خالد القشطيني
سوية مع فكرة التبشير المسيحي التي تبناها الغرب في القرن التاسع عشر، سارت فكرة التبشير السياسي التي قصد بها الغربيون، كما يدعون، مدننة الشعوب غير المتمدنة وإنقاذها من تخلفها وترويضها على الديمقراطية. نظرنا لكلتا الفكرتين كرأس جسر للاستعمار.
قاومناهما حتى أفشلناهما بنجاح. طور الإنجليز والفرنسيون عبر «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الأولى فكرة الانتداب التي طبقوها في سوريا وفلسطين والعراق لإدارة هذه الدول وتطويرها إلى الحد الذي يمكنها من إدارة شؤونها بنفسها. اعتبرناها صيغة أخرى للاستعمار فقاومناها. فقال الشاعر:
للإنجليز مطامع ببلادكم - لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا!
انتهى الانتداب في العراق فاستبدل الإنجليز به فكرة الاستشارة. انطلقنا للتنديد بها أيضا. فقال شاعر آخر:
المستشار هو الذي شرب الطلى - فعلامَ يا هذا الوزير تعربد!
أخيرا، انتهى هذا الدور كذلك بثورة 1958. وألقينا بحبلنا على غاربنا، ننط من نكسة إلى نكسة حتى اضطر الغرب لتأديب العراق بضربه في 2003. وبه برزت للوجود فكرة دور الشرطة العالمية لتأديب أي دولة تسيء استقلالها إلى الحد الذي ترتكب فيه جرائم ضد شعبها أو تصبح خطرا على الآخرين، وأيضا محاربة أي منظمة تتبنى الإرهاب وتخرق حقوق الإنسان. جرى تطبيق ذلك في العراق وأفغانستان وأخيرا ليبيا.
لاحظ الغربيون أخيرا أن هذا الدور غير المشكور أصبح يكلفهم آلاف القتلى من عساكرهم والمليارات من خزينتهم. يوما بعد يوم يرون جنازات أبنائهم ترد إليهم لتشييعها. ولم ينالوا من وراء كل ذلك غير الاتهامات والنقد ونكران الجميل. فضلا عن ذلك، وجدوا أنه لم يحقق الغرض المنشود ولم يأتِ بأي نتيجة إيجابية. حتى الديمقراطية فشلت حيثما جربت. راحوا يعتقدون أنها لا تصلح للعالم الإسلامي أساسا. أدار الرأي العام الغربي ظهره لفكرة التبشير بالمدننة. تبين ذلك من المشكلة مع سوريا. عارض ثلثاهم التدخل بشأنها. وصوت البرلمان البريطاني ضد سعي الحكومة للتدخل. الرأي الآن، اتركوا هذه الشعوب وشأنها. إذا شاءوا أن يقتلوا بعضهم بعضا بالغازات السامة فهذا شأنهم. أرادوا الاستقلال وطردونا ورفضوا أيدينا فليدبروا حالهم كما اختاروا.
والآن وحبلنا على غاربنا، فماذا سنفعل؟ ما مصيرنا في هذه الدول الثورية؟ بل قل ما مصير العالم ككل؟ الدول الغربية ستثرى وتسمن وتوفر لنفسها كل هذا العناء والمصرف. تحصل منا على ما تريد بفلوسها وتبيع لنا من المنتجات والخبرات بأسعارها. بدلا من التفكير في أمن الأفغانيين والعراقيين والسوريين ستركز على توفير الأمن لمواطنيها. وليذهب الآخرون للجحيم. وأمام النعيم الذي يعيشه الغرب، ستواصل شعوبنا العيش في نعيمها الخاص، ترفل في أحلامها وأوهامها التي تنسيها مرارة عيشها، الإرهابيون منها يقتلون ويحرقون ويفجرون أنفسهم. ولكل خياره في هذه الدنيا.
وأعود للسؤال: ما مستقبل معظم هذه البلدان الثورية؟ هل ينتهي الأمر بها إلى العودة للحكم العسكري والديكتاتورية؟ أم تقبل بحكم برلمانات جاهلة فاشلة ينتخبها ناخبون أميون؟ هل يؤول الأمر ببعضها للتشقق والانقسام والفوضى على نحو ما جرى في الصومال؟ كل هذه الطروحات واردة وقد أصبحت على كف عفريت.
664 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع