ضحى عبدالرؤوف المل
الاجداد هم السلالة التي حملت بذرة حياتنا المؤجلة على امتداد الازمنة في الكون ، فهل نستطيع رؤية الجينات الوراثية بمجاهر تصويرية نرحل من خلالها داخل متاهات الزمن ، لنعرف من نحن ومن نكون؟ أم أن الصفات الانسانية تتطور مع مرور الزمن لتصبح الصورة هي لغة الماضي الذي يتركنا في دهشة فنية تترجم تفاصيل زمن نتوق للتعرف عليه،فلا نكتفي بحاسة السمع ولا بما نسمعه من حكايا واساطير وميثولوجيات.
انما الشغف لا يرتوي الا حين تستكتمل الحواس التذوق من سمع ونظر، فالعين تحتاج لرؤية جمالية الماضي المؤسس للازمنة الحاضرة والمستقبلية ، وللكثير من المعطيات التفصيلية التي تخضع لمعايير الزمن ومصطلحاته المتشابكة مع الامكنة المصورة ، والتي تحتفظ بتراثيات التقطتها عين فنان امسك بعدسة من نوع خاص، فالصور المختلفة الملتقطة لشعوب ماضية هي التراث الحقيقي الذي يؤرخ لحقبات تاريخية امتدت واتسعت، وتركت للفكر تفاصيله الفنية المحببة للنفس، والتي تروي الفضول الفني للذواقة.
تصنبفات زمنية تخاطب اعلاميا فكر الرائي، فهي تترجم التفاصيل بقدرات دلالية تطرح المفاهيم السياسية والاجتماعية، والفنية وحتى السلوكية على غرار المشهد التكويني العميق تصويريا عبر الزمن الماضي، والممتد حتى الحاضر. لأن المفهوم المرسل اعلاميا يصل من خلال المعنى الموجود داخل الصورة التي تؤرشف لحدث راسخ في ذاكرة فوتوغرافية تحاكي فنيا الحواس التي تستخلص الجمال الفوتوغرافي، والتنوعات الموضوعية الحافلة بالمفاهيم التراثية والاجتماعية ، والفلكلور، والميزة الوطنية التي ترافق الانطباعات الممتزجة بالزمان والمكان، والحركة الفنية اللانهائية، فالأجداد كمعنى رمزي هو المعنى الذي يجعلنا نمضي حيث الاجداد الاوائل نحو الحاضر والمستقبل. لنجتاز التقنيات التكوينية للصورة، ونبحث عن الموضوع واهميته بمقارنة مع الاسلوب في اظهار التفاصيل المتجانسة مع الرؤية ومعانيها المبسطة التي تنطبق على مواصفات اسلوبية ومضمونية لا تقل اهمية عن النص المكتوب ، فهي تحاكي بتفاصيلها كل ما هو جزئي وكلي مع المحافظة على المسافات الفاصلة بين الازمنة ، والديمومة الفوتوغرافية التي نحتفظ من خلالها بلحظة زمنية نسترجعها، كلما تأملنا تفاصيل الصورة الملتقطة، والزمن المجرد من التواريخ التفصيلية اللحظية المثيرة للفضول الفني عند المتلقي.
ربما سكون الحركة في اللحظة الزمنية الملتقطة تتركنا في نفحة قريبة من لحظتين حاضرة ومؤجلة. لأننا امام الصورة نشعر بوجودنا داخل الأطر الفضائية المتخيلة ذهنيا ، كما في صور هي لاحياء قديمة احتفظت الصورة بمعالمها. لترى الاجيال امكنة تختفي تفاصيلها رويدا رويدا مع الايام . الا اننا نستطيع العودة الى المشاهد اللحظية وجمالياتها، وصدقها الواقعي من حيث هيئة اللباس ، والمواقع الانية التي تحاكي الحواس وتثير الحنين للعودة الى بدايات اظهرتها الصورة لاجدادنا، وجعلتنا ندرك مدى التقنيات الزمنية والفوتوغرافية المأخوذة بلقطة مكانية تحاكي الحس الهندسي، والجمالي المتطور زمنيا ليقوم الذهن بالمقارنات بين الماضي والحاضر، وبين الثقافات المندثرة والعادات الاجتماعية المندثرة، فالارهاصات السيميائية في كل صورة هي معجم تفصيلي يتنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل .
تحاكي الصورة التغيرات والتحولات التي تطرأ على الانسان، والبيئة التي عاش فيها، فجوهر المحاكاة في نوعية الصور التي نرى فيها الاجداد عبر الزمن الفوتوغرافي هي ارجاع الذاكرة من خلال التفاصيل الفنية الثابتة ، والموجزة والقادرة على خلق متغيرات غرافيكية وتصويرية ذات ابعادتتساوى فيها درجات الضوء، ليظهر اللونين الابيض والاسود كالسالب والموجب، والبساطة المألوفة المقتطعة من لحظات عفوية. وقف فيها اجدادنا في امكنة تمسكوا بها ، وتميزوا بها كعرب لهم اصولهم وعاداتهم وتقاليدهم ، ونخوتهم الشرقية الظاهرة في صورة لها خصوصيتها كصورة القدس سنة 1980 الموجودة في موقع اجداد العرب التابع لمتحف فرحات وصورة ( صلاة الجمعة ، القدس، فلسطين) 1900في الموقع ذاته، فهي تحاكي موقعا اثريا يحافظ على الطابع القديم، والخطوط الجمالية التي كانت انذاك من مقومات دينامية قديمة تمثل لحظة مقتطعة مألوفة شعبيا من خلال منظومة تاريخية قرأنا عنها، وتؤلف تحليلات تنسجم مع المفهوم الفوتوغرافي الواضح نسبيا حيث كان يتم التحضير مسبقا لالتقاط الصورة مع الحفاظ على بناء التأثر والتأثير،كصورة كلية البنات سنة 1920التي تزدحم فيها البنات والعيون شاخصة نحو العدسة، وكأنها النقاط الاساسية التي اراد لها المصور ان تظهر وتبقى كرسالة زمنية خالدة،تحفظها الذاكرة الفوتوغرافية باتزان فني يتوافق مع الزمن والتاريخ،والعادت الاجتماعية التي تحتفظ بفلكلوريات وطنية لها تراثياتها واصولها المتبقية حتى الان.
تصويرات قديمة لها صفة الاجداد ، والبذرة التي تنمو فكريا مع الازمنة القادمة. لترى الاجيال القادمة زماننا، كما نرى زمان الاجداد، فنشعر بالفخر والاعتزاز مع الانتباه، لمحتويات كل صورة تسحبنا نحو العناصر المتخيلة التي نعيد من خلالها تركيب اللحظة وترتيبها، واعادتها لاستخلاص النتيجة، وتحليل التفاصيل الاخرى التي تجعلنا روحيا وذهنيا داخل الموضوعات الفوتوغرافية المطروحة، كمنظر بانورامي لمدينة القدس وهي تكسوها الثلوج عام ، 1920 ففي هذه الصورة نرى الابعاد الجمالية وفق انعكاسات القريب والبعيد التي تستقل فوتوغرافيا عن الفن المركب او اللحظة التكوينية المسبقة. لانها تبدو هندسيا مؤطرة لتقود العين نحو الموضوع الجمالي، لمدينة نرى فيها المجاميع الفنية كمنحوتة تحتفظ بمكنوناتها الفنية التي تقود العين حيث القواعد التكوينية المنتظمة، والمتأثرة بالتشكلات الزمانية للعناصر والموتيفات المتوازنة جماليا داخل الكادر الطبيعي كلوحة الاهرامات سنة 1902 والتي تشكل نوعا من تصوير فوتوغرافي تشكيلي تتوزع فيه الاهرامات بتناسق مع الخطوط والابعاد الطبيعية، فالصورة طبيعية تؤثر على الاحاسيس وتمنح الحس جمالي نوعا من التخيل الصامت .
يحتل الموضوع حيزا واسعا في صورة " مغربي "بجلس على الارض ببساطة مع منح الظل بعض الخطوط الموحية ، بلحظات النهار، وحيث الشمس تتوسط السماء، وكأنه في فترة استراحة يجدد من خلالها نشاطه اليوم باشعال سيكارة من تبغ، وكما في صورة الفتاة المغربية بالزي الفلكلوري المغربي الشعبي، والموضوع الفني الذي يبرز من خلاله المشهد الفوتوغرافي المتضمن اكسسوارات وزينة هي بمثابة تراث حافظت الصورة على ماهيته ، بل ومنحته لحظة استمرارية موظفة زمانيا من خلال الفتاة، وما ترتديه من لباس وزينة يوحي بقيمة اللحظة الملتقطة في الصورة الساكنة والعميقة فكريا مع المحافظة على ضبط حدود الصورة وتفصيلاتها الفنية المقروءة مرئيا.
تحتفظ صورة محل الانتيكات ( القاهرة 1890) بالعناصر والاشكال القريبة والبعيدة التي التقطتها العدسة بتناظر يظهر من خلاله الفروقات الاجتماعية التي تطغى على الخادم وسيده وعلى الاجتماعيات السائدة في ذلك الزمان مع المحافظة على فروقات الالوان الفواتح والغوامق المعكوسة على اللونين الابيض والاسود، والاختلاف التزيني الظاهر على السجادات المعلقة كجداريات منمنمة توضح الاندماجات المشهدية وتشابكاتها الفنية.الا ان لتوازنات الكتل جمالية سيمترية تجذب النظر كما في النحاسيات امام الطفل،وعلى يمينه مع المحافظة على الضوء الخفيف والتوهج للتركيز على ملامح الوجة والقواسم المشتركة في صورة تنتمي الى الانتيكات . لانها خرجت من ذاكرة فنية ودخلت المعجم الفوتوغرافي بتفاصيلها الزمنية والبصرية.
تؤكد صور" أجداد العرب" في موقع متحف فرحات على اهمية قراءة الصورة ، وتفاصيلها الايحائية المحدود واللامحدودة ، كصورة مدخل مسجد محمد علي بالقاهرة عام 1880 فالخروج عن الاطار المحدود منح الصورة اتساعا تكنيكيا حصر البصر بين بعدين او بين نقطتين على طرفي خط افقي مستقيم بمحاذاة صورة مسجد المؤيد شيخ بالقاهرة. لنشهد فن عمارة كلاسيكي يتميز بطابع اسلامي عربي، وشرقي وهندسة عمارة لا تخلو من زخرفة متقاربة زمنيا بين الصورتين، فالاستدلال الفني الانعكاسي للقيم التصويرية اجتماعيا وسياسيا وفنيا يدركها العقل الفني وتترجمها حواس المتلقي، فصورة الملك فاروق في سيارته المارسيدس المكشوفة التي اهداها له مستشار المانيا ادولف هتلر بمناسبة زواجه من الملكة فريدة عام ، 1938 فالصورة هنا هي نص مقتطع موجه للعين الثقافية الناقدة سياسيا، فالمساحات المجتزأة لتظهر السيارة كموضوع اساسي. لان الخلفية لم تحمل الا تفصيلات غير واضحة تاركة للسيارة ظهورا قياسيا مبالغا فيه من حيث القريب والبعيد، والحجم المتنافر مع لون الكتلة والتوليفات المؤثرة فنيا. لصورة تؤرخ لحدث سياسي بامتياز ما زلنا نرى فيه الملك فاروق، والحركة الايحائية لوقوفه داخل السيارة مع مرافقيه ومن حوله بتساو واقعي مع اللحظة المؤرخة فنيا .
في كل صورة نراها في موقع اجداد العرب هي من الماضي وصولا للحاضرالذي نحيا فيه حيث يبدأ تكوين زمني، لمستقبل نؤسس له بتتابع تسلسلي يظهر من خلال تقنيات الصورة ( مكانها ، وزمانها، معالمها، ملامحها، تراثها، جغرافيتها) لان الفاصل الزمني بين المشهد والمشهد هو الحاضر المرئي الذي نتابع من خلاله تفاصيل امكنة عابقة تعشش في ذاكرة بصرية نستمتع من خلالها بكل صورة نقرأها مرئيا وفنيا ، كما في صورة مدينة حماة السورية على نهر العاصي ونواعيرها الشهيرة سنة 1913،فالصورة جغرافية اجتماعية ندرك من خلالها مقدرة الشعب على التآخي، والتماسك،والعيش في اجواء توحي بالكد والنشاط، والجمال، والمحبة ، والدفء ، وايضا في صورة قلعة المرقب طرطوس سنه 1930حيث تظهر اللحظة المتسارعة، لراع يقود قطعيه متجها نحو القلعة عبر طرقات رملية توحي ببدائية عيش تخضع، لرؤية تكونت من خلال عدسة التقطت التفاصيل بتوازنات داخلية، وخارجية بحيث تظهر القلعة وعمرها الزمني مع التفاصيل الاخرى، وكأن الصورة تحاكي الازمنة في كل حين مع مراعاة زمن المتلقي في كل وقت وحين.
تتعدد الصور وتتعدد النوعيات الفوتوغرافية، والاساليب التشكيلية المرافقة لتكوين كل صورة تجعلك ترى الاجداد بعين فنية تدهش الحواس، وتتماهى مع كل التفاصيل التاريخية اللحظية، واستمراريتها مرئيا مع تناسق الفكرة والموضوع ، والمرئي مع المقروء فنيا بحيث تعطي كل صورة احساسا مفهوما يدركه العقل وتستمتع به الحواس ، كاجتذاب هندسي لا يخلو من تشكيل مرسوم بعين عدسة التقطت صورة " ساعة باب الفرج بحلب الشهباء" حيث ترتفع بخطوطها العامودية وسط ساحة لها رمزيتها الجمالية من حيث التناسق العام بين العناصر، ووجودها الديناميكي الموحي بزمان لم تكن فيه السيارات قد وجدت طريقها اليه.
صور تحاكي الذهن بقدرات فنية مختلفة تفيض بمرئيات تستوقف الرائي لها، ليتأمل التفاصيل والزوايا والنقطة الاساسية التي تنطلق منها كل عدسة، لتحدد موضوعها فيظهر كلوحة تساير الزمن ولا تقف عنده بل تتخطاه لسواه، لترى الاجيال تفاصيل الاجداد، والحياة السابقة التي نستخلص منها الفضاءات المتخيلة والواقع المتزامن مع جمالية اللحظة ، وهذا ما نراه في الكثير من الصور الموجودة في موقع " اجداد العرب " التابع لمتحف فرحات بداية من صورة " البوابة الغربية للجامع الاموي" وصولا الى نساء فلسطين اللواتي يطرزن بنقوشاتهن الملونة العباءات الفلكلورية في صورة تحاكي صلابة المرأة الفلسطينية، وجمالية الجلسات العربية لنساء شرقيات يؤسسن لاجيال تبحث عن الفن في كل موطن من الخيط والابرة وصولا لعين الكاميرا الفوتوغرافية.
http://ajdadalarab.wordpress.com/
صور اجداد العرب من مجموعة متحف فرحات
بقلم ضحى عبدالرؤوف المل
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الگاردينيا: أهلا بكِ/يا ضحى .......
842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع