د. عمر الكبيسي
في ضوء تفاقم ظاهرة العنف والموت الجماعي (الإبادة )في العراق خلال الاشهر المنصرمة..
وفي ظل فساد مستشرٍ وصراع سياسي بين الاطراف الحاكمة وفشل الحكومة ومجلس النواب وغياب متعمد لمصير رئيس الجمهورية وتفرد المالكي وحزبه بالقرار السياسي والامني وعدم الوضوح في الموقف حول اجراء الانتخابات البرلمانية والفشل والصراع بين اقطاب الاسلام السياسي للهيمنة على السلطة بعد ان تمخض المشهد عن مجازر بشرية يومية ضحيتها الابرياء بعناوين وظواهر طائفية اتسعت ساحاتها على امتداد الخارطة العراقية وظهور تنظيمات وميليشيات ارهابية مسلحة فاعلة وناشطة تستعرض جيوشها نهارا جهارا برعاية السلطة . اصبح هاجس المفكرين والمهتمين العراقيين يبحث عن إجابة لسؤال طالما تكرر طيلة فترة الاحتلال ، لكنه يفرض نفسه اليوم بشكل ملح ومحق بعد ان بلغ السيل الزبا بصيغة : ما الحل الذي ينقذ ما تبقى من العراق اليوم ؟
يختلف المحللون في إجاباتهم على هذا السؤال ويزداد الخلاف بمرور الزمن مع تشابك وتعقد الازمات ، كانت الإجابة في بداية الاحتلال ولغاية فترة وجيزة قبل التطورات الأخيرة لا تتجاوز واحد من خيارين هما خيار العملية السياسية (سواء من يتبناها او من يطمح في إصلاحها من داخلها ) و خيار المقاومة والمناهضة للإطاحة بها وبنتاجاتها جملة وتفصيلا ، أما اليوم وبعد ان تفاقمت الأزمات وتعقدت نتائج العملية السياسية وبانت افرازاتها النتنة وسادت احداث العنف والإبادة ، فان خيارات الحل وفقا لما كتبه المهتمون والمراقبون مؤخرا اصبح كما يبدو متعددا هناك من يعتقد ان العملية السياسية أمر واقع شرعنها الدستور مستفتىَ عليه وان الانتخابات البرلمانية إذا أجريت كفيلة بإحداث التغيير نحو الأفضل فيما يرى المالكي وكتلته أن الأجواء الحالية غير مناسبة وتراه يسعى مع حزبه لوضع العراقيل امام اجراء الانتخابات والغاء البرلمان الذي صرح تكرارا بفشله وقد ينحى لإعلان حالة الطوارئ لمعالجة الموقف بحكومة تصريف اعمال تستعيد صلاحياتها الكاملة بعد حل البرلمان لفترة غير محدودة تؤهله للبقاء في سدة الحكم ، فيما كان يرى آخرون ان الحل يتم من خلال سحب الثقة من حكومة المالكي والذهاب الى تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط بصلاحيات كاملة تسعى لإجراء انتخابات يتوفر لها قانون انتخابات جديد ومفوضية انتخابات بديلة وتعديلات دستورية ويتبنى هذا الحل الكثير من اطراف خارج العملية السياسية واخرون من داخلها اعلنوا وصرحوا بفشل العملية السياسية برمتها . ويعتقد البعض الآخر ان الحل قد تجاوز امكانية الجهد الداخلي وان تدخلا إقليميا ودوليا اصبح هو الأمر الحاسم في تحقيق التغيير وان الولايات المتحدة هي صاحبة القرار وهي التي تتحمل مسئولية تقويم وإصلاح ما وصلت اليه الامور من تأزيم بعد أن توغلت إيران بكامل هيمنمتها في الساحة العراقية ومن ثم السورية . آخرون يضعون آمال كبيرة على حدوث إنقلاب عسكري من داخل المؤسسة العسكرية التي يقودها المالكي والموالية له ، اما المناهضون للإحتلال فخيار الحل للوضع العراقي المتأزم غير ممكن إلا من خلال الحراك الشعبي والثورة الشعبية الجماهيرية القادرة على هزيمة شلة السلطة في المنطقة الخضراء والخلاص منها .
الوضع العراقي اليوم أشبه ما يكون اليه هو حالة مريض منهك جسديا ومعنويا يؤذن بالإنهيار بسبب مرض مستعص ومزمن لا يتوفر له العلاج الجذري الذي يستهدف آلية المرض وسببه ، يتم التركيز والاهتمام بمعالجة اعراضه الثانوية كالحمى والهزال في حين تفتك آفته القاتلة بصلب مقاومته حتى لم يعد جهازه المناعي قادرا على مقاومة تلك الآفة فيستسلم لنخرها بل قد يتمنى هذا المريض الموت للخلاص من معاناتها ويبقى السبيل الوحيد للنجاة هو حين يكون التشخيص صحيحا والآفة مثبتة ومضادها المناعي او الحيوي متيسرا وبتناوله تختفى الاعراض الثانوية والهزال العام ويستعيد الجسم وظائفه الفسلجية والحيوية بالمتابعة حتى يتحقق الشفاء التام .
الواقع العراقي اليوم فعلا يشكل حالة مستعصية بعد آفة الاحتلال التي فتكت بوحدة جهازه المناعي المتمثلة بوحدة شعبه ورباطة جأشه حين ابتدعت المحاصصة الطائفية والعرقية وشرعنتها بدستور بائس واسست لروح الانتقام والتقسيم بذريعة المظلومية وللفوضى والفساد بذريعة اقامة الديمقراطية ، فانهارت القييم وساد الفساد وتحقق الانقسام الشعبي واختفت معالم الدولة واستبدلت بسلطة الانتقام والتصفية والعنف وغياب روح المواطنة والهوية واستشراء الفساد ونهب الثروات وساعدت آفة الاحتلال هذه قوى إقليمية ودولية توافقت معها بالهدف لإضعاف العراق ولعبت دورا متناميا لتحويله من دولة محورية قوية الى كيانات طائفية وكونتانات سياسة متصارعة يسهل اختراقها واحتوائها ثم تحولت تجربة العراق هذه الى عدوى لإدامة النخر في دول عربية اخرى لتعميم التجربة مع انظمتها بذريعة إقامة الديمقراطية من خلال عاصفة الربيع العربي الذي لم يجني العرب من ثماره الا كما يجني من يزرع زهرة رائقة في صحراء قاحلة .
هكذا يبدو الوضع العراقي وضعا شائكا ومريعا يصعب التكهن بسيناريو التغيير والانقاذ فيه ، ولو افترضنا ان التغيير هو نتيجة حتمية بسبب كارثية هذا الوضع المتأزم والفاسد الذي لا يمكن ان يدوم او يعمر ، تبقى اهمية التفكير والتذكير ان تغييرا كهذا لن يكون حلا شافيا او منقذا بل ربما يكون كارثيا كأن يكون تقسيميا او احتلاليا او دمويا ما لم يترافق مع نضوج وانطلاقة مشروع وطني واسع غائب فيما هو يحسب بأنه من اهم مستلزمات التغيير المنقذ للعراق لمعالجة الصدع وحالة التشظية والانقسام الشعبي التي ورثناها من مخلفات الاحتلال البغيض والمتميزة بوضوح في الساحة العراقية بين عرب العراق والذي يهدد مصيرهم من خلال صراع دموي تتبناه قوى الغلو والتكفير المصطنع ويغذى من أطراف إقليمية متوغلة ومهيمنة على طبيعة الصراع وديمومته بثقافة وخطاب اعلامي ودعم مالي مستورد ومستهجن غريب في طبيعته وخطير في قوته ، هذا المشروع الوطني السياسي يجب أن يتميز بالمواصفات التالية :
اولا : مشروعا واضح المعالم والاهداف بعيدا عن الفرضية والجدلية والتنظير .
ثانيا : مشروعا يحقق طموح الجماهير والجيل الناهض من الشباب والمفكرين والطبقات المحرومة والمعطلة من كفاءات وعمال وفلاحين ونساء وومهنيين ورجال دوله واعمال ومهنيين من الذين استهدفها الاحتلال وهمشها وهجرها وتحملت هول الكارثة بصمود وتحد.
ثالثا : مشروعا مرحليا يستهدف ضرب مصالح الاستبداد والفساد والاحتلال واهدافه المعلنة والمستنبطة واهمها وحدة العراق ومكافحة الطائفية وقمعها واجتثاث الفساد والعنف بكل اشكاله توافقيا وإصلاحيا بالمنهج والمحتوى .
رابعا : مشروعا لا يؤمن بتسييس المكونات العرقية والشوفونية او الاثنية او المناطقية او المذهبية او المحاصصة الطائفية بل يكون مشروعا لكل العراقيين يعتمد المواطنة والكفاءة والنزاهة كاساس لدولة تحقق السيادة والتنمية والنهوض تقف بالضد والعناد من مشاريع دولة المكونات والطوائف والأعراق .
خامسا :مشروعا يبني الدولة المدنية اللبرالية المعاصرة يتساوى بها العراقيون جميعا بالحقوق والواجبات لينعموا بثروات الوطن بروح من المواطنة الحقة ويتبنى مفهوم السيادة الوطنية واستقلال القرار من أجل التنمية والاعمار والنهوض .
سادسا : مشروعا يحافظ على الهوية العراقية والجنسية العروبية ويتجاوز حدة الإنقسام الطائفي المقيت الذي يهدد عرب العراق اليوم ويقسمهم الى شيعة وسنة في محرقة قذرة وإبادة تستهدف العراق وتقسيمه وتشظيته .
هذا المشروع الوطني يتجاوز إطار الطائفية السياسية والعرقية الشوفينية أو الأدجلة السياسية للدين او القومية ويسعى للتغيير ويشكل حركة اصلاح وطني للعنصر العربي في العراق الذي يشكل اكثر من 80 % من سكان العراق المهدد اليوم بالانقسام والصراع الطائفي والإثني والذي بسبب هذا الصراع يتعرض اليوم الى تهميش تأريخي وجغرافي واقليمي واجتماعي يقسمه مناطقيا وطائفيا وفكريا الى انكار هويته وجنسيته الجامعة وبسبب هذا الانقسام سينهار العراق سياسيا وجغرافيا ويفصل من امتداده العروبي والتاريخي وجوهر الاسلام المتسامح الذي يدين به اكثر من 95% من الشعب والذي استطاعت رسالته ان تصلح العرب كأمة بعثت فيهم القوة والتغيير والاشعاع الى الشعوب التي حمل العرب فيها هذه الرسالة واهتدوا ونهضوا في ظلها .
الوطنيون من عرب العراق اليوم لا مفر لهم من الوقوف بحزم امام التحديات الدولية والإقليمية التي تهدد وجودهم وعيشهم و وطنهم وقد آن لهم ان ينتبهوا الى دور المخطط الرهيب الذي يحيق بهم ويجعلهم بالرغم من ثقلهم السكاني وكثافتهم الجغرافية وبسبب تشرذمهم اليوم ضحايا للعنف الطائفي والتعصب الاثني وموضع مساومات وابتزاز لحقوقه وامتيازاته وثقله ودوره التاريخي في بناء العراق واستقلاله وصموده امام الطامعين والحاقدين بثرواته وهويته على مر القرون والعصور . وهم اليوم الأجدر والأقوى والأكثر والأنسب والأكثر حاجة للصمود موحدين أمام ما يهدده من تحديات سياسية واستعمارية دولية وصهيونية واقليمية ويستند المشروع على حقيقة أن التغيير الجذري والإصلاحي في العراق لا يمكن ان يحصل الا من خلال وحدة وتضامن عرب العراق لبناء الدولة العصرية اللبرالية والمدنية التي تحقق الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة لجميع العراقيين .
وختاما لا بد من الإشارة ان فكرة المشروع العراقي العروبي كمستلزم من مستلزمات التغيير كحل للأزمة العراقية الحالية هو رأي خاص قابل للمذاكرة ينصب في محور الانقاذ للعراق المنكوب قبل فوات الأوان وهذا ما أهدفه من النشر ، ارجو ان يحضى باهتمام المعنيين من المفكرين والسياسيين كفكرة تستوجب النقاش والحوار بكامل الصراحة وهو مشروع يتزامن مع تفاقم الأزمات وارجو ان لا يحسب ويعامل كمشروع سياسي انتخابي كون طرح الفكرة يتزامن مع أجواء انتخابية برلمانية لا علاقة لطرح الفكرة بها مع التقدير .
في29 تشرين الاول 2013.
859 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع