د. علي محمد فخرو
لو أراد الانسان أن يرسم صورة قريبة من المثالية لما يجب أن يتطور نحوه المشهد السياسي المدني العربي، على مستوى كل قطر وعلى مستوى الوطن العربي، لكانت الصورة كالآتي:
أولا: ألا يكون في كل قطر أكثر من ثلاثة أحزاب. حزب قومي ديموقراطي يطرح شعارات الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية. وبرنامجه يقوم على مكونات المشروع النهضوي الستة: الوحدة العربية، الديموقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية الشاملة المستقلة المستدامة والتجديد الحضاري، هذا الحزب سيضم كل الذين آمنوا بمبادئ أو انضموا الى الأحزاب الناصرية والبعث العربي والقوميين العرب.
حزب ثان يضم الليبراليين واليساريين. هذا الحزب سيكون بينه وبين الحزب القومي شعارات كثيرة مشتركة ولكنه قد يختلف بشأن أهمية أو ضرورة طرح شعار الوحدة العربية في المرحلة الحالية على الأقل.
أما الحزب الثالث فسيضم جميع أطياف الاسلام السياسي المؤمنة بالعمل السياسي ضمن اللعبة الديموقراطية، ولأن هذا الحزب ينطلق أساسا من مبادئ اسلامية فستكون له وجهات نظر مختلفة عن وجهات نظر الحزبين الآخرين حتى بالنسبة للشعارات المشتركة. فوجهات نظرها بالنسبة الى شعارات من مثل الديموقراطية والحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية ستكون لها خصوصيتها الاسلامية.
ثانيا: من المؤكد أنه ستكون هناك فوارق فكرية أو حتى استراتيجية بين المكونات التي ستنصهر لتأسيس الأحزاب الجديدة. وفي هذه الحالة ستشبه تواجد مختلف الأجنحة في الحزب الواحد، كما يراها الانسان مثلا في الأحزاب الأميركية والبريطانية. فتلك الأجنحة لا تتطابق وجهات نظرها حول كل الأمور، وقد تمتد الاختلافات من أقصى اليسار الى أقصى اليمين في الحزب الواحد. لكن برنامج تلك الأحزاب، سواء دوريا أوسنويا يأخذ تلك الفروق بعين الاعتبار ويطرح صيغة واحدة لحزب واحد أمام جماهيره وناخبيه.
من هنا فان التعلل بأن الاختلافات الفرعية مثلا بين السلفيين والاخوان المسلمين بالنسبة للاسلام السياسي، أو بين البعثيين والناصريين بالنسبة للقوميين، ستجعل الاندماج في حزب واحد أمرا صعبا ان لم يكن مستحيلا، هذا التعلل أثبتت التجربة العملية في بلدان أخرى بطلان طرحه. وأنه بالحوار والأخذ والعطاء، فيما بين أجنحة الحزب الواحد يمكن الاتفاق على حلول وسط تأخذ أولا بعين الاعتبار الأساسيات المشتركة ولا تضيع في الخلافات الفرعية، أو اذا لزم الأمر تؤجلها.
ثالثا: هناك أدب سياسي غزير يثبت أن وجود حزبين متنافسين ومتبادلين للسلطة دوريا من خلال انتخابات نزيهة هو أفضل ضمانة لاستقرار النظام الديموقراطي السياسي. ذلك أن كثرة الأحزاب وتعدد البرامج السياسية وما يتبعها من صراعات ومشاجرات تجعل المواطن غير قادر على الاختيار المتوازن الهادئ بين المشاريع، بل وقد تدفعه نحو الابتعاد عن الحياة السياسية اذا اتسمت بالصخب والملاسنات.
كما أن كثرة الأحزاب تأتي بحكومات ائتلافية بين مجموعة من الأحزاب، الأمر الذي يجعل المواطن غير قادر على المحاسبة عندما تحين الانتخابات الدورية ويطرح موضوع استبدال سلطة قديمة بسلطة جديدة.
لكن في اعتقادي أن التنافس في الأقطار العربية يجب أن يكون بين ثلاثة أحزاب بسبب الخصوصية التاريخية والدينية التي لا تستطيع القفز فوق الاسلام السياسي كطرح ثالث في الحياة السياسية العربية.
رابعا: من أجل العمل السياسي على المستوى القومي، وبسبب كثرة أعداء هذه الأمة، ولأن العمل على المستوى القطري ومحدوديته ونقاط ضعفه، فالمقترح هو وجود ثلاثة مؤتمرات سنوية، يضم كل مؤتمر الأحزاب المتماثلة في كل الأقطار العربية. سيكون هناك اذن مؤتمر للأحزاب القومية الديموقراطية ومؤتمر للأحزاب الليبرالية واليسارية ومؤتمر للأحزاب الاسلامية.
ليس المقصود من هذه المؤتمرات التدخل في الشؤون الداخلية لتظام الحكم في كل قطر عربي. انما المقصود هو التنسيق والاغناء الفكري ووضع استراتيجيات مشتركة على مستوى الوطن العربي ودعم الأحزاب لبعضها البعض عند مواجهة التدخلات الخارجية أو البطش الداخلي، وذلك الى حين استقرار النظام الديموقراطي في بلاد العرب أو قيام نوع من الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد الكبير.
لقد قلنا منذ البداية بأن هذه الصورة التي نتخيلها ستكون أقرب الى المثالية، ان لم تكن المثالية المستحيلة. ولكن، من قال بانها ستتم في خطوة واحدة وبشكلها النهائي المتصور؟
تلك الصورة تحتاج الى أن تكون مسيرة، تبتدئ بالجزئي الممكن على المستوى القطري وعلى المستوى القومي، وتتدرج عبر الزمن والجهد والظروف نحو النضوج والوصول للصورة الفاعلة المتطورة ابدأ بدون توقف نحو الأفضل والأكثر ارتباطا بحاجات الواقع وبأحلام الأمة. هناك ألف باب لدخول هذا المشهد.
أما الاكتفاء بمشاهدة المشهد السياسي المدني العربي، وهو في حالته المزرية الضعيفة الحالية غير القادرة على اخرج الأمة من ورطتها التاريخية التي تعيشها وغير القادرة على صد العدوان والمؤامرات الخارجية التي وصلت الى حدود العدمية وامكانية خروج الأمة من تاريخ الانسانية المنتج الفاعل، هذا الوقوف السلبي المتفرج سيقود الى كوارث ومآس لن تستثني أحدا، وعندها لن ينفع الندم وستقهقه الصهيونية حتى تستلقي على ظهرها.
718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع