الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
في رحاب سورة الكهف.. الجزء الثاني
قال تعالى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (الكهف: 94).
رجح بعض أهل التفسير إنّ سد ذي القرنين موجود في شرق الأرض، واستدلوا على ذلك من قوله تعالى: (حَتّى إِذا بَلَغَ مَطلِعَ الشَّمسِ وَجَدَها تَطلُعُ عَلى قَومٍ لَم نَجعَل لَهُم مِن دونِها سِترًا) (الكهف: 90).
في عصر الخليفة العباسي هارون الواثق (816-847م)، وبينما هو نائم في إحدى لياليه رأى في منامه أن سدّ يأجوج ومأجوج مفتوح، ففزع لذلك أشدّ الفزع، وأمر بتجهيز بعثة علمية استكشافية لتقصّي حقيقة الأمر.
اختار الخليفة الواثق رجلا يعمل في الإدارة العباسية في قسم الترجمة اسمه (سلام التُّرجمان) والذي يعرف ثلاثين لغة، وطلب منه أن يخرج إلى السدّ لُيعاينه ويأتيه بخبره. وضمَّ الخليفة إليه خمسين رجالا، وأعطاه خمسة آلاف دينار، وأعطى كل رجل من الخمسين ألف درهم.
تجهزت القافلة الاستكشافية بالركائب والزاد والطعام، وخرجوا من عاصمة العباسيين آنذاك "سامراء" باتجاه الشمال، وساروا نحو أرمينيا؛ وكانت جزءا من الدولة الإسلامية العباسية وعاصمتها تفليس (تبليس) عاصمة جورجيا اليوم، وحين وصلت بعثة سلام التُّرجمان كتب والي أرمينيا إسحاق بن إسماعيل رسائل إلى ملوك القوقاز وجنوب روسيا.
يقول سلام التُّرجمان: "أقمنا عند ملك الخزر يوما وليلة حتى وجَّه معنا خمسة أدّلاء (مرشدين)، فسرنا من عنده نحو الشرق من شمال بحر قزوين ستة وعشرين يوما، فانتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة… فسرنا فيها عشرة أيام، ثم صرنا إلى مُدن خراب، فسرنا فيها عشرين يوما، فسألنا عن حال تلك المدن فخُبِّرنا أنها المدن التي كان يأجوج ومأجوج يتطرّقونها فخربوها.
يقطع المستشرق والعلامة الروسي إغناطيوش كراتشكوفسكي في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي) أن سلام التُّرجمان وصل بالفعل إلى بحيرة بلكاش، وهي بُحيرة تقع اليوم في كازاخستان.
يؤكد سلام التُّرجمان أن بعثته تمكنت من الوصول إلى مدينة اسمها (أيكة) ، بينها وبين السد مسيرة ثلاثة أيام، حتى وصلوا إلى السد في اليوم الثالث، وهو جبل مستدير ذكروا أن يأجوج ومأجوج فيه. والسد الذي بناه ذو القرنين هو عبارة عن ممر بين جبلين عرضه 120 مترا تقريبا، وهو الطريق الذي يخرجون منه يأجوج ومأجوج فيتفرقون في الأرض.
لقد استطاع سلام التُّرجمان أن يصف هذا السد بصورة دقيقة لأنه رآه رأي العين، وعلى الرغم من تشكيكات بعض المستشرقين والمؤرخين الأوروبيين والروس من أصل هذه الرحلة وحقيقتها، فإن البعض الآخر أكّد صحتها؛ لأنها رويت منه شفاهة، وقد رواها عنه ابن خرداذابة الجغرافي وأحد الموظفين الكبار في الديوان العباسي.
لقد أشاد الكثير من الباحثين الأوروبيين بهذه الرحلة والملاحظات المهمة والدقيقة التي ذكرها سلام التُّرجمان والذي يقول عن السد: "حفر (ذو القرنين) أساسه ثلاثين ذراعا إلى أسفل، وبناه بالحديد والنُّحاس حتى ساقه إلى وجه الأرض، ثم رفع عضادتين (العضادة مثل الحائط أو العتبة الرأسية لأعلى) يلي الجبل من جنبتي الفجّ.. عرض كل عضادة خمس وعشرون ذراعا (14 مترا)، في سُمك خمسين ذراعا (27 مترا)، وكلّه بناء بلبن (كهيئة الطوب أو الحجارة) من حديد مُغيّب (مذاب) في نُحاس، تكون اللبنة (الطوبة) ذراعا ونصفا في ذراع ونصف (طول الحجر أو الطوب متر ونصف تقريبا) في سُمك (عرض) أربعة أصابع".
يؤكد سلام التُّرجمان أن ذا القرنين استطاع بناء الردم مثل الباب تماما، ردم أعلاه حجارة مصنوعة من الحديد والنحاس، ثم فوق ذلك حديد ونحاس مصهور حتى "لا يدخل من الباب ولا من الجبل ريح كأنه خُلق خلقه" كما يصف؛ أي كأن هذا الردم الذي يُشبه الباب أصبح مثل الجبلين الواقع بينهما يحسب الرائي أنه جبل مثلهما تماما.
بل يؤكد سلام التُّرجمان أن هذا الباب أو الردم/السد الذي يبلغ ارتفاعه 120 ذراعا، أي ما يقارب 55 مترا، كان له قفل ارتفاعه 25 ذراعا، أي 11 مترا ونصف المتر، "لا يحتضنه رجلان" كما يصف سلام التُّرجمان، ولا ندري هل هو قُفل بالفعل على البناء الذي يشبه الباب، أم هو مزيد إحكام وتدعيم لجسد السدّ أو الردم من الخارج.
ويسأل سلام التُّرجمان سكان تلك المنطقة التي كان مَلِكُها قد عيّن حفظةً من ثلاثة رجال معهم مطرقة كانوا يطرقون كل يوم ثلاث طرقات على هذا البناء العظيم "فيضربُ القفل ضربة في أول النهار، فيسمع لهم (أي من وراء الردم أو السد) جلبة (أصوات عالية) مثل كور الزنابير ثم يخمدون، فإذا كان عند الظهر ضربه ضربة أخرى ويُصغي بأذنه إلى الباب فتكون جلبتهم (صياحهم) في الثانية أشد من الأولى ثم يخمدون، فإذا كان وقت العصر ضرب ضربة أخرى فيضجون مثل ذلك ثم يقعدُ إلى مغيب الشمس، ثم ينصرف. الغرض في قرع القفل أن يسمع من وراء الباب فيعلموا أن هناك حفَظَة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يُحدثوا في الباب (السدّ) حدثا".
لقد سأل سلام التُّرجمان قائد البعثة الاستكشافية هؤلاء الحفظة، أي رجال الأمن الذي يحفظون السدّ ويراقبون التطورات اليومية فيه، سألهم عن أي عيوب لاحظوها في هذا السد، "قالوا ما فيه إلا هذا الشِّق. والشّق كان بالعرض مثل الخيط دقيق"، فقال سلام التُّرجمان: أتخشون عليه شيئا؟ فقالوا: لا. قال سلام التُّرجمان: "فدنوتُ وأخرجتُ من خُفّي سكينا فحككتُ موضع الشقّ فأُخرجتُ منه مقدار نصف درهم (من الحديد المتساقط منه)، وأخذتُ أشدّه في منديل لأريه الواثق بالله".
انتهى سلام التُّرجمان من معاينة جسد سد ذي القرنين، وأكمل بعثته على أتم وجه، وقرّروا العودة من وسط آسيا فيما يبدو من وصفه باتجاه العراق، لكن طريق العودة هذه المرة لم يكن مثل طريق الذهاب، فقد توجهوا نحو خراسان (تركمانستان وأقصى شرق إيران) حتى مروا على مدينة سمرقند ثم بخارى ثم إلى ترمذ ثم نيسابور.
لقد كانت مدة الذهاب إلى السد ستة عشر شهرا، ومدة الرجوع إلى العراق اثني عشر شهرا وأيام، أي إن مدة البعثة الاستكشافية استمرت عامين وأربعة أشهر في الذهاب والاستكشاف والعودة، وحين وصل سلام التُّرجمان إلى عاصمة العباسيين "سامراء" قال: "فدخلتُ على الواثق فأخبرته بالقصّة، وأريتُه الحديد الذي كنتُ حككتُه من الباب، فحمد الله (على أن السد لم يُنقب ولم يُهدم)، وأمر بصدقة يتصدّق بها، وأعطى الرجال كل رجل ألف دينار.
تلك هي رحلة سلام التُّرجمان إلى سد يأجوج ومأجوج، وقد اختلف بعض الجغرافيون المسلمون الأقدمون وبعض المؤرخون والمستشرقون الروس فيها، وأيًّا ما يكن من وصف هذه الرحلة فإنها تُعَدُّ منجزا علميا وجغرافيا فريدا سبق إليه المسلمون قبل ألف ومئتي عام.
المصدر : الجزيرة ومصادر أخرى.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع