الدكتور عدنان هاشم
عين التمر؛ عروس الصحراء وواحة العراق المنسية
في وسط رمال الصحراء على بعد 75 كيلومترا تقريبا غرب كربلاء تقع عين التمر والتي تسمى شثاثة أيضا، تلك الواحة الكبيرة التي تترآى لناظريك عن بعد بنخيلها الباسق كأنه يطاول أعنان السماء والتي تضم عدة قرى. ولكن هذه الواحة الغنية بنخيلها قد لفها النسيان وتقادم عليها العهد حتى هرمت وشاخت. ورغم أنها قابعة وسط الصحراء فإن لعين التمر تاريخ طويل يمتد إلى ما قبل الإسلام فقد كان يسكنها العرب مع الفرس وكانت الواجهة الأمامية للدفاع عن الدولة الفارسية الساسانية أمام الطامعين من الروم وأتباعهم من أعراب الشام، ولم تكن بادية كربلاء قاحلة جرداء إلا من اشواك متناثرة هنا وهناك كما هي الآن بل كانت أرضا معطاء غنية بالحقول، حتى عندما وقف خالد بن الوليد على أطراف العراق ونظر إلى حقول العراق النضرة خاطب جنده بقوله لو لم يكن أمامكم إلا بُرَّ العراق (حنطته) لأمرتكم بالقتال عليه.
كانت عين التمر تتميز بينابيعها الثرَّة والمياه المعدنية والتي كانت مصدر الحياة للإنسان والنخل والحيوان مما جعلها تجذب إليها العديد ممن شهدها وسحر بجمالها، ومن أولئك الذين قطنوها شمعون اللخمي وهو من قبيلة لخم العربية ولعله كان يمت بالقربى إلى المناذرة الذين حكموا أطراف العراق واتخذوا من الحيرة عاصمة لهم قبل الإسلام، وما تزال أطلال قصره في عين التمر شاهدة على عظمة ذلك القصر إلى يومنا هذا بينما لم يبق من قصر الخورنق والسدير شيء يذكر.
فتح خالد بن الوليد عين التمر في خلافة أبي بكر سنة 12 للهجرة بعد فتحه للحيرة والأنبار. وقد اجتمع الفرس وأحلافهم من قبيلتي تغلب والنمر بن قاسط لحربه ولكن العرب انهزموا في أول المعركة، ولعل ذلك كان بتدبير بينهم وبين العرب الفاتحين ودارت الدائرة على الفرس فقتل منهم من قتل وأسر خالد عددا كبيرا منهم. وكان هناك حصن كبير في عين التمر حاصره خالد بن الوليد ثم فتحه ووجد فيه أربعين غلاما يدرسون الكتاب المقدس فأخذهم أسرى، وكان لبعضهم شأن كبير في الإسلام، فكان منهم نصير والد موسى بن نصير فاتح الأندلس وسيرين والد محمد بن سيرين ويسار والد الحسن البصري وإسحق والد محمد بن إسحق صاحب أول كتاب في السيرة النبوية في تاريخ الإسلام. وأغلب الظن أنهم لم يكونوا يهودا كما قيل بل كانوا نصارى إذ كان يسكن عين التمر عرب تغلب والنمر بن قاسط وكلا القبيلتين اعتنقتا النصرانية أما الفرس فكانوا على دين المجوسية.
وكان من ضمن الأسيرات اللاتي حملهن الجيش الفاتح إلى المدينة الصهباء بنت بنت عباد بن ربيعة التغلبية التي اشتراها الإمام علي عليه السلام وتزوجها فأولدها عمر ابنه ورقية الكبرى وكانا توأمين. وقد مر الحسين بالقرب من عين التمر عند مجيئه إلى العراق وقبيل استشهاده في كربلاء.
ولم تبخل عين التمر عبر تاريخها باللوامع من شخصيات العالم الإسلامي ففيها نشأ أبو العتاهية شاعر الزهد الشهير في العصر العباسي الأول، وفي تاريخنا الحديث أبرزت عين التمر محسن مهدي الذي نال أعلى الدرجات العلمية في الفلسفة الإسلامية والفلسفة الوسطية والخبير بفلسفة الفارابي ومحقق كتاب ألف ليلة وليلة والذي اشتهر به، وعين مدرسا وأستاذا للفلسفة في جامعة هارفارد الأمريكية، وقد وافاه الأجل في أمريكا سنة 2007.
تواجه عين التمر في عصرنا الحالي تحديات كبيرة تهدد وجودها مالم توجد الحلول السريعة لأزماتها، ومنها النسيان والإهمال لبعدها وموقعها في الصحراء القاحلة، ولكن |أكبر أزمة تواجهها هي شحة المياه، فقد جفت أكثر العيون ولم يعد لها من أثر يذكر، واعتمد سكانها لري النخيل والزراعة على الآبار والتي كان بعضها ارتوازيا، ولكن هي الأخرى شح ماؤها فاضطر الأهالي إلى حفر الآبار العميقة لاستخراج المياه، ولكن مياه الآبار قد غارت أكثر فأكثر حتى قد يصل عمق البئر إلى تسعين مترا وقد تصبح البئر جافة بين ليلة وضحاها. ومن الواضح أن حفر الآبار بزيادة عمقها لا يمكن أن يستمر، لذا فإن حياة النخيل والحيوانات مهددة بالخطر ما لم توضع الحلول السريعة من قبل خبراء الري والمياه.
أكثر سكان عين التمر من العشائر العربية وهو مجتمع متمسك بالأعراف الاجتماعية والقبلية الأصيلة ويستطيع السكان حل أكثر مشاكلهم فيما بينهم ولا يلجؤون إلى السلطات الحكومية والقضاء إلا في الحالات الكبيرة والمعقدة.
إن اندثار هذه المدينة الكبيرة والواحة الجميلة وسط الصحراء لهي خسارة كبيرة للعراق وتاريخه ونأمل جديا أن يولي المسؤولون هذه المدينة التراثية العناية التي تستحقها والتي يمكن أن تكون معلما سياحيا يدر على سكان هذه الواحة وعلى العراق الخير الكثير.
المعالم الأثرية بين مدينة كربلاء وعين التمر
بحيرة الرزازة
عندما يتجه المسافر من مدينة كربلاء غربا باتجاه قضاء عين التمر فسوف يرى على يمين الطريق ماء بحيرة الرزازة يتلألأ عن بعد تحت أشعة الشمس، فهذه البحيرة تقع على بعد خمسة عشر كيلومترا إلى الغرب من كربلاء. كانت هذه البحيرة كبيرة جدا وهي عبارة عن منخفض أرضي تستمد مياهها من نهر الفرات وبحيرة الحبانية خاصة في موسم الفيضان، وتقع البحيرة بين محافظتي الأنبار وكربلاء. ولكن المياه انحسرت كثيرا بسبب الجفاف وتبخر مياهها خاصة في أشهر الصيف الشديدة الحرارة وشحة ماء الفرات. كل هذا أدى إلى انحسارها وزيادة نسبة الملوحة في مياهها مما يمنع وجود الأسماك فيها، فهي تشبه من بعض الوجوه البحر الميت في الأردن. وإذا استمرت أزمة الجفاف فإن هذه البحيرة الجميلة مهددة بالجفاف التام والاندثار مما يستدعي حلولا عاجلة لمنع اختفائها، ففي حالة إنقاذها من قبل المختصين يمكن أن تكون معلما سياحيا ومكانا ترفيهيا لسكان المحافظة والمحافظات أخرى وحتى مصدرا مهما لصيد السماك ومأوى للطيور المحلية والمهاجرة.
كهوف الطار:
تقع هذه الكهوف على يمين الطريق إلى عين التمر وتبعد حوالي 45 كيلومترا غرب كربلاء. وهي تقع في منطقة مرتفعة من الأرض، ويقدر عددها بأربعمائة كهف وتمتد إلى مسافات طويلة داخل الصحراء. من الواضح أن هذه الكهوف ليست طبيعية بل من صنع الإنسان إذ أن فتحاتها مستطيلة الشكل. وهذه المنطقة لم تكن جرداء في الماضي بل كانت أرضا خضراء سكنها الإنسان منذ القدم. ويقدر عمر هذه الكهوف بثلاثة آلاف سنة أي إلى العهد الآشوري وما قبله. يبلغ ارتفاع فتحة كل كهف مترا ونصف المتر وعرضها نصف متر تقريبا. احتار علماء الآثار في ماهية هذه الكهوف ووظيفتها ولم يصلوا إلى استنتاج قاطع إلى يومنا هذا. ولكن من المؤكد أنها سكنت من قبل الإنسان العراقي القديم، فقد تكون بيوتا للفلاحين أو لجنود الحراسة ولكن لا يمكن القطع بأي من ذلك. وقد هجرت هذه الكهوف منذ زمن بعيد وتسكنها الآن العقارب والأفاعي والخفافيش وبعض الطيور التي قد تبني اعشاشها داخلها.
حصن الأخيضر:
ويسمى أحيانا بقصر الأخيضر وهو على يمين الطريق إلى عين التمر وعلى مسافة 45 كيلومترا من مدينة كربلاء، إن شكله المربع وعلو جدرانه يدل بصورة واضحة على أنه كان حصنا للحراسة والدفاع ضد المهاجمين من غرب الصحراء، ولكن هذا لا ينفي استعماله للسكنى. عرف هذا الحصن منذ زمن بعيد من قبل الأعراب والقوافل المارة إلى الشام، ولكنهم لم يكونوا يعيرون اهتماما له حتى اكتشفه وكتب عنه الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فالي ومن بعده مس بيل الإنجليزية الشهيرة وماسينيون الفرنسي. تجرى عليه حاليا أعمال الصيانة لذا فقد منع الدخول إليه إلى حين الانتهاء منها. اختلف الباحثون وعلماء الاثار في تاريخ بنائه فمنهم من أرجعه إلى العهد الساساني قبل الإسلام ومنهم من قال إنه بني في عصر الأمويين أو العباسيين وأميل إلى القول أن هذا الحصن أسس من قبل الفرس الساسانيين كحصن حراسة وخط دفاع ضد هجوم الدولة البيزنطية وأتباعها، ثم استخدم في العصور الإسلامية وخاصة العباسية كقصر ودار استراحة للصيد وأدخلت فيه تحسينات معمارية حسب تلك العصور. ولكن بحلول الجفاف التدريجي فقد هجر الحصن وصار خرابا حتى اكتشفه الرحالة الغربيون وكتبوا عنه وعن طرازه المعماري.
كنيسة الأقيصر:
وهي كنيسة في عمق الصحراء على جانب الطريق الأيمن لعين التمر وهي تبعد خمسة كيلومترات عن حصن الأخيضر، وقد سماها السكان المحليون كنيسة الگصیر تصغيرا لكلمة قصر. وهي من الكنائس القديمة جدا والتي يرجع عهدها إلى القرن الرابع الميلادي أي قبل ظهور الإسلام بمئتي عام على الأقل. وكانت كنيسة للمسيحيين النساطرة الذين هربوا من اضطهاد الروم البيزنطيين الذين كانوا على المذهب الأرثودوكسي الرسمي، وفيها كتابات آرامية تدل على قدمها. ومنذ اكتشافها أخذ بعض المسيحيين بزيارتها وإقامة القداس فيها. الطريق إليها وعر إذ هي داخل الصحراء ونتمنى أن يبلط الطريق المؤدي إليها وتتم صيانتها للحفاظ على هذا الأثر الديني القديم.
مقام ومرقد أحمد بن هاشم:
يرجع نسب أحمد بن هاشم إلى الإمام موسى بن جعفر (ع) سابع الأئمة الإثني عشر عند الشيعة. يقع مرقده شمالي غرب عين التمر على مسافة تقرب من 15 كيلومترا. اكتشف قبره سنة 1843 عندما عثر على صخرة كتب عليها تاريخ وفاته التي ترجع إلى سنة 546 للهجرة. وقد بنيت على القبر قبة جميلة وأحيط قبره بشباك معدني كالذي يرى في غيره من المراقد ويزوره في كل عام آلاف الزوار الذين تستقبلهم مدينة عين التمر سنويا.
ما ذكرته في هذا المقال لا يغطي كل الآثار التي تزخر بها المنطقة المحيطة بعين التمر والتي تغطيها الرمال وتنتظر الاستكشاف من قبل خبراء الآثار ولعل ما نراه اليوم ظاهرا للعيان هو جزء ضئيل مما خفي عنا في هذه الصحراء التي كانت يوما ما عامرة بسكانها.
7 شباط 2025
970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع