د .محمد عياش الكبيسي
تتدحرج كرة الجليد في الملعب الإيراني الأميركي لتشكل صدمة كبيرة لكل الذين راهنوا على الثورة (الإسلامية) كمشروع تحرري في مواجهة (الاستكبار العالمي).
فبعد تسليم العراق لإيران، والموقف المريب من التدخل الإيراني السافر في الساحة السورية، ما لبثت الأمور أن تطورت لتعلن عن صفقة كبيرة بين الفريقين من شأنها رفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق يد الإيرانيين لتصدير ثورتهم في المنطقة!
إننا هنا لا ننطلق من (عقدة المؤامرة) لا بمعناها السلبي ولا بمعناها الإيجابي، ولكن هناك واقع ووقائع على الأرض كان بعض (الثوريين) ودعاة (المقاومة والممانعة) من إسلاميين وقوميين وتحرريين يصرون على التغاضي عنها، وكأن تأثير الهتافات والخطابات التعبوية كان أقوى عندهم من حاسّتي اللمس والبصر!
اليوم من المناسب –ربما- أن نعيد قراءة تلك المعطيات والوقائع بمنهجية أخرى أكثر واقعية وموضوعية:
أولا: إن الثورة الشعبية التي أطاحت بالشاه قبل ما يزيد على ثلاثة عقود لم تكن تنظيما مؤدلجا ولا بقيادة هرمية واحدة، وربما لم يكن الوازع الديني بشكل عام دافعا أساسيا للثورة فضلا عن تيار الخميني، فالشعوب الإيرانية كانت تخضع لثقافة علمانية تغريبية طويلة الأمد، أما المؤسسة العسكرية والأمنية فقد كانت أبعد ما تكون عن التوجهات الدينية، ومع كل هذا استطاع الخميني والذي كان يقيم في باريس بسرعة فائقة أن يستحوذ على الثورة ويصفي خصومه المتدينين وغير المتدينين! و يبقى السؤال هنا؛ هل فعلا كان الغرب يقف محايدا ومتفرجا وينظر عن بعد وهو يرى حليفه يتهاوى بهذه السرعة؟ أو أنه قد فقد القدرة بالكامل على التأثير في مجريات الأمور؟
ثانيا: وصل الخميني إلى الحكم، وكان العنوان الأبرز في خطاباته محاربة الشيطان الأكبر والاستكبار العالمي، وبذا تمكن في البداية من استقطاب الكثير من حركات التحرر ومنها حركات إسلامية سنّية، وأصبحت طهران قبلة يحج إليها كل ثائر أو معارض، لكن الأيام لم تمهل الخميني طويلا حتى بدا الامتحان الأول باندلاع الثورة السورية بقيادة الإخوان المسلمين، والتي كشف فيها الخميني عن وجه آخر حيث تحالف بشكل معلن ومباشر مع النظام البعثي (الأسدي) لقمع الثورة الإسلامية، بينما راح في الوقت ذاته يدعو لثورة (إسلامية) على نظام البعث (الصدامي)! أدرك السوريون حينها أن ثورة الخميني لم تكن سوى إسفينا طائفيا غليظا في جسد الأمة، وكتب الشيخ سعيد حوى في تلك المرحلة كتابه المعروف (الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف).
ثالثا: في ملف الحرب العراقية الإيرانية، والتي اندلعت بعد تبني الخميني صراحة للثورة (الإسلامية) في العراق وتنصيب محمد باقر الصدر قائدا عاما للثورة، وكان ذلك عبر وسائل الإعلام الإيرانية والرسائل الصوتية التي كان الخميني يوجهها شخصيا للصدر، في هذا الملف هناك أكثر من قضية لم تناقش بشكل جاد، منها اعتراف الرئيس الإيراني أبو الحسن بني صدر بأن إسرائيل كانت تزود الإيرانيين بشكل مباشر وبعلم الخميني نفسه بكل الأسلحة التي يحتاجونها، إضافة إلى الفضيحة المعروفة بـ(إيران كونترا) والتي تم فيها تزويد الإيرانيين من قبل الأميركيين بثلاثة آلاف صاروخ (تاو)مضاد للدروع وأخرى(هوك) مضادة للطائرات!
في تلك الفترة كان الخميني يتبنى خطابا دينيا مفاده؛ أن الغرب الكافر قد كلّف عملاءه البعثيين لإجهاض الثورة الإسلامية، بينما كان صدام حسين يقول: إن الغرب هو من جاء بالخميني وأنه حينما ننتهي من «اللاعبين الصغار سيتدخل اللاعبون الكبار» وهذه العبارة سمعتها من التلفزيون العراقي قبيل انتهاء الحرب ومن صدام حسين شخصيا! ولا أدري هل كانت هذه نبوءة سياسية, أو هي معلومة وصلت لصدام بطريقة ما، لكن المهم في الأمر أن الأميركان تدخلوا بالفعل بعد انتهاء الحرب الإيرانية لضرب العراق ثم محاصرته ثم إسقاط صدام حسين ونظامه البعثي العلماني! وبقيت الثورة (الإسلامية)!
رابعا: وعلى صلة بما سبق، لم يكتف الأميركيون بإسقاط صدام حسين، بل عمدوا إلى تسليم العراق إلى إيران ولأحزابها الدينية الطائفية المتشددة كحزب الدعوة والمجلس الأعلى وفيلق بدر وجيش المهدي، والغريب أنهم استبعدوا الشخصيات العلمانية المقربة منهم كأحمد الجلبي وإياد علاوي رغم فوز الأخير بالقائمة الانتخابية الأولى! لقد بات من المسلمات أن النتيجة الملموسة للغزو الأميركي هي إسقاط صدام حسين وحل الجيش العراقي وتسليم العراق بالكامل لإيران، ومن غير المعقول أن نعزو كل هذا إلى الغباء الأميركي بمقابل الدهاء الإيراني.
خامسا: في ملف المعارضة الإيرانية، كانت هناك حركة مجاهدي خلق وهي حركة علمانية تأسست سنة 1965 لإسقاط الشاه، وبعد استئثار الخميني بالسلطة عملت على إسقاط حكومة الخميني ووجهت لها ضربات مؤثرة وموجعة، وقد احتضن صدام حسين هذه المنظمة في مقابل احتضان إيران لحزب الدعوة وفيلق بدر، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، لكن ما ليس طبيعيا ولا متوقعا أن يعمل الغرب لمحاصرة هذه الحركة وإضعافها، فمرة يصدر قرارا باعتبارها حركة إرهابية، ومرة أخرى يسمح للمليشيات الشيعية باستباحة مقراتها في معسكر أشرف، وقد كان المنطق السياسي يقضي باستيعابها واستخدامها كورقة من أوراق الضغط ضد النظام الإيراني وقت الحاجة.
سادسا: ملف المكونات الإيرانية، حيث إن إيران تضم شعوبا وقوميات مختلفة أكثر بكثير من الحالة العراقية، و لا يشكل الفرس في إيران إلا ما بين الخمس إلى الربع من مجموع الشعوب الإيرانية، بينما يعاني العرب والكرد والبلوش وغيرهم أقصى درجات التهميش والإلغاء، ولو كان للغرب رغبة صادقة في إضعاف النظام الإيراني فهذا هو الباب الأوسع، وقد جرب الغرب هذا في يوغسلافيا ثم في العراق وغيرهما فلماذا يتم التغاضي عن هذا الملف حتى في وسائل الإعلام؟
سابعا: ملف حزب الله، وهو الحالة النشاز بكل المقاييس، فلقد ثبت وبالأفعال قبل الأقوال أن هذا الحزب ما هو إلا الذراع الإيرانية الضاربة في العمق العربي وعلى حدود التماس مع الكيان الصهيوني، وهو بالوقت ذاته يشكل تهديدا جديا للدولة اللبنانية ونظامها وسيادتها، ومع كل هذا فحسن نصر الله لا يكف عن توزيع تهديداته وشتائمه عبر استعراضاته العسكرية وحشوده الطائفية الكبيرة، فهل يعقل أن الغرب كله قد عجز فعلا عن معالجة هذه الحالة النشاز ولو من خلال تقوية الجيش اللبناني بقيادته المسيحية وعقيدته الوطنية العلمانية! أيعقل أن حزب الله يصول ويجول من الضاحية الجنوبية إلى حلب ودرعا والقصير دون رادع لا من الجيش ولا من الحكومة ولا من المجتمع الدولي دون أن يكون له غطاء من تلك القوى العالمية نفسها؟
ثامنا: ملف الجزر الإماراتية والتي تحتلها إيران منذ عقود، وهذا الملف لوحده يكفي ذريعة لمن كانت له رغبة في التدخل لإعاقة المشروع الإيراني، خاصة أن الإمارات العربية تعد من الدول المسالمة والصديقة للغرب، فما الذي يحول بين الأميركيين وبين فتح هذا الملف مع أن الإماراتيين ومعهم مجلس التعاون الخليجي لا يفتؤون بالتذكير بحقهم في هذه الجزر؟
هناك الكثير الكثير من الحقائق والمؤشرات الداخلية والخارجية التي تثبت أن التقارب بين الشيطانين الأصغر والأكبر قد وصل إلى حد التحالف الاستراتيجي العميق قبل اتفاقهما الأخير بشأن الملف النووي.
بعد أن أصبح التقارب أو التحالف بين الطرفين حقيقة واقعة ومعلنة وانتهى بذلك الجدل الطويل بين المثقفين العرب حول طبيعة هذه العلاقة والتي كان يلفها شيء من الغموض بسبب ممارسات التقية الدينية والسياسية، بقي السؤال الأهم والأخطر وهو: ما الدوافع الحقيقية التي تقف خلف هذا الدوافع؟
من مجمل المجادلات التي تثور هنا وهناك حول هذا الموضوع يمكن استخلاص النظريات الثلاث الآتية:
أولا: النظرية البراجماتية، والتي تعتمد التفسير المادي المصلحي البحت، فالولايات المتحدة لا تهمها إلا مصالحها في المنطقة، ولا يخفى أن إيران قد فرضت نفسها بالقوة، فمع ما تمتلكه إيران من موارد اقتصادية ضخمة وموقع جغرافي مهيمن راحت تفرض وجودها في لبنان والعراق وسوريا وحتى اليمن والبحر الأحمر مع القدرة على تحريك خيوطها وخلاياها النائمة في أكثر من بلد عربي وإسلامي.
ومؤدى هذا أن الأميركيين حينما يريدون أن يحلوا أية مشكلة في هذه المنطقة الواسعة فلا غنى لهم عن التنسيق المباشر مع الإيرانيين، على خلاف الدور العربي الخجول والخافت، وقد عبر أحد المسؤولين الأميركيين عن هذا بقوله: الإيرانيون صداقتهم تنفع وعداوتهم تضر، والعرب صداقتهم لا تنفع وعداوتهم لا تضر!
وفي نظري أن هذه النظرية تأتي منسجمة مع القيم المادية السائدة اليوم والتي تعتمد المقاسات المصلحية البحتة في تفسير الأحداث، إلا أنها لا تخلو من تبسيط من الممكن أن يكتشف بأدنى تأمل، فالشاه كان وثيق الصلة بالغرب، وهو قادر على تحقيق مصالحهم مع ممارسة التغريب الثقافي داخل المجتمع الإيراني وهو الذي يضمن للغرب تحالفاً أعمق من التحالفات الرسمية الفوقية، فما الذي دعا إلى تغيير التاج الشاهنشاهي بالعمامة الخمينية؟
أما الأذرع الإيرانية في العراق ولبنان واليمن وغيرها، فلا يمكن استبعاد الدور الغربي في وجودها وتنميتها، فابتلاع إيران للعراق لم يتم إلا بالتنسيق الكامل مع الأميركيين، ومسألة تأجير الجزر الإريترية لإيران وجعلها معسكرات لتدريب الحوثيين وتزويدهم بالسلاح لا يمكن أن يتم دون إذن مباشر من البيت الأبيض، إن هذا ونحوه من المؤشرات يؤكد أن الواقع الذي صنعته إيران لم تصنعه لوحدها بل بالتعاون مع الغربيين، وكان بإمكان الغربيين أن يشكلوا الواقع بطريقة أخرى خاصة مع وجود تركيا الحليف الرسمي للغرب فلماذا تم تحجيم الدور التركي في المنطقة رغم تقدم الأتراك ونجاحاتهم المتنامية وفي الجانب الاقتصادي بالذات؟ وحتى الوضع العربي والذي كان من الممكن أن يحقق قدراً من التوازن لم يكن الغربيون بعيدين عن أسباب ضعفه وارتباكه بعد أن كاد العراقيون أن يحققوا تفوقاً نوعياً وكبيراً على إيران وبدعم مفتوح من دول الخليج، فمن الذي أجهض هذه التجربة وأوقع العرب في (داحس وغبراء) جديدة، وعلى الأقل أما كان بوسع الأميركيين -لو أرادوا- أن يعالجوا هذه المشكلة بطريقة أخرى تعاقب المعتدي وتحافظ على التوازن المطلوب بالوقت نفسه؟
ثانيا: النظرية التاريخية، وتستند هذه النظرية إلى طبيعة العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي من فجر الإسلام وإلى اليوم، حيث كان الصراع محتدماً في كل نقاط التماس مع السنة فقط، ففتح الشام ثم مصر وشمال إفريقيا ثم فتح الأندلس ثم فتح القسطنطينية والحروب الصليبية المتجددة، كل هذه المحطات كان صراع الغرب محصوراً مع السنّة فقط، بينما راح الشيعة يؤصلون للعن قادة هذه الفتوحات من أبي بكر وعمر إلى طارق بن زياد وصلاح الدين ومحمد الفاتح، وقد تحولت ثقافة اللعن هذه إلى تحالفات معلنة، يقول فيلسوف الثورة الإيرانية علي شريعتي: (من القضايا الواضحة وجود نحو ارتباط بين الصفوية والمسيحية حيث تضامن الاثنان لمواجهة الإمبراطورية الإسلامية) التشيع العلوي.. ص206، وهذا الموقف يبدو منسجماً مع ثقافة وتربية طويلة الأمد تستند إلى عنوان (يا لثارات الحسين) وهو ثأر موجه ضد الأمة وليس ضد الآخرين، والآخرون لا شك أنهم يدركون هذه الحقيقة ويفكرون بالاستفادة منها وتوظيفها بالطريقة المناسبة لتحقيق مصالحهم.
صحيح أن الغرب اليوم هو ليس غرب الأمس، فالوازع الديني لم يعد كما كان، والدولة الحديثة لم تعد تخضع لرغبات الكنيسة ورجالها، لكن هذا لا يمنع من وجود رواسب راسخة في اللاوعي تستدعي هذا التصنيف أو التفريق بين الأصدقاء التاريخيين والأعداء التاريخيين، خاصة مع وجود اللوبيات اليهودية المؤثرة والتي تعيش التاريخ بكل أبعاده ومحطاته.
ثالثا: النظرية الجيوسياسية، فإيران تشكل حاجزاً جغرافياً كاملاً بين مشرق الأمة الإسلامية؛ إندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان وبنجلاديش وبين مغربها؛ العالم العربي وتركيا، وهذه الأمة تنتسب إلى عقيدة واحدة وتاريخ واحد، وكانت تخضع لمرجعية سياسية واحدة، وإيران هي الدولة الوحيدة التي تنتمي لثقافة مغايرة تماماً وعاشت صراعاً طويلاً مع هذه المرجعية (الخلافة)، وبالتالي فإن إحياء هذه الثقافة النشاز ومدها بأسباب القوة يؤدي بالضرورة إلى بناء جدار فاصل يعيق أي تواصل محتمل بين مشرق الأمة ومغربها، وربما يكون موقع إيران هنا شبيهاً إلى حد ما بموقع إسرائيل الذي يمثل حاجزاً خطراً بين جناحي العرب الآسيوي والإفريقي.
إضافة إلى هذا فإن الغرب ربما يفكر فعلا بخلق حالة من التوازن تعتمد على معادلة الكثرة بالقوة، الكثرة للسنة والقوة للشيعة، وبهذا يضمن الغرب انشغال الفريقين بخلافاتهما الداخلية والتي ستتحول بالتدريج إلى حالة من الاحتماء أو الارتماء بالحضن الأميركي.
إن هذه النظريات التحليلية والمدعومة برصيد لا بأس من المعلومات ليست متناقضة ولا متضادة في جوهرها، والجدال الدائر حولها لا ينطلق بالضرورة من خلافات علمية موضوعية، وإنما هناك مجادلات أخرى أغلبها ذو طابع سياسي تلقي بظلالها الكثيف على هذه المجادلة، فهناك مثلاً المتورطون بمشاريع التقريب الديني والمذهبي، وهناك الحالمون بإمكانية حل المشاكل الثقافية والتاريخية المعقدة بالأدبيات والشعارات الوطنية المجردة، وهناك الذين تعودوا قبض المساعدات أو الرشوات السياسية من إيران تحت وطأة الحاجة أو الضرورة، كل هؤلاء لا بد أن يغضوا الطرف عن كل تحليل تؤدي نتائجه إلى خسارة ما ولو في الجانب النفسي أو المعنوي.
إن هذا الخلط بين المقولات العلمية والمقولات السياسية قد أضر بالعلم وأضر بالسياسة، وكان من الواجب أن يطرح العالم ما يتوصل إليه علميا بكل أمانة، ثم بعد ذلك ننتقل مع السياسيين للبحث عن الموقف الصحيح والمناسب لوضعنا وإمكاناتنا.
إن التعايش بين مكونات الوطن الواحد لا يقتضي أبداً تحريف الحقائق ولا التنازل عن الخصوصيات، بل إن أساس التعايش المتين هو الوضوح والثقة وأن يعترف كل مكون بخصوصية المكونات الأخرى وليس بالتنازل عنها أو بمحوها عن الآخر، أما سياسة (التقية) فقد أثبتت فشلها، ومن اللطيف هنا أن أذكر تعليقا ساخرا لمقتدى الصدر على تصريح لواحد من علمائنا (الوطنيين)، قال مقتدى: (سبحان الله كنا نستخدم التقية أيام صدام، صار السنة اليوم يستخدمون التقية) هكذا وصلتهم الرسالة، وهذا لا شك من شأنه أن يفقد الثقة ويقطع خيوط الحوار والتواصل وهو على عكس ما يتمناه دعاة التقريب
856 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع