وفيق السامرائي
ليس غريبا أن يتفق الغرب مع إيران حول برنامجها النووي بدفع أميركي شديد، بعد عقد شائك من المساومات والعقوبات والتكهنات..
فالطرفان وصلا إلى حالة العجز عن إحداث اختراق كبير، ولم تعد الاستخبارات الأميركية قادرة على متابعة البرنامج النووي الإيراني بكفاءة، ولا القوات المسلحة قادرة على حسم المواقف في المكان والزمان المطلوبين، إلى جانب الشلل الذي أصاب مجلس الأمن، الذي بقي لفترة طويلة تحت الطلب الأميركي. وعلى الجانب الإيراني، أتعبت العقوبات الوضع الاقتصادي العام بما يفوق المتحقق من مواصلة التحدي العلمي النووي، الذي قد يؤدي إلى تصعيد خطير في مجال العقوبات، إذا ما جرى تجاوز الخط الأحمر المباشر بتصنيع سلاح نووي.
خلال المفاوضات العراقية - الإيرانية عام 1988 التي عقدت في قصر الأمم المتحدة بجنيف، الذي دارت فيه مفاوضات «النووي» الأخيرة، قام محمد جواد ظريف بمهمة الترجمة الفورية لوفد بلاده من الإنجليزية إلى الفارسية، وكان طليقا بثقافة غربية مميزة، ولم يتردد ولم يتلكأ، وعكس بترجمته ومنطقه نبرات رئيس وفد بلاده وزير الخارجية علي أكبر ولايتي بطريقة واضحة. واختياره الآن لقيادة فريق يخوض أعقد ملف تفاوض يعكس اهتماما إيرانيا كبيرا بالفصل بين التزام معين والجانب الفني، فظريف ليس من فريق التشدد الثوري، ويستطيع الاندماج والتفاعل مع نظرائه الغربيين استنادا إلى إلمامه الواسع بلغة التفاوض وخبرته الدبلوماسية الطويلة.
بعد 38 عاما من مشوار التوجه النووي الإيراني، اكتسب العلماء والخبراء والفنيون والمتدربون والعمال الإيرانيون المهرة تجارب وكفاءات عالية لم يعد ممكنا تجاهلها. وتمكنت أجهزة الأمن والاستخبارات من تحديد الثغرات وغلقها في وجه معظم عمليات الاختراق البشرية والتكنولوجية، وتوصلت جهات التوريد إلى الطرق التي تؤمن لها الإمدادات اللازمة. إلا أن هذه الحزمة الحيوية من النقاط الإيجابية لا يمكن من خلالها أو عبر غيرها من الإجراءات مواجهة تفاقم أثر عقوبات إضافية، فكان لا بد من مناورة استراتيجية مختلفة عن حالة الشد المعتادة سابقا، تضمن شكلا من التوازن الدقيق الذي يضع إيران في موقع أفضل بأقل الخسائر المالية والفنية.
الحقيقة التي لا شك فيها، هي أن الولايات المتحدة فشلت في كل سياساتها الإيرانية منذ سقوط الشاه. وحتى العقوبات، فإن التدرج البطيء فيها ساعد إيران على امتصاص تأثيراتها الحادة واحتواء أي اضطرابات قد تنتج بسببها، ولم تؤثر على مستوى الدعم الإيراني لمناطق التوتر بالشرق الأوسط في سوريا ولبنان والعراق وغزة واليمن، وأفغانستان.. مما يدل على كفاءة في إدارة الاقتصاد وإصرار على تحقيق الأهداف الاستراتيجية. كما أن الجانب العربي ترك الملف الإيراني في ذمة الإدارة الأميركية، أو أن خياراته بقيت محدودة أو مكبلة بقيود كلاسيكية. ومن هذه التفاعلات المتعددة ولد اتفاق جنيف النووي.
سيؤمن الاتفاق معلومات أقرب لأجهزة المخابرات ووكالة الطاقة الذرية عن البرنامج النووي، من خلال اللقاءات والزيارات اليومية المفترض إجراؤها من دون قيود. إلا أن هذا لا يشكل اختراقا مهما كبيرا لمصلحة الغرب، ما دامت إيران اكتسبت شرعية التحرك تحت ضوء الشمس بموجب اتفاق يقبل التفسير، ويبقى الجانب التسليحي قابلا للتطبيق في الزمن الذي يتخذ فيه القرار، ولا تبدو الحاجة ملحة لإعطائه أسبقية إيرانية عالية، ما دام قد أمكن فرض الوجود الإيراني بوسائل تقليدية ضمن مرحلة توازنت فيها المعادلات.
وستتاح لإيران موارد مالية مهمة، وأصبح أفق الانفتاح الخارجي واسعا نسبيا ويمكن تطويره على المدى المنظور، وحدث تخلخل إقليمي لمصلحة إيران بإظهار صلابة إرادتها، مقابل ضعف أميركي مبني على اعتراف بالتخلي عن مناورة القوة المعتادة والتغطية على تحولات التراجع والمشي القهقرى.
ومع أن الغرب سيحرص على التوثق من ابتعاد إيران عن برامج التسلح النووي، فإن المعادلة المحتملة يمكن قياسها وفقا لقواعد التجارب المماثلة الأخرى.. فعلى الجانب الأميركي، سبق القبول بباكستان نووية، وبخرق تحد نووي كوري شمالي، وإن الدولتين فقيرتان اقتصاديا مقارنة بإيران رغم العقوبات التي فرضت عليها. وعلى الجانب الآخر، فإن ما تحقق حتى الآن يعدّ تطورا كبيرا لمصلحة إيران، وحان لها وقت المناورة لتجربة حضور أوسع في المحافل الدولية، والاحتفاظ بوتيرة مهمة في التطور التكنولوجي، وهو ما يساعدها في بلوغ مرحلة جديدة. أما الحديث عن تقاسم مناطق النفوذ، فيستند إلى حسابات جدلية.
813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع