د.رعد العنبكي
اذكر بغداد يوم وصفها الرصافي بقوله :
ايا سائلا عنا ببغداد اننا بهائم في البيداء اعوزها النبت
وارى اليوم كل بغدادي يعتز ببغداديته وكل عراقي يفخر بعراقيته
اذكر بغداد يوم كنا نمر من امام گهوة سيد بكر( قهوة القلعة محل بناية مصلحة اسالة الماء سابقا) في طريقنا الى بستان الصرافية ونشاهد الخرسين والطرشين مجتمعين في هذه الگهوة يكلم بعضهم البعض بالومي او بالهمس او بالاشارة ولا من يرعى شؤونهم ويقوم باودهم
وارى اليوم معهد للصم والبكم ومعاهد ومستشفيات المتخلفين والمجذوبين والمعوقين وغيرها من المعاهد الصحية منتشرة في ارجاء بغداد وتقوم الدولة باودهم وتجهيزهم بالالات والاجهزة الفنية وحتى بتزويد البعض منهم بالسيارات الاوتوماتيكية
اذكر بغداد يوم كان البغدادي لا يعرف من المشروبات غير العرك ( ابو العقده ) الخصوصي وعرك مسيح الاعتيادي وعرك هبهب القجغ وعرك الدوبارة والعرك الزحلاوي الوارد من سورية ولبنان
واليوم يدخل الى السوق المركزي واورزدي باك والسوق الحرة فيجد امامه مجموعة من اجود انواع الويسكي الاسكتلندي واعتق انواع الشراب الفرنسي واغلى انواع البراندي واندر انواع الليكور الفرنسي والالماني وانفس انواع الشيري الاسباني والبورت البرتغالي وال(رام) الجامايكي والفودكا الروسية وشتى انواع البيرة الوطنية والاجنبية
اتذكر بغداد يوم كان البغداديون لا يذوقون التتن الا في سكاير ( ام الزبانة ) المتروسة بالتتن الشاور او ( السبيل ) المصنوع من الطين المفخور او في السكاير التي يلفونها باايديهم بورق دفتر البافرة ويولعونها بالزناد والصخرة او بالجداحة ام قبطان الاحمر او في النركيلة المعدة من التنباك الهندي او ( ابو الجلود ) او ( الشيرازي )
واليوم ارى البغداديين وهم يحملون باكيتات الروثمان وغيرها من السكاير الانكليزية والامريكية المصنوعة من تتن ( فرجينيا ) ويولعونها بقداحات رونسون او دانهيل او ( وين ) وكثيرون منهم يدخنون سيكار هافانا او السيكار الهولندي او ( البايب) المنحوت من خشب الابانوس المعطر والمحشو بتنباك ( ابو البحار) او ( ابو المربعات الاربع ) اوغيرها من انواع التنباك المخمر ذي الرائحه الزكية
اذكر بغداد يوم كنا نبني بالطين والنورة ورماد الطمة وجص ( العبادي ) وطابوكة ( الكاظم ) الاحمر..
واليوم اشاهد عشرات المدخنات ترتفع من معامل السمنت والطابوق الجيري والثرمستون وهي تنفث ادخنتها في كبد السماء من السليمانية والموصل شمالا حتى السماوة والبصرة جنوبا
اذكر ان شيئا واحدا لم يتغير عند البغداديين والعراقيين ذلك هو التباين الصارخ في غطاء الراس فان العكال بانواعه واليشماغ والجزية والجراوية على اختلاف لفاتها والعرجين والكاورية والغطرة والكشيدة والكلاو والعمامة والسيدية والفينة والبرنيطة والكاسكيت والبيرية وكل ما خطرعلى البال هي هي لم تتغير لا في بغداد القديمة ولا في بغداد الحديثة لا في العراق القديم ولا في العراق الحديث
ولما جاءت السدارة لتكون شعارا يوحد العراقيين ويميزهم عن غيرهم سرعان ما اندثرت وبطل استعمالها ولا نشاهدها اليوم الا على رؤوس الممثلين والمغنين والجالغجية في التلفزيون او على رؤوس عدد من المتقاعدين في المقاهي والشوارع والذين يعتزون عادة بكل قديم
اذكر بغداد يوم كانت نسبة وفيات الاطفال فيها تتراوح بين 20% و 50% وفي بعض المجتمعات الشعبية تصل الى اعلى من ذلك بكثير
لقد كنا اربعة اطفال لوالدينا ومات الاخ الاصغر باختلاطات مرض الحصبة ولما يبلغ الربيع الثالث من عمره اي ان النسبة لعائلتنا كانت 25%
فلو كان في بغداد يومئذ طبيب واحد للاطفال لامكن انتشال ذلك الطفل البرئ من براثن الموت وكل ما قامت به الام من علاج ووقاية هي انها ( بركعته ) بالبشطمال الاحمر وطافت به درابين بغداد وازقة الدنكجية ( جديدة حسن باشا ) وعبرت به الجسر
اما في بغداد اليوم فان نسبة وفيات الاطفال تكاد لا تذكر اذ كل ام عراقية مهما كانت درجة ثقافتها صارت تلم بكافة وصايا صحة الاطفال مما تسمعه من الراديو اوتشاهده على شاشة التلفزيون ولا يفوتها ان تلقح طفلها ( بي سي جي ) او باللقاح الثلاثي ولا تتوانى عن عرضه على اطباء الاطفال الذين يعدون اليوم بالمئات حالما يلم بطفلها مرض ما غير ان الام العراقية تلام على امر واحد هو الاعتماد على الحليب المجفف لتغذية طفلها وليس على ثديها فان امهاتنا لم تسمع بحليب الميلاك والسريلاك والنستلة وعشرات الانواع الاخرى المعروضة في الاسواق مما استعاضته الام الحديثة مع الاسف عن ثديها لارضاع طفلها
اذكر بغداد يوم لم يكن فيها دائرة منتظمة لتسجيل النفوس والولادات والوفيات ومعظم مواليد بغداد في اوائل القرن الحالي لا يعلمون التواريخ المضبوطة لميلادهم ويقولون عند الاقتضاء ( والله اعلم ) او يقرنون التواريخ باحد الاحداث التاريخية كان يقول البغدادي مثلا :
ولدت سنة حكم ناظم باشا او ولدت بعد الطاعون بسنة واحدة اوبعد سنة ابو زوعة بسنتين او يقول ولدت سنة انكسرت سدة السرية وغركت بغداد او سنة ( السفر بر او سنة ( لوفه ) او سنة ( الجهجهون) او سنة السقوط او ان يقول كنت صبيا سنة كتلة لجمن....الخ )
لقد كانت عائلتنا احدى العوائل البغدادية التي تسجل الولادات على غلاف القران الكريم وقد استندنا الى ذلك التاريخ في استصدار العثمانية ( شهادة الجنسية العراقية)
وارى بغداد اليوم ولكل مواطن صفحة خاصة في سجل النفوس يدون فيها اليوم والشهر والسنة بالتاريخ الميلادي ويزود كل مواطن بهوية شخصية تعد وفق ادق المعلومات وباحدث الاجهزة الالكترونية وتشتمل على كل صغيرة وكبيرة من حياة المواطن وخصوصياته كما هو الحال في اي قطر متحضر في العالم
ملاحظة: سنة لوفة: هي سنة ( محل ) انحبس فيها المطر وساد العراق وخاصة لواء الدليم ( لواء الرمادي ) قحط شديد
الجهجهون : اصطلاح معروف في لواء ديالى للدلالة على ثورة العشرين
سنة السقوط: اي سقوط بغدادفي مارت (1917)
سنة كتلة لجمن : اي مقتل الكولونيل لجمن في اب (1920 ) في مركز شرطة ( النقطة ) المجاور لخان ضاري في ابو منيصير من قبل الشيخ
ضاري المحمود وولده سليمان
وبهذا اكتفي على امل اللقاء بكم في الحلقة القادمة انشاء الله تعالى
ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي
616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع