

تفشي الكذب والتضليل: غير ان الكذب بقصد التضليل السياسي لم يعد يقتصر على بعض ساسة العالم العدوانيين والقتلة واللصوص الدوليين الكبار، وإنما تفشى الكذب والتلفيق والسفسطة، بين كل من له التزام سياسي او مصلحة تعود الى عالم السياسة السيئ. وهكذا نرى الغربي يكذب والشرقي يكذب، ورجل الدين يكذب والعلماني يكذب، ومن له دين يكذب ومن ليس له دين يكذب، حتى يكاد العالم يدخل في متاهة يصعب الخروج منها، مع تأكيدنا على وجود كذب خبيث، لأنه كذب مبطن تبطينا قويا يصعب كشفه، ووجود اكاذيب سمجة ومفضوحة، حتى تكاد ان لا تكون اكاذيب، بل كلاما عدوانيا، لا يبالي صاحبه المدجج بالسلاح، اذا صدقه صاحب الحق ام لم يصدقه، لا بل هو لا يبالي حتى بالرأي العام العالمي.

عالمنا أضاع بوصلته: هناك مثل فرنسي يقول: Il a perdu la boussole. أي ان فلانا قد اضاع البوصلة. اما هذا المثل فيقال لكل من أضاع اتجاهه ومبادئه الأخلاقية، ولمن فقد الطريق القويم، وأيضا لمن فقد عقله او فقد مشاعره السليمة. علما بأن البوصلة هي الآله التي تدل الانسان على الاتجاه، لأن ابرتها المغناطيسية تشير الى الشمال دائما، وفي كل الأحوال. أعني ان هذا الجهاز يتمتع بالاستقرار والثبات على حالة واحدة، كما هو المطلوب من اي جهاز يصلح لمعرفة الاتجاه.

البوصلة السليمة والبوصلة المزورة: غير ان عالمنا لم يضيع بوصلته حسب، لكنه لم يعد يميز بين البوصلة السليمة والبوصلة التالفة، او البوصلة المزورة المقدمة له من جهات عديدة، وذلك بسبب تعدد الجهات التي تدعي انها تملك حقيقة الخير والشر، وبسبب الفتاوى التي تأتي الى العالم، ولاسيما الى عالم الضعفاء، من كل جانب، سواء جاءت من الجانب المدني ام جاءت من الجانب الديني.

لذلك بدأنا نلاحظ تناقضات كبيرة واختلافات في الحكم على قضية واحدة، حيث يصير ما هو كفر بعيون البعض، جهادا في عيون آخرين، ويصير ما هو وطنية في عيون البعض، كفرا وزندقة في عيون آخرين، كما يصير الاحتلال تحريرا والاستعباد حرية، وتصير سرقة الضعفاء حقا مشروعا، كما يصير المعتدي صاحب حق والمعتدى عليه مذنبا، لأن المعتدي في المجال السياسي الذي نتكلم عنه، وفي زماننا، ولربما في كل زمان ومكان، هو القوي الذي لا يلاقي مقاومة من جانب المعتدى عليه. ولذلك تكون حجته هي الأقوى دائما.

سؤال وجيه: من هنا يكون السؤال المشروع الذي يقول: ترى هل لا زلنا نملك معيارا ثابتا مثل ثبات البوصلة، يدلنا على الحقيقة والخير والجمال، عند تجسدها في اعمال حضارية معينة؟ ان الجواب الذي نعطيه في هذه الفقرة يقول: نعم لا زالت امكانية معرفة الحقيقة والخير والجمال في كافة اعمالنا متاحة لنا، طالما لا زال العالم يملك، هنا وهناك، شيئا من الطبيعة الانسانية السليمة، اي طالما لا زالت هناك بقية صغيرة من البشر باقية، تملك إمكانية التمييز بين الخير والشر وبين الكذب والحقيقة، والجرأة الكافية لإعلان ما تؤمن به بوجه عتاة هذا العالم.

كيف نميز الخير من الشر: ومن هنا فان الفقرات التالية من المقال تريد ان تبين للقارئ الكريم سبل تمييز الخير من الشر، اي انها تريد ان تضع بين أيدينا البوصلة السليمة التي تتجه نحو الحقيقة والخير والجمال دائما وتشير اليها. كما تقول لنا الفقرات التي بين أيدينا ما هو سر بوصلتنا الانسانية الأخلاقية التي لا تخطئ، وكيف نعرف اذا ما كان عمل ما او توجه ما توجها وعملا اخلاقيا حسنا، ام كان توجها وعملا شريرا.

الفائدة من هذا التمييز: وهنا قد يقول لي قائل: طالما ان الأقوياء هم اقوياء ولا فائدة من الوقوف بأوجههم، فلماذا نحاول نحن ضعفاء هذا العالم، ان نميز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، وبين ما هو خير وما هو شر، وبين ما هو جمال وما هو قبح، وما الفائدة من ذلك؟ اما نحن فنجيب: ان سعي ضعفاء العالم الى معرفة قواعد الحقيقة والزيف وقواعد الخير والشر، وقواعد الجمال والقبح، يجعل هؤلاء الضعفاء واعين لما يحدث في حياتهم وما حولهم، لكي يستطيع هؤلاء الضعفاء ان يتحدوا مع بعضهم البعض، ضد الأشرار وشرهم، كل انسان ضعيف بحسب ما أعطي له، عوضا عن ان يصير هؤلاء الضعفاء خداما لمشاريع الأقوياء العدوانية الشريرة، كما حدث في العراق وفي اماكن كثيرة من الوطن العربي.

حاجتنا الى وسيلة مضافة الى الأديان: هذا وقد نتساءل ونقول: ترى اليس باستطاعتنا ان نعرف الحق والخير والجمال من الكتب المقدسة نفسها، فلماذا نفتش عن وسيلة أخرى تكشف لنا عن معيار الحقيقة والخير والجمال؟ للجواب على هذا التساؤل نقول: نعم ان الكتب المقدسة تعرفنا بحقيقة الخير والشر وبحقيقة الجمال والقبح، على مبدأ ان الشجرة تعرف من ثمارها، ولكن المشكلة تكمن في ان ثمار الانسان ليست دائما بوضوح ثمار الشجرة، لأن الانسان كذاب ومخادع.

ولذلك تبقى حاجتنا ملحة لأن تكون بيدنا بوصلة أخرى جيدة مضافة الى بوصلة الأديان، من خلالها نكتشف حقيقتنا نحن البشر، وحقيقة الثمار التي نطرحها، ليس في المجال المبدئي حسب، بل في المجال العملي ايضا، في هذا المجال الذي يتغير بتغيير بيئة الانسان الاجتماعية والحضارية، ويكتنف هذا المجال كثير من التعقيد وتؤثر فيه الضبابية والعتمة تأثيرا سلبيا.

سر البوصلة الجيدة: وهنا يأتي تساؤل مشروع ليقول: ترى الا تكفي الأديان لتساعدنا على التمييز بين ما هو خير وما هو شر؟ نقول ونعم بالله من الأديـان، فقد عملت الأديان واجبها في هذا المجال ولم تقصر فيه، وكانت ناجحة في كل ما عملت. غير ان هذا النجاح لم يستمر الى الأبد، حيث وجدت الأديان نفسها، عاجزة عن ان تجيب الى كل تساؤلات المؤمنين بها، بخصوص الخير والشر والتعقيدات التي طرأت عليه، ولاسيما بعد ان صارت الأديان تخضع لرغبات ومزاج رجال الدين ومزاج ورغبات الطبقات الحاكمة، الأمر الذي جعلنا نشهد تعددية في الاجتهادات والشرائع، بحيث صار كل دين وكل مذهب يعتقد ان توجهاته الروحية والأخلاقية هي الصحيحة، مما جعل المعري يقول: هذا بناقوس يدق وذاك بمئذنة يصيح، ليت شعري ما الصحيح؟

فالدين الذي يفترض فيه انه يوجه الانسان نحو الحقيقة الانسانية الالهية، صار بسبب اجتهادات اتباعه المتعددة والفتاوى التي يقدمونها، يسير بالإنسان في مختلف الاتجاهات، مما يجعلنا نؤكد على أن اي خلل يحدث في هذا المجال لا يأتي من الأديان نفسها، ولكنه يأتي من عجز رجال الدين عن القراءة العلمية لنصوص دينهم، وعن المواكبة المستمرة للتغييرات الحضارية والفكرية التي تحدث في العالم، وبالتالي يأتي الخلل عن عجز المتدينين، عن التمييز بين الثابت والمتحرك في الدين، وبين الجوهري والعرضي، وبين الأصيل والدخيل العائد الى ظروف حضارية خاصة، لا تلبث ان تتغير، كما هو عائد الى اجتهادات رجال الدين البشرية التي تتأثر برؤاهم الذاتية، وبمصالحهم الطبقية والسياسية وبمزاجهم الشخصي الخاص وتركيبتهم الذهنية، الأمر الذي يجعل رجال الدين هؤلاء عاجـزين عن تأوين تعليم دينهم، وفق منظور واقعي علمي وإنساني، مما سبب كل هذا التشتت الذي نراه بين رجال ديننا، من جميع الأديان، في حكمهم على ما جرى ويجري في العراق وفي سائر الدول العربية المعتدى عليها.

بوصلة العلوم الانسانية: من هنا اذن سنحاول ان نجد ضالتنا في العلوم الانسانية، هذه العلوم التي يمكنها ان توحد بين الناس، دون أن تؤثر سلبيا بالأديان وبرسالتها المبدئية، لأن هذه العلوم تعمل في مجال يتوازى مع الأديان، ولا يتناقض معها. فالإنسان في الواقع مزود عن طريق جبلته الانسانية بمشاعر انسانية متكاملة

موضوعة في خدمة جميع حاجاته الحيوية والإنسانية. فكما ان الذئب يعيش مع الذئاب الأخرى بمودة وحنان وانسجام، لأنه هناك من زوده بهذه المشاعر الغريزية ( الطبيعة – الله )، كذلك نرى الانسان مزودا بمنظومة من المشاعر تجعل الانسان يعتمد على ما يمليه عليه ضميره للبحث عن الحقيقة الأخلاقية بشكل وجداني انساني، وليس بشكل غريزي. فعند الانسان نجد القوى المسئولة بشكل عام عن معيار الحقيقة والخير والجمال، اما في التفاصيل، فنرى لدى الانسان، وبشكل وجداني ذاتي، فضائل انسانية كثيرة كالحب والعدل والاستقامة والتراحم والتضامن البشري والمقاسمة والتواضع وغيرها من الفضائل، هذه الفضائل التي تجعل حياة الانسان حياة انسانية، وتساعد الانسان على ان يكتشف الطريق الذي يؤدي به الى ان يحقق انسانيته ( ذاته الانسانية )، على قدر المستطاع.

فضائل توضع في خدمة الفرد والمجتمع: ومما نستطيع ان نؤكد عليه هنا، هو ان هذه الفضائل ليست على قدر واحد من القوة والوضوح، وإنما هي موزعة بين افراد بني البشر، بشكل يستطيع فيه، ووفق ضوابط اجتماعية معينة، ان يضع كل واحد من افراد بني البشر ما يحمله من خيرات روحية ومن فضائل في خدمة المجموع، مما يجعلنا نؤكد ايضا على قيمة النخب والرواد في مسألة قوة التمييز بين الخير والشر. ولذلك نتساءل ونقول: اليس ما يقدمه الله في الأديان للبشر، ناتجا عن عمل الله في نخب نسميها بتسميات مختلفة، استطاعت ان تلبي بسهولة وبقوة دعوة الله الانسانية، لأن هذه النخب كانت مهيأة احسن من غيرها لسماع صوت الحقيقة والخير والجمال ( صوت الله )، مع تطبيقاتها العملية الحضارية المختلفة، على الرغم من النسبية التي نجدها في هذه التطبيقات، شأنها شأن كل تطبيق؟

بوصلة مبسطة: بما اننا نتكلم عن البوصلة الانسانية، فإننا يمكننا ايضا ان نتكلم عن بوصلة مبسطة. فنعم من هو القابض على البوصلة الانسانية المركبة هو من يملك في طبيعته ضميرا حيا ومستقيما يستطيع معه ان يشارك غيره فيما يملك، على قاعدة الأواني المستطرقة، الا ان عامة الناس الصالحين وغير المشوهين بحضارة الكذب والعدوان، تستطيع هي الأخرى، ان يساعد بعضها البعض، حيث ان كل فرد او مجموعة من هؤلاء الطيبين، يستطيع ان يشرك الآخرين، بما عنده من خيرات انسانية

ومن فضائل، هذه الخيرات والفضائل التي يمكن اختصارها بكلمة واحدة، او بكلمات قليلة، مثل كلمة المحبة والعدل والتضامن الانساني ومثل كلمة احترام الانسان وحقوقه وإعطائه الأولوية، بحيث يوضع اي عمل، وتصبح اية مؤسسة، وتوضع أية شريعة، في خدمة الانسان، وليس العكس، على قاعدة ان السبت (شريعة) من أجل الانسان وليس الانسان من اجل السبت؟ ولذلك نسأل ونقول: ترى اما تكفي هذه المعايير البسيطة لمساعدة الانسان على التمييز بين الخير والشر؟

التطبيق العملي للقاعدة المذكورة: والآن يمكننا ان نستعرض في مخيلتنا، بعض المشاهد واللوحات السيئة من حياة وأعمال السياسيين، في حقبتنا التاريخية الراهنة، تاركين جانبا الأعمال الخيرة التي قد تكون موجودة هنا وهناك. وهكذا يكون كل واحد منا مدعوا، بقوة معايير الخير التي يحملها، الى ان يكون حكما على حقيقة الأعمال والمؤسسات السياسية، التي يعتريها الزيف والشر والقبح. وإنني لا اشك بأن كل واحد منا سيكتشف، بناء على معيار الانسانية الذي في ضميره، عددا كبيرا من اللوحات التي تتسم بالزيف والشر والقبح، وذلك في كل عمل من الأعمال السياسية التي تحدث في زماننا، وفي كل تصرف من تصرفات مؤسساتنا السياسية العالمية والمحلية، بسبب ما اعترى هذه النظم من تدهور اخلاقي وأنساني، كما ظهر ذلك في العراق وفي سائر الدول العربية التي وقعت عليها يد العدوانيين الثقيلة، هذه اليد الشريرة التي بدأت آثارها تظهر بوضوح على اوجه هؤلاء العدوانيين وفي كلامهم، تاركة آثارا قبيحة على هذه الأوجه الشريرة، كما على المعتدى عليهم، مما يدل دلالة قاطعة على ان هؤلاء المعتدين فقدوا بوصلة الحقيقة والخير والجمال. فهل سوف يكتشف قارئي العزيز، لحسابه الخاصة، لوحات معينة يظهر فيها قبح الأشرار وشرهم؟ آمل ذلك.

القس لوسيان جميل

تلكيف – محافظة نينوى – العراق

17- ايلول - 2013

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الگاردينيا: نرحب بالقس لوسيان جميل في حدائقنا.. نورتم الحدائق يا أبونا العزيز.. ننتظر جديدكم..

                             

     

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع