د.علي محمد فخرو
لنتخيل مراقبا عاقلا ومتزنا ينظر، بموضوعية تامة وبلا أي مجاملة، الى الأحداث التالية:
في بلد عربي هناك خبر ايقاف زواج طفلة في سن التاسعة. ان كل كتب علم النفس وكل تجارب الانسانية تقول بأن ممارسة الجنس مع الأطفال تؤدي الى جراح وعلل نفسية تبقى معهم طيلة حياتهم وتحرمهم من فرح وطمأنينة براءة الطفولة. غير انه، وعلى الرغم من تحذيرات علماء النفس والدروس التي تعلمتها البشرية، توجد في ذلك البلد وفي غيره جهات ومنابر علنية تحلل شرعا، بل وتشجع علنا، الزواج من فتيات صغيرات لا حول لهن ولا قوة لرفض ما يعرض عليهن. لا توجد الدولة التي تحمي ولا القوانين التي تعاقب ولا المجتمعات التي ترفض وتقاطع، ويظل الموضوع غير محسوم لا في الثقافة الفقهية ولا في الثقافة العامة.
في بلد عربي تقوم ثورة شعبية من أجل الديموقراطية. لكن ما ان يمر الوقت حتى تنزلق تلك الثورة لتصبح سوق نخاسة تبيع وتشتري فيها الدول الأجنبية المتصارعة، وقوى الجهاد التكفيري العبثي المبتذل، وسفهاء أصحاب الثروات الذين يقحمون انفسهم وثرواتهم في لعبة الموت والدمار، وانتهازيو ألعاب السياسة المعارضون، وعبيد نظام الحكم الذين لا يرف لهم جفن وهم يرون البلد يحترق ويتفتت. وتكون النتيجة المفجعة ان بلدا كان ملء العين والبصر قد اصبح أرض اليباب ومقبرة للمسالمين الطيبين من أبنائه.
في بلد عربي يتوقف تصدير نفطه منذ أربعة شهور بسبب الصراعات القبلية والجهوية وبسبب ارتهان الدولة، مؤسسات ومواطنين، من قبل ميليشيات مافوية انانية تفضل تدمير الوطن وانهاء وجوده على ان تتنازل قيد انملة عن مصالح وهلوسات وجها له قادتها.
في بلد عربي، كان مرشحا منذ أربعين سنة لينتقل من صفوف البلدان النامية ليصبح ضمن تصنيف البلدان المتقدمة، ينبش أطفاله الآن في براميل الزبالة ليحصلوا على بقايا طعام يسدون به رمق جوع عائلاتهم. هذا البلد كان يفاخر بأنه اقترب من انهاء الأمية بين شعبه لتصل نسبة الأمية اليوم في ربوع أرضه الممزقة المدمرة المنهوبة الى أكثر من ثلاثين في المئة، وليضطر أطفاله للعمل لانقاذ شرف أم أرملة بلا معيل وأخت لا تأمن على عفتها في شوارع مدنها التي تشهد يوميا موت العشرات في جنون لعبة تفجير السيارات المفخخة وأحزمة شباب الجهاد التكفيري الضائع المشترى من قبل هذه الجهة أو تلك.
في بلاد العرب تدق طبول محاكمات الاستئصال وتصدح أصوات همجية الخطاب ضد كل معارض بينما يرقص كثير من مدعي الليبرالية والقومية واليسارية طربا في حفلة زار ديموقراطية كاذبة يقودها رجال أمن يلبسون ألف قناع.
في بلد عربي تجتمع أحزاب الحكم وأحزاب المعارضة والكثير من مؤسسات المجتمع المدني أياما وليالي لتختار شخصية حيادية نظيفة من أجل تأليف حكومة انتقالية لتجري انتخابات نزيهة. لكنها لا تستطيع ان تجد من بين الملايين من مواطنيها شخصية واحدة، نعم واحدة، يتفق عليها الجميع.
في بلاد العرب تبتلع الصهيوينة ما تبقى من أرض فلسطين بينما تتصارع القيادات على ما يرمى لها من فتات.
في بلاد العرب لم تستطع جامعة الحكومات العربية ان تطفئ حتى ولا نار مشتعلة واحدة ولم يستيقظ بعد ضمير أحد ليدعو ولو لاجتماع قمة واحدة للخروج من الجحيم الشيطاني الذي تعيشه أمتهم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.
في بلاد العرب تتحارب الأديان والمذاهب والايديولوجيات، لا من خلال الحوار وقبول الآخر، ولكن من خلال الاعلام الغامز الشاتم واشهار واستعمال السلاح القاتل.
في بلاد العرب ينتشر وباء الحزن والضياع والحيرة بين الجموع ما يجعل الحياة عبثا والموت عبثا.
ماذا سيقول ذلك المراقب المحايد العاقل وهو يشاهد حفلات وجنازات الجنون تلك؟
سيذكرنا أولا بقول ألبرت أينشتاين من ان «الجنون: هو عمل نفس الشيء مرات ومرات مع توقع الحصول على نتائج مختلفة».
أو سيذكرنا بقول الفيلسوف نيتشه من «ان الجنون بين الأفراد أمر نادر، لكن انتشاره بين الجماعات والملل والأمم هو القاعدة».
نحن اذا أمام محنة جنون السياسة والثقافة والفقه المتخلف. وفي الحال يطرح السؤال التالي نفسه: هل ما نراه حصاد ثورات وحراكات الربيع العربي؟
والجواب هو كلا وألف كلا ليس في تلك المشاهد السوداء، وعلى الرغم مما تدعيه أبواق الثورات المضادة، ذرة من تواجد وألق شباب أوروح ثورات وحراكات الربيع العربي.
ما نراه هو بقايا علل وهلوسات وانفصامات جنون القرون الطويلة وهي تلفظ آخر وجودها في النفس العربية الجديدة المتعافية، وما على شباب وحراكات الربيع العربي الا ابعاد انفسهم، كأفراد ومؤسسات، عن ممارسات جنون القرون الماضية تلك وعن كل من ابتلوا بذلك الجنون فالمستقبل لهم طال الزمن أو قصر.
1037 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع