عبد القادر أبو عيسى
عمرو بن العاص داهية من دهاة العرب . الجزء السادس والأخير
شعار المقال : عدواً عاقل خيرٌ من صديق جاهل
مكانة عمرو بن العاص في زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه
توفي - الخليفة عمر بن الخطاب سنة 23 هجرية ـ 644 ميلادية , وعمرو بن العاص على مصر فقام بالخلافة بعده ؛ عثمان بن عفان ؛ فأقبل عمرو إلى المدينة يبايعه ويعرضُ عليه شؤون ولايته , ويتلقّى أوامره فيها . وبدا أن ولاية عمرو في مصر قد أمست في خطر منذ مبايعة عثمان ... ونحن ما نزال نذكرُ همسةَ عثمان في أذن الخليفة عمر بن الخطاب وهو يُحذّره من عواقب طموح عمرو , طموحه الجريء يوم عرضَ على الخليفة فتح مصر . هذا الى إن ( عبد الله بن سعد ابن أبي سَرح ) كان يساعد بن العاص في صعيد مصر والنوبة , وعبد الله هذا رجلٌ قوي جسور , وهو اخٌ في الرضاعة لعثمان الخليفة الجديد , الذي يقال إنه كان يمنحُ أقاربه ثقته ويبوّئهم مناصب رفيعة , وكان ذلك كله جديراً بأن يجعل عبدالله مكان عمرو , لولا أن الاسكندرية قامت تنتقض على الحكم العربي .. ذلك أن بعض أهلها كتبوا إلى ( قسطنطين ) امبراطور الروم , يهوّنون عليه فتح الاسكندرية لقلة ما بها من حامية المسلمين , ولم يكن جرح الروم قد اندمل من ضياع مصر مصدر ثروة الإمبراطورية فقَدِم قائدٌ من الروم في أسطول إلى الاسكندرية واستولى عليها , ثم زحفت بجيش كبير الى قرى الدلتا باتجاه الفسطاط . وكان ذلك سنة 25 هجرية – 646 م , وقد أشار أصحابُ عثمان عليه أن يبقيَ عمراً على مصر لدرايته فيها وهيبته في نفوس الاعداء , وهو الذي كان قد قاتلهم منذُ أعوام وأدال دولتهم . فتصدّى عمرو بن العاص للمعتدين فغلبهم وتتبع فلولهم , ولحقهم حتى الاسكندرية , فافتتحها عنوةً من جديد , ووضع السيفَ في رقاب الاعداء . لكن انتصاره الجديد ما كان ليشفع له عند الخليفة عثمان . عزل عمرو بن العاص عن مصر وتولاها عبدالله بن سَرح . وكان ذلك سنة 27 هجرية 648 ميلادية * ساءَ عمرو بن العاص هذا العزلُ ونقم على الخليفة أيما نقمة . وغادر مصر إلى منزله في فلسطين , فسكن فيه وقد تجاوز السبعين من العمر . ومضت السنون وسائت الاحوال في عهد عثمان . وكان بن العاص يرحلُ أحياناً إلى مكة والمدينة , ولما بدا أن نفوذ الخليفة واضحُ الضعف , صاح به في المسجد يوماً " أتّق الله يا عثمان .! فأنك قد ركبت أموراً وركبناها معك , فتب الى الله نَتُب .. ! وقتل عثمان سنة 34 هجرية 655م . وبويع علي بن ابي طالب كرمَ الله وجهه فلم ينصرهُ عمرو لا ولم ينصر خصومه . واحتاج معاوية الى ان يقرن دهائه بدهاء عمرو ابن العاص فكتبَ اليه يدعوه . فمضى إلى معاوية وبايعه على المطالبة بدم عثمان . وشهد مع معاوية معركة ( صفّين ) ضد الخليفة علي ابن ابي طالب . ولما رأى الدائرة تدور على أهل الشام ، أنصار معاوية ، أشار عليه برفع المصاحف طلباً لأن يكون كتاب الله حَكَماً في هذا الصراع بين المسلمين . وكان عمرو هو الحكم الذي مثّل معاوية في مواجهة . أبي موسى الاشعري . الذي خَلَع صاحبه عليّاً ولم يخلعُ عمرو صاحبه معاوية . وأما الثمنُ . الذي طلبه عمرو لقاء هذا التحالف فهو أن يعودَ إلى مصر والياً متى تم لمعاوية الفوز بالخلافة خالصة . وكانت ـ المساومة ـ بين عمرو ومعاوية تصل احياناً حدّ الصراحة البالغة , وقد قال عمرو في ذلك شعراً , منه ـ
معاويَ لا أعطيك ديني ولم انل * به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة * أخذت بها شيخاً يضرُّ وينفع
ولما آلت أمور الحكم الى معاوية بن ابي سفيان ... جهز معاوية جيشاً من ستة آلاف مقاتل وجعل على رأسه عمرو بن العاص وبعث به الى مصر , لأنتزاعها من يد ( محمد بن ابي بكر الصديق ) واليها المعين من قبل الخليفة علي بن ابي طالب . كان ذلك سنة38 هجرية ـ 659 ميلادية . وقدكتبَ عمرو إلى محمد بن ابي بكر والي مصر , يقول .. * تنحَّ عني بدمك يا بن ابي بكر , فأني لا احبُ أن يصيبك مني ظفرٌ . إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورَفض امرك ... فاخرج منها فاني لك من الناصحين * وكانت الغلبة للجند الشامية , وقد انضم اليهم انصارُ عثمان في مصر . وقُتل محمد بن ابي بكر , قتلة منكرة . واستولى عمرو على الفسطاط , واقرّه معاوية والياً على مصر . ثم ان ثلاثة من الخوارج تآمرو على قتل كلّ من علي ومعاوية وعمرو في يوم واحد . هو السابع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة ـ 661 ميلادية . فأما صاحب علي فقد أصابه . وأما معاوية وعمرو نَجَوا من القتل . ذلك ان بن العاص لم يخرج ذلك اليوم الى الصلاة لمرض ألم به ونَدَب ( خارجة بن حذافة ) قاضي مصر أن يصلّي بالناس . وبينما هو في الصلاة قام اليه الخارجي فضربه بالسيف وقتله ... فلما تبين أنهُ غير عمر قال : .. أردت عمراً وأراد الله ، خارجة ، ـ فذهبت مثلاً . ولم يَعرِض لعمرو في ولايته الثانية جديد , واجتمع الناس على مبايعة معاوية في سنة 41 للهجرة . فسميت عام الجماعة . وكانت الشيخوخة قد دبّت في اوصاله واصطلحت عليه العلل . دخل عليه وهوفي مرضه الاخير, بن عباس . فقال .. كيف اصبحت يا ابا عبدالله ..؟ أجاب ـ ـ أصطلحتُ من دنياي قليلاً وأفستُ من ديني كثيراً . فلو كان الذي أصطلحتُ هو الذي أفسدتُ , والذي افسدتُ هوالذي أصلحت لفُزتُ . . وربما نظر الى امواله التي جمعها , فقال .. مَن يأخذها بأوزارها .؟ ... وفي ساعة احتضاره أخذ هذا ـ الداهية ـ يبكي طويلاً ـ ـ وأبنه يقول له ما يُبكيك يا ابتي .. ؟ أما بشّرك رسول الله بكذا وكذا.؟ ثم أنه اقبل بوجهه على زوّاره يحدثّهم كيف انه كان في الجاهلية مبغضاً للرسول عليه أفضل السلام , فلما اسلم رأى أنه ما من الناس أحبُّ اليه من رسول الله ولا أجلُّ في عينه منه .. فلوأني متُّ آنذاك , رجوت أن اكون من اهل الجنة . ثم ولينا اشياء بعدُ فلست أدري ما انا فيها أو ما حالي فيها . فاذا انا مت فلا تصحبني نائحة ٌ ولا نار . فأذا دفنتموني فسنّوا عليّ التراب سنّاً . فأذا فرغتم من دفني , فامكثوا عند قبري قليلاً فاني أستأنسُ بكم حتى أعلم ماذا أراجع رسلُ ربي ... ثم أخذ يردد ـ ـ لا اله الا الله ... لا اله الا الله ـ ـ فلم يزل يرددها حتى مات ’ ليلة عيد الفطر سنة 43 هجرية الموافق 664 ميلادية . عن عمرٍ مختلفٌ عليه ذكره بعض المؤرخين على انه 100 عام والبعض الآخر قال أقل من ذلك ـ ودفن بجوار جبل المقطّم , عند ضريح الامام الشافعي القائم الآن قرب القاهرة ـ وهذا أيظاً غير مؤكّد ومختلفٌ عليه أيظاً . وهكذا عاد عمرو بن العاص الى مصر التي احبّها واحبّته ـ ليُغمضَ العين فيها قريراً ثم يضمُّه ثراها الطيّب ويظل أسمهُ الى الابد مقروناً بفتح هذا القطر العزيز على قلب العروبة والإسلام . لقد أخذ عمرو بن العاص من الدنيا كثيراً , وأعطاها كثيراً وإذا كان قد أخطأ , فبحسبه أنه كسبَ للعروبة والإسلام قطرين عظيمين هما .. فلسطين ومصر . وما كان له أن يحقق ذلك لولا ما فيه من ذكاء وطموح وتدبير ودهاء وشجاعة وعلوّ همّة . بل لقد كان فيه من الخصال ما جعلهُ في الصف الاول من رجال عصره , ومنها فصاحة اللسان , تلك التي بلغت عنده حدّاً جعل عمر بن الخطاب . يقول اذا رأى رجلاً يتلجلج في حديثهُ ... أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد ..! وكان بن الخطاب يقول اذا نظر الى عمرو وهو يمشي ( ماينبغي لأبي عبدالله ان يمشي على الأرض الاّ اميراً ) وكان من سجايا عمر بن العاص الخارقة ~ الحلمُ ~ فكان يصبر على المسألة أو المعضلة فما يلبث أن يحلّها على الوجه الذي يرضيه . ومن آيات حلمه المقرون بسرعة البديهية أن حسّادَه عرفوا ~ المغمز ~ الذي يحسّه في نسبه إلى أمه . . . فجعلوا يوماً لرجلٍ ساذج ألفَ درهم اذا سأل عمراً وهو على المنبر .. من هي أمه ... وقد فعل الرجلُ .. وأدرك عمرو أنَ السائلَ مدفوعٌ مُغرّرٌ به . فهل يثور عليه ويغضب ..؟ ذلك رد فعل الرجل العادي ... وأما عمر فقد أجاب وهو على المنبر ما يزال . . أمي سلمى بنت حَرمَلَةَ , تُلقّب بالنابغة عَزَةَ , أصابتها رماحُ العرب , فبيعت بعكاض , فأشتراها الفاكهة بن المغيرة , ثم أشتراها منه عبد الله بن جُدعان ثم صارت الى العاص بن وائل , فَوَلَدَت له فأُنجبتُ .! ـ ـ واضاف ـ ـ فإن جُعلَ لك شييءٌ فخذه !! وكان عمرو شاعراً وناثراً . وقد أشتهر بحكمه البليغة , ولهُ أقوال مأثورة . منها ـ ( ليس العاقل الذي يعرف الخيرَ من الشر ولكنهُ الذي يعرف خيرَ الشرّين ) وله ايظاً ـ أذا انا أفشيت سريّ الى صديقي فأذاعه فهو في حلّ ـ فقيل له .. وكيف ذلك .؟ فقال ـ أنا كنت أحقّ بصيانته . وقال يوماً لمعاوية .. أن الكريم يصولُ أذا جاع , واللئيم يصول أذا شبع . فسدّ حاجة الكريم . واقمع اللئيم . لقد أخذ عمرو بن العاص من الدنيا كثيراً واعطاها كثيراً ومن دَأب الذي يكثر في الاخذ والعطاء أن يقع في الخطأ وقد أخطأ عمرو في بعض ما سلك من شؤون الحياة .... ومها قيل فيه وفي أخطائه , فأنه رجلٌ يُعَدُّ من عظماء الرجال .. وحسبه أنه كسب للعروبة والإسلام قطرين عظيمين هما ~ فلسطين ومصر ~ رحمهُ الله وغفرَ لهُ .
الى هنا تنتهي قصتنا مع سيرة رجل من رجال العروبة والاسلام , أستعرضناها بما لها وما عليها آملين أستحواذها على رضاكم . وأشكر كل من اطّلع وعلق وشارك بنشرها – تقبّلوا فائق شكري وتقديري .
عبد القادر أبو عيسى : 1 / 12 / 2013
684 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع