عبد القادر أبو عيسى
عمرو بن العاص داهية من دهاة العرب الجزء الرابع
شعار المقال : صُن النفسَ وأحملها على مايُزِينُها – تَعش سالماً والقولُ فيكَ جميلُ
مكانة عمرو بن العاص في زمن الخليفة عمر بن الخطاب
بويع ( عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه بالخلافة وجيش المسلمين يسير من نصر الى نصر . وكان بن الخطاب عظيم الثقة بأبي عبيدة بن الجراح فأسند أليه القيادة العامة في حرب الروم . وبدا ان توحيد القيادة كان أعون على توزيع العمل بين القواد في أنحاء الميدان كله . وهكذا أستقل عمرو بن العاص بغزوات فلسطين وما جاورها . وتمّ على يديه فتح مدنها ( غزة ) و (نابلس ) و (الّلد ) و ( عَمواس ) و ( بيت جبرين ) و ( يافا ) و ( رَفَح ) وغيرها ... وحاصر ( إلياء – بيت المقدس ) , قبل أن يقدم عليه أبو عبيدة وهو على حصارها .. وقد طلبت الصلحَ على مثل ما صولح أهل مدن الشام , على ان يكون المتولّي للعقد لهم الخليفة نفسه . عمر بن الخطاب ... فَقَدِمَ الفاروق عمر , وأنفذ الصلح وكتبَ لأهل إلياء عهداً . كان ذلك في سنة 15 هجرية . وما تذكره الروايات من جرأة عمرو بن العاص المقرونة بسعة الحيلة في حصاره لمدينة ( اجنادين ) التي حشد الروم فيها حشودهم , وعلى رأسهم قائدُ فلسطين ( ألأرَطبُون ) أو_ اريطيون _ كما تسميه المصادر الاجنبية وهومن دهاة الروم ومن ابعدهم غوراً .. أن ابن العاص أقام على حصار ( أجنادين ) وهي في أواسط فلسطين – لايقدر على الأرطبون ولا تشفيه الرسل ... فذهب عمر اليه ذات يوم ودخل عليه كأنه رسول , فأبلغه بما يريد وسمع كلامَه وتأمل حصونَه حتى عرف ما أراد .. ! ... فحدّث الارطبون نفسه .. لاشك أن هذا هو الامير . أو هومن يأخذ الأميرُ برأيه ... وأمر أحدَ المقاتلين أن يتصدّى له في خروجه , ويقتله ! .... ففطن عمرو الى ما أضمره له الارطبون من الغدر فقال يحاوره - - قد سمعتَ مني وسمعتُ منك .. وقد وقع قولُك مني موقعاً , وأنا واحدٌ من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنُسدي اليه النصحَ , سأرجع إليهم وآتيك بهم الآن , فإن رأوا في ما عرضتَ علّي مثل الذي أرى , فسوف يؤيدُنا العسكر والأمير . . . ! فسُرّ الأرطبون من هذا القول . وردّ الرجلَ الذي كان أمره بقتل عمرو . وخرج عمرو . ثم علم الارطبون أنهُ خدع .. فقال .. .. خدعني الرجل ... هذا أدهى الخلق .. ! وبلغ أمرُ خديعته عمر بن الخطاب .. فقال .. لله درّعمرو .! --- وسكنت بلاد الشام الى الحكم العربي الذي اشاع فيها عدلا وأمناً . وقد خسر المسلمون في فتحها نحواً من خمسة وعشرين ألف شهيد . ولكن لم تسكن المطامح في صدر عمرو ابن العاص . لقد حقق من الإنتصارات ما اتاحه له الدينُ الجديد . ولكن كان يرنو بناظريه إلى ... مصر تلك التي تحدّثُنا بعضُ كتب التاريخ أنه زارها في ايام الجاهلية , وعرف من خيرها وأمرِها الشيئ الكثير . وعرف ايظاً بحنكته أنها ستكون قوة للإسلام , وامتاداً جغرافياً وحضارياً لأمةالعرب ‑‑ لقد انهزم الرومُ الى مصر بعد أن كسرهم العربُ في فلسطين ... فلا أمان للمسلمين , في فلسطين او الشام أو حتى الحجاز نفسه ما ظلّ بابُ هذا الخطر مفتوحاً . فالنبادر الى ايصاده بضرب الروم حيث هم في أرض مصر . وكان النبي محمد صل الله عليه وآله وأصحابه الطيّبين الطاهرين ومن اتبعهم بأحسان الى يوم الدين . قد بشر بفتح مصر , حيث قال عليه أفظل السلام ( ستفتحون مصر .. فأستوصوا بأهلها خيراً , فأن لهم ذمةً وَرحِماً . حيث كان ( المقوقس ) عظيم القبط قد اهدى النبي الجارية ( مارية القبطية ) التي انجبت ولده القاسم . كانت مصر التي يقدر عدد سكانها في ذلك الحين . بعشرة ملاين نسمة , محكومة من الروم منذ أجل بعيد . وكان الفرس قد تمكنوا في عهد قريب من ان ينتزعوها من يد الروم , وظلوا فيها نحو عشرة أعوام قبلَ أن يعود اليها الروم من جديد . وقد كانت كراهية السكان للمحتلّين شديدة . فهم مسيحيون والروم كانوا وثنيين . فلما تنصّر الروم صاروا على مذهب هو ( المذهب الملكي ) على حين كان أقباط مصر على المذهب ( اليعقوبي ) وقد ارادهم الروم أن يكونوا على مذهبهم فأبو . وكان سخطُ المصريين على الروم لإختلاف الدين , ثم أصبح لإختلاف المذهب . والواقع ان الإختلاف كان سياسياً .. بين شعب ينوء بنير الاحتلال وبين شعب يحكمه بالحديد والنارأياً ما كان الدين أو المذهب الذي يعتنق . . وكان يضافُ الى ما بين أقباط مصر والروم من نزاع اختلاف مع جنس ثالث هم اليهود . وعددهم في مصر آنذاك يزيد على . مئتي ألف شخص يقيمون في أحياء خاصة بهم في الاسكندرية وعين شمس القريبة من القاهرة اليوم .. وقد تفاقم اضطهادُ المصريين في عهد الامبراطور ( فوقاس ) قبيل الفتح الاسلامي , حتى أنه اصدر أمرَه إلى ولاته بطرد جميع الوطنين من وظائف الحكومة وإلزامهم طاعة الكنيسة في القسطنطينية , فأصبح الخلاص من هذه الدولة حلماً من الاحلام التي تراودُ زعماء الكنيسة الوطنية في يقظتهم ومنامهم , فرأى البطريق ( بنيامين ) في منامه أن مصر ستفتح لأناس مختونين ينقذونها من اعدائها المتسلطين عليها . . . . وما كانت حالةُ مصر آنئذ مما يخفي على القائد العربي الطموح عمرو بن العاص فقد كان يستطلع اخبارها برسل من عنده , وأستمع إلى أناس يعرفون عن مصر ما يكفيه فعلم أن الحصونَ مهملةٌ وأن الجنود الروم يذودون عن معاقلهم في يأس من المصير . فهم يعيشون بين شعب يُبغضهم ويتمنى لهم الهلاك وَيجهر بعدائهم ومشايعة أعدائهم إذا أمن العاقبة وتوقع أنتصارَهم . فقام لدى القائد العربي الجسورَ بقدرته على الزحف إلى مصر وفتحها وأدخالها في حوزة العروبة والاسلام وما ذلك على الجيش العربي بعسير , هذا الجيش الذي تصدّى للأكاسرة والقياصرة مقتحماً عليهم مناطق نفوذهم , فدحر وفتح وحرّر ونشر الدين الحنيف في كل الارجاء . وتوجبَ على عمرو – وقد مضى عليه وهو في فلسكين نحو خمس سنين – أن يُحدّث الخليفة في ذلك وأن يبذل جهداً في حواره وأقناعه . وذلك ايضاً لا يصعب على عمرو الألمعي الداهية . فاستأذن الخليفةَ عمربن الخطاب في فتح مصر وبيّن له أنها متى فُتحت للعرب غدت قوة للمسلمين وعوناً للعرب وهي أكثرُالأرض أموالاً وأعجز الامم عن القتال والحرب . وقد استمع الخليفةُ إلى عمرو , وتردد في القبول . وحري بالفاروق وبصحبه من زعماء المسلمين أن يترددوا وقد نفظوا بالأمس أيديهم من فتح كبير بذلوا فيه الأنفس وأشفقوا قبل ان يكتب الله لهم النصر . وهمس عثمانُ بن عفان في أذن الخليفة محذّراً من عواقب هذا الطموح الجموح ... وابن الخطاب ما به حاجة إلى من يذكره بطموح عمرو إلى الرئاسة والشرف وهو الذي أستمع اليه يوماً يوسّطه عند الخليفة الصدّيق ليجعله قائداً على الجيوش التي تهيأت للمسير الى بلاد الشام , ورئيسا أعلى لأبن عبيدة بن الجراح الذي يُقدّره عمرُ بن الخطاب أيما تقدير .! وما كان لأبن العاص أن ينخذل دون غايته ولديه من الحجج والدواعي ما لو سمعه ابن الخطاب لوفّق في النفاذ الى قناعة . إن ( الأرطبون ) داهيةَ الروم قد فرَّ – بعد انكساره في فلسطين – إلى مصر , ليجمع فيها قوة َ الدولة الرومانية ثم يكرّ بها على الشام .. فلا أمانَ إذن للمسلمين في فلسطين أو الشام أو حتى الحجازنفسه ماضلّ بابُ هذا الخطر مفتوحاً .- فعلى العرب أن يبادروا الى إيصاد هذا الباب بضرب الدولة الرومانيىة في مصر وإنها لمتداعية قد أنّت وطال أنينها تحت وطأة ضربات العرب لها في بلاد الشام بلأمس القريب ... كلامٌ حق يقوله عمر بن العاص . هو داهية طموح ولكنه غيرُ مغرور . حجج معقولة ساقها في حوار طَلي , أيقن معها الفاروقُ أنه يستمع الى صواب . وأستجابَ الخليفة الفاروق لرأي عمرو بن العاص وهو بين الاقدام والاحجام ... فأذن له بالسير ... وقال مستدركاً ... سِر ... وأنا مستخيرٌ الله في سيرك . وسيأتي كتابي اليك سريعاً إن شاء الله تعالى . فإن وصلك وأمرتك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها فانصرف , وإن أنت دخلتَها قبل أن يأتيك كتابي فامضِ لوجهك واستعن بالله ... ( وانما أراد الخليفة من ذلك أن يستزيد من التفكير والمشاورة ) --- وما أسرعَ ما انطلق القائدُ العربي الكبير , بجيش يقل تعداده عن اربعة آلاف يريد أن يغادرَ أرض فلسطين قبل أن يبلغه كتابٌ من الخليفة يأمره بالانصراف عن فتح مصر ..! . وكان تحركه نحو مصر في السنة 18 للهجرة ( 639 ) ميلادية . وفعلاً تبعه رسولاً يحمل كتاباً من الفاروق , قد أدرك القائدَ الزاحف بجيشه وهو بعد في ( رَفَح ) من ارض فلسطين ... فخشي أن هو أخذ الكتابَ وفتحه أن يجد فيه الأمرَ بلإنصراف , فأغضى عن الرسول حيناً وسار حتى نزل قرية بين رفح والعريش فسأل عنها فقيل ... أنها من ارض مصر .! فدعى بالرسول واخذ منه الكتاب وقرأه على المسلمين ... فاذا هو دعوة للإنصراف عن مصر : فقال لمن حوله ... أن الكتابَ لم يلحقني حتى دخلنا ارض مصر . ! – فسيروا على بركة الله وعونه . والحكمةُ التي توخّاها الفاروق من عدم الانصراف عن مصر إذا دخل العرب أرضها , هي في أن الرجوع عنها بعد دخولها يكشفُ للروم عن ضعفٍ فيهم ورهبةٍ من لقاء عدوهم , وقد يغري هذا الاحجام العدوّ بالكرّة على الشام بل يُخيف أهلَ مصر من ان يستسلموا للعرب إذا هم أقبلوا على مصر مرة أخرى . كان عمرو بن العاص يوم زحفه إلى مصر قد تجاوزالستين من العمر , فلديه خبرة الفاتح والحاكم جميعاً فضلا عما يملأ قلبه من الإخلاص والتفاني في خدمة الدين عقيدةً والعروبة قومية .
حريق مكتبة الاسكندرية .- . - . ولن نبدأ حديثنا عن فتح مصر , ما لم نُفنّد تلك الفرية التاريخية التي تَزعُم أن العرب قد أحرقوا مكتبة الاسكندرية ( السيرابيوم ) الشهيرة وذلك عملٌ – أن صحّ – بربريٌّ لا يتفق مع مُثلِ العرب وقيمهم الاخلاقية . إنَّ أقدم نص أشار الى هذه الحادثة قد وردَ في كتاب ( محتصر الدول ) تأليف أبى الفرج غريغوريوس بن أهرون المعروف بأبن العبري يقول – أن قسيساً قبطياً دخل على عمرو بن العاص بعد فتحه الاسكندرية وطلب منه الحصولَ على الكتب فأجابه عمرو - - لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين . وكتب الى الخليفة . فوردَ عليه كتاب فيه . ( وأما الكُتب التي ذكرتَها فان كان فيها ما يوافق كتابَ الله ففي كتاب الله عنه غنى وإن كان فيها ما يخالفُ كتابَ الله فلا حاجة إليه , فتقدم بإعدامها ) .. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية واحراقها في مواقدها . فا ستُنفِذَت في اشهر . (( عن كتاب - تاريخ عمر بن العاص – تأليف الدكتور حسن ابراهيم حسن – القاهرة 1922 ص 136 )) وإذا حللّنا هذه الرواية وجدناها محض إختلاق وإفتراء . فإن أبا الفرج هذا قد ولد سنة 1226 ميلادية وتوفي سنة 1286 , فهذه الرواية لم تُذكر إلا بعد أنقضاء ستة قرون على تاريخ فتح مصر والإسكندرية ..! وكذبُها ظاهرٌ من المبالغة في عدد الكتب التي وزعت على آلاف الحمامات , فتغنيها عن الوقود طوال ستة اشهر . ! هذا الى أن الرّق – الذي كانت الكتب تُسطّر عليه في تلك العصور – لايصلحُ للوقود أصلاً .. ! وكفى لتكذيب هذه الاسطورة – كما يقول الكاتب العربي الكبير ( عباس محمود العقاد ) أنها لاتشبه عملاً من أعمال الفتح الاسلامي , الذي اقترن بالتعمير ولم يقترن قطّ بالتنكيل والتدمير ... وعمر بن العاص لم يأخذ مصر بسلطان الغلبة والرهبة ولم يُشرّع فيها شرعةً إلاّ كان رائدُه فيها الرفق والودّة (( عمرو بن العاص – العقاد – دار العروبة بالقاهرة ص 114 )) ولم يُكذّب هذه الحكاية الكتاب العرب وحدهم , بل كل من تصدى لتأريخ الفتح العربي لمصر من كتّاب الفرنجية , ولعل أهمهم ( جبون و بتلر و سديو و غوستاف لوبون ) والواقع أن هذه المكتبةَ الكبرى قد اصابها الحريق مرات عدة في عهد(يوليوس قيصر)و في عهد(ثيودسيوس ) الذي أباد آثار الوثنية قبل الاسلام بقرون .
الى هنا نتوقف آملين الحديث عن فتح مصر على يد عمرو بن العاص في زمن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
أشكركم على قراءة المقال
عبد القادر أبو عيسى : 21 / 11 / 2013
1129 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع