ظاهرة التكفير ..قراْة تحليلية جديدة

                                      

                   الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
                        مفكر اسلامي عراقي

          

بداية هناك خلط بين مصطلح التكفير وبين معرفة الكفر وتمييزه عن الإيمان، وقد رأيت الكثير ممن يتوسع في التكفير ظناً منه أن هذا من دلائل الإيمان، حيث إن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، ومن هنا تقابل دعوات الحد من ظاهرة التكفير بنوع من الاستهجان والشك وكأنها محاولة مقصودة أو غير مقصودة لتمييع الحواجز بين الإيمان والكفر.

إن تمييز الإيمان عن الكفر ضرورة إيمانية وضرورة معرفية أيضا فعبادة الله ليست كعبادة الأصنام، والتوحيد ليس كالتثليث، ومحمد –عليه الصلاة والسلام- ليس كمسيلمة الكذاب، وهكذا، لكن التكفير غير هذا، إذ هو الحكم على شخص معين أو أكثر بخروجه من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر، وهذا الحكم تنبني عليه أحكام أخرى تمس حياة المحكوم عليه وعلاقته بأسرته ومجتمعه، وهذا الحكم يصدره القاضي بعد محاكمة علنية ومحاججة واستتابة، وهو ما لم يحصل في تاريخنا الإسلامي إلا قليلاً.

      اليوم دخلت مجموعات من الشباب المتدين فيما يمكن تسميته بفوضى التكفير، وقد ازدادت هذه الظاهرة خطورة مع انفلات الأمن في بعض البلاد الإسلامية كأفغانستان والعراق وسوريا والصومال وغيرها، وتمكن هؤلاء الشباب من امتلاك السلاح، فصرت ترى البيانات عن قتل فلان المرتد وفلان الكافر أو المنافق، مما يعني أن هذه الظاهرة باتت تشكل خطراً مضافاً على أمن المجتمع ووحدته وسلامة أفراده وحرياتهم.
لقد بدأت هذه الظاهرة كنوع من الاحتجاج على سلوك الأنظمة الحاكمة وابتعادها عن هوية الأمة وثوابتها وفشلها المركب في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية، مما ولد حالة من الإحباط واليأس من محاولات الإصلاح الجزئي أو الترقيعي.
           لجأ الشباب إلى مقولات أيديولوجية عائمة وغير قابلة للقياس مثل مقولة (الإسلام هو الحل) حتى ظن الكثير منهم أننا أول يوم سنعلن فيه الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية فإن كل مشاكل الأمة ستحل وأنها ستنقلب بضغطة زر واحدة من الفرقة إلى الوحدة ومن الذل إلى العز ومن الظلم إلى العدل وهكذا، والعقبة التي تحول دون تحقيق هذا الحلم إنما هي الحكومات القائمة لا غير، حتى قال أحد المشايخ المعروفين: لو خلّت الحكومات بيننا وبين فلسطين ستة أيام فإننا في اليوم السابع سنصلي في القدس!
     هذه الطريقة في التفكير قادت بالنتيجة إلى إعلان الحرب بشكل أو بآخر على الحكومات، وكان الشكل الأخطر هو تبني مقولة التكفير كمحاولة لنزع الشرعية الدينية ظناً من هؤلاء الشباب أن الشعوب الإسلامية ستنتفض معهم فور معرفتها بكفر حكوماتها! لكن الصدمة كانت قاسية حيث إن الشعوب لم تكن تعلم شيئاً عن هذه المجادلات أصلاً والتي لم تكن تدور إلا في غرف مظلمة ومساحات ضيقة ومحدودة، تفاجأ الشباب أولاً بمواقف رجال الأمن والجيش والإعلام ثم في شرائح المجتمع الأخرى خاصة القضاة والعلماء، وهكذا وجد الشباب أنفسهم في مواجهة مفتوحة ليس مع الحاكم فقط بل مع كل أجهزة الدولة وموظفيها إلى آخر شرائح المجتمع حتى بائع الصحف المتجول.
     إن المسألة اليوم قد تجاوزت مشاريع التغيير المسلح على خطورتها إلى حالة من الحقد على المجتمع الذي لم ينهض معهم في مناصرة (الحق ضد الباطل) أو(الإسلام ضد الكفر)، وهذه الحالة النفسية المأزومة هي التي تفسر تهاون هؤلاء في استباحة الدماء وبأدنى ذريعة، فلقتل مسؤول أمني واحد يبيحون لأنفسهم تفجير عمارة سكنية بكل من فيها، أو استهداف المسجد الذي يصلي فيه وإن كان مليئاً بالمصلين، كما حصل بالفعل باستهداف النائب العراقي سلام الزوبعي في المسجد عند صلاة الجمعة وراح ضحية الحادث عشرة من المصلين بينهم خطيب الجمعة عدا الجرحى، وقد قابلت اثنين من الجرحى ورويا لي الحادث بالتفصيل والعهدة عليهما طبعا.
      وبالانعزال عن العلماء والتشكيك بفتاواهم وتوجيهاتهم راجت ثقافة أخرى يقودها أشخاص أبعد ما يكونون عن التحصيل العلمي والتأصيل الشرعي، وكل بضاعتهم خطابات تعبوية وعاطفية تستغل نزعات التمرد لدى فئات عمرية محددة، ثم ساءت الأمور أكثر بعد سلسلة من الملاحقات والتضييقات الأمنية حتى ظهرت أسماء وهمية لقيادات سرية لا تستطيع أن تعرف شيئاً عن مؤهلاتهم العلمية أو التربوية، ومثال ذلك من لقب نفسه بأمير المؤمنين أبو عمر البغدادي القرشي! والذي قضى بعملية أمنية من قبل القوات الحكومية المدعومة من الطيران الأميركي، ولحد هذه اللحظة هناك خلاف داخل البيئة القريبة من الحدث حول اسمه الحقيقي وشخصيته، وأغلب الشائعات على أنه رجل أمن مستقيل أو مفصول من أيام صدام حسين، وأما خليفته أبو بكر البغدادي فأغلب المعلومات أنه شاب من مواليد 1971 خريج جامعة صدام للعلوم الإسلامية، وسواء صحت هذه المعلومات أم لا فإننا أمام حالة خطيرة حيث تؤخذ البيعة من قبل الشباب لأمير لا يعرفون اسمه ولا وجهه ولا مؤهلاته، ثم هم ملزمون بالسمع له والطاعة، ومن يسأل أو يتردد أو يخالف فقد نكث البيعة وخلع ربقة الإسلام من عنقه! ووفق هذه المعادلة الضبابية والمعقدة فلا شك أن إمكانية الاختراق واردة جدا، وهناك أكثر من مؤشر على حصول حالات اختراق فعلية لاسيَّما من المخابرات الإيرانية، حيث يتناقل الناس في العراق قصصاً كثيرة بهذا الشأن، فقد أشيع مثلا أن الذي كان يفتي بذبح علماء السنّة هو رجل شيعي من أهل النجف! وقد حدثني رجل من أهل الفلوجة أن ابن عمه كان قد تورط مع هؤلاء وقد جرح في إحدى العمليات ثم كانت صدمته حينما أخذوه للعلاج في مدينة المحمرة (خرمشهر)، وهناك حوادث كبيرة وذات دلالات أبعد ومنها تدخلهم بإطلاق سراح القنصل الإيراني في العراق بعد أن تم أسره من قبل الجيش الإسلامي، وكل هذه المؤشرات قد تجيبنا على سؤال:
لماذا استهدفوا السعودية والأردن واليمن ومصر بعشرات العمليات ولم يغلطوا مرة واحدة مع إيران؟

وإذا كانت إيران قد تمكنت بالفعل من اختراقهم، فما الذي يمنع من اختراقات أخرى ومن جهات إقليمية أو دولية؟
     إننا إذاً لا نناقش التكفير كظاهرة من ظواهر التطرف الفكري فحسب، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى حالة من الاختراق الخطير سياسياً وأمنياً ومجتمعياً، والواجب يتطلب أن تتضافر الجهود لتطويق هذا الاختراق، حماية لمجتمعاتنا وتحصيناً لشبابنا، بل ولمعالجة هذه الظاهرة من داخلها أيضا، فهم أولا وأخيرا أبناؤنا وفلذات أكبادنا، وإنما دفعهم لهذا السلوك ضعف في بنية المجتمع الثقافية والتربوية وإخفاقات بائسة ومتكررة في مختلف المجالات، والحل إنما يبدأ بفتح المجال لتساؤلاتهم وهواجسهم والإجابة عنها بكل موضوعية وشفافية كما فعل علي بن أبي طالب مع أسلافهم بعد أن كفروه وحملوا عليه السلاح فأرسل إليهم حبر الأمة عبدالله بن عباس فرجع منهم نحو ألفين في مناظرة واحدة، ومن الجدير ذكره هنا أن مناظرة ابن عباس كلها كانت تدور حول الحكم والجهاد والمفاوضات السياسية، وهي ذاتها مدار النقاش أو الجدال اليوم!
       الفكرة الأولى التي يستند إليها التكفيريون قديماً وحديثاً هي فكرة سياسية متعلقة بنظام الحكم وعلاقته بالشريعة الإسلامية، وكان خلافهم الأول مع الخليفة الراشد علي بن أبي طالب وخروجهم عليه لأنه رضي بتحكيم البشر! وهو في نظرهم مناقض لصريح القرآن: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" المائدة 44، وقد كشف لهم ابن عباس أن تحكيم البشر وارد في القرآن نفسه من مثل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ" المائدة 95، و"وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا" النساء 35.
      لقد كشف ابن عباس في هذه المناظرة أن هناك مساحة لا يمكن للوحي أن يتدخل في تقديرها مثل تحديد النفقة والفدية والعوض، وتقدير المواقف والمفاسد والمصالح، ونحوه اختيار الولايات والكفاءات والوظائف العامة والخاصة، وهي مساحة لا تقل أهمية عن الحكم الشرعي نفسه، وهذه كلها تحتاج إلى الخبرات البشرية، والخبرات هذه لا تكتسب الصيغة الملزمة بذاتها ما لم توضع في قالب تشريعي، وهذا هو معنى التحاكم إلى البشر الذي أنكره التكفيريون على علي بن أبي طالب، وهذه المسألة بالذات تتطلب فقهاً دقيقاً ووعياً بفلسفة التشريع الإسلامي لضبط العلاقة بين مساحة (الحكم الإلهي) ومساحة (الحكم البشري) ضمن الدائرة الأوسع وهي مساحة (الحكم الشرعي)؛ لأن الحكم الشرعي لا يمكن فهمه على أنه مجموعة من النصوص الإلهية المقدسة فحسب بل فيه قدر كبير من الاجتهاد والتقدير البشري، وهذا هو الذي يفسر ظهور المذاهب الفقهية المختلفة في آلاف المسائل الفقهية (الفقه)، بل وفي قواعد الاستنباط أيضا (أصول الفقه).
     لقد تمكنت مناظرات ابن عباس ثم الجهود العلمية الكبيرة في تاريخنا الإسلامي المديد من محاصرة ظاهرة التكفير وربما القضاء عليها، لكن الذي حدث أن البنية الثقافية والمعرفية للمجتمع الإسلامي قد تخلخلت بعد سقوط الخلافة وظهور انعكاسات الغزو الثقافي الغربي على شكل أحزاب أو تيارات تنادي صراحة بعزل الشريعة الإسلامية والاعتماد على منجزات الخبرة البشرية المعاصرة، وهذا التطور الخطير والذي طال بالفعل قواعدنا الداخلية في التعليم والإعلام وصولاً إلى هرم الحكم كان لا بد أن يقابل بردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فكانت الفتاوى بتكفير الدعوات العلمانية والتغريبية، ثم تبلورت هذه الفتاوى على شكل نظرية أو نظريات ظهرت في كتابات المودودي وسيد قطب وتقي الدين النبهاني وغيرهم، وربما كان كتاب (جاهلية القرن العشرين) العنوان المعبر عن هذه النظرية، فهو قد استعار معركة الإسلام الأولى مع الجاهلية ليقول لنا: إن المعركة قد عادت من جديد.
      تأثرت سريعاً الشام ثم العراق ثم المغرب العربي بهذه النظرية، وأنتجت فعاليات ثقافية وتنظيمية مختلفة، بيد أن من المفارقات الغريبة أن تتأخر الجزيرة العربية وهي مهبط الوحي وتركيا وهي عاصمة الخلافة! ويبدو أن الجزيرة لم تكن متناغمة تماماً مع مركز الخلافة بل كانت هناك خلافات مذهبية وسياسية وصلت إلى حد الصدام المسلح، وبالتالي فلم تكن ردة الفعل على سقوط الخلافة بمستوى المناطق الأخرى، كما أن الجزيرة لم تتأثر بموجة التغريب التي شهدتها مصر والشام والعراق، وهذا عامل آخر، أما تركيا فيبدو أن الشعب التركي لا يتحرك بردود الأفعال السريعة كما هو حال العرب، ومن الواضح من كتابات سعيد النورسي وفتح الله كولن وسياسات أربيكان ثم أردوغان أنهم يحاولون الجمع بين مشاريعهم الإسلامية من ناحية ووحدة النسيج التركي واستقرار الدولة من ناحية أخرى، وهذه خبرة يفتقر إليها العرب بلا شك.
     حافظت النظرية لعقود طويلة على سمتها السلمي سوى بعض الخروقات هنا أو هناك، إلا أن التطور الخطير قد جاء من هناك من جبال تورابورا، حيث تهيأت الظروف لتعانق طويل بين النظرية والسلاح، وهناك نستطيع القول: إن النظرية لم تتطور تطوراً طبيعياً ومدروساً بل تعرضت لانقلاب حاد، فأسامة بن لادن والذي أخذ النظرية عن أحد رجالات الإخوان وهو الشيخ عبدالله عزام قد انقلب بعد شيخه على رموز النظرية ودعاتها ودخل في حرب ضروس مع سياف وحكمتيار ورباني، ثم انقلب على جزيرته العربية ليؤسس لنظرية جديدة تعتمد على مقولتين (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) و(شرك القصور أشد من شرك القبور) ثم تعقدت الأمور أكثر على يد الظواهري ثم البغدادي، والذي أعلن انشقاقه عن الظواهري؛ لأن الأخير ما زال متأثراً برواسب سايكس بيكو ويرى فصل الجهاد في العراق عن الجهاد في الشام!
      إن الصراع لم يعد منحصراً بين (دعاة الحاكمية) و(دعاة العلمانية) بل تعداه إلى صراع داخل مدرسة (الحاكمية) نفسها، ومن قتل في أفغانستان في صراع القاعدة وطالبان من جهة والجماعات الجهادية الأخرى ربما لا يقل عن من قتل من الإسلاميين كلهم على يد الحكم الشيوعي الموالي للسوفيت، كما أن من قتل من الإسلاميين العراقيين على يد القاعدة يفوق بأضعاف كثيرة من قتل منهم على يد الحكومات العلمانية منذ سقوط الخلافة وحتى سقوط بغداد!
       إن هذا الاحتراب له أكثر من تفسير، وقد يكون الاختراق الأجنبي وارداً بقوة، لكن هذا لا يلغي أصل الخلاف، فـ(الحاكمية) أجابتنا عن حق الله في الحكم، وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، لكنها تركت فراغات واسعة وتساؤلات ميدانية ملحّة دون حل مثل:

1 - هل يمتلك الإسلاميون صلاحية فرض الحكم الإسلامي بالقوة؟ أو لابد من التدرج في الخطوات وسلوك الطرق الدعوية والتربوية لإصلاح المجتمع، ومن ثم ننتظر التغيير الطبيعي، حيث إن المجتمع الصالح سيفرز بالضرورة حكومة صالحة؟

2 - وإلى أن يتم التغيير بالقوة أو بغيرها، وهذا قد يتطلب عقوداً من الزمن، كيف يتعامل المسلم مع نظام الدولة وقوانينها؟ وهو لا يمتلك إلا واحدة من اثنتين؛ الالتزام بالنظام أو التمرد والفوضى؟

3 - إذا سمح النظام للإسلاميين بمشاركته في السلطة، أو بمنافسته عليها في صناديق الاقتراع، هل يجرب الإسلاميون حظهم أو أن هذا معناه تحاكم إلى الطاغوت، وعرض لحكم الخالق على تصويت المخلوقين؟ ولو أنهم وصلوا بالفعل فهل يجوز لهم فتح المنافسة من جديد والتي قد تهدد بوصول خصومهم العلمانيين وضياع الفرصة لبناء الدولة الإسلامية أو الخلافة المأمولة؟

4 - إذا نجح الإسلاميون في تشكيل دولتهم الإسلامية، فكيف سيتعاملون مع المجتمع الدولي والأعراف السياسية العالمية، هل سيطبقون ما قرره الفقهاء من تقسيمات لدار الحرب ودار الإسلام أو أنهم سينتجون فقهاً جديداً يتواكب مع متطلبات العصر؟

5 - إذا اختار الناس حاكماً أو حزباً لا يحمل المشروع الإسلامي، فما حكم هؤلاء الناس؟ وكيف نتعامل معهم؟

6 - في الدول (الكافرة) التي يعيش فيها المسلمون كجالية أو أقلية كيف يتعاملون مع سياساتها وقوانينها؟ وما انعكاسات ذلك على وجودهم ومستقبلهم؟

7 - وأخيراً فهل الخلاف حول هذه الأسئلة وتفريعاتها يعد خلافاً اجتهادياً يدور بين الصواب والخطأ؟ أو هو خلاف عقدي يدور بين الإيمان والكفر؟

          إن هذه التساؤلات ونحوها تشكل أساساً كبيراً للتمايز بين التوجهات الإسلامية المعاصرة، وحينما نفتقد لغة الحوار والبحث العلمي الموضوعي، فستظهر الحلول الأخرى بالسباب والشتائم أو بالعبوات والمفخخات.
             إذا كانت مسألة (الحكم) قد أدت عند هؤلاء إلى تكفير الحكام فإن هناك مسألة أخرى قد أدت عندهم إلى تكفير المجتمعات والأفراد وهي مسألة (الولاء والبراء)، فإذا كان الحاكم قد كفر بمقتضى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة 44، فإن الأمة التي توالي هذا الحاكم قد كفرت بمقتضى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة 51.
    هذه مقولات مركزة ومبسطة وصلت إلى عقول الشباب وقلوبهم وأصبحت من الثوابت والمسلّمات الدينية التي لا تقبل الخلاف أو النقاش، وإذا كان العالم المختص يرى من واجبه الغوص في التفاصيل والمآلات على ضوء قواعد الاستنباط وشروط التنزيل فإن غيره يميل دائماً إلى المواقف الواضحة والحاسمة التي لا تكلفه جهداً ولا اجتهاداً، ومن هنا نرى الفجوة الكبيرة التي حصلت في هذا الموضوع بالذات بين العلماء وبين هؤلاء الشباب، حتى صار الأصل في العلماء عندهم أنهم «علماء السلطان»، ومع وجود نماذج من هذا النوع بالفعل فإن مهمة هؤلاء الشباب في التخلص من رقابة العلماء وتعقيداتهم قد أصبحت أكثر يسراً وسهولة، لكنه قد فات هؤلاء أنهم سيقعون فيما فروا منه، فأي حكم إسلامي ذلك الذي يكون بلا علم ولا علماء؟ والقرآن يقول: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء 83، أي الذين يتمكنون من شروط الاستنباط وأدواته وهم العلماء الذين قال عنهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «العلماء ورثة الأنبياء»، فتجاوز العلم الشرعي معناه بالضرورة تجاوز الحكم الشرعي نفسه.
    إن تكفير الشعوب والمجتمعات بقواعد الولاء والبراء لا يخلو من جهل مركب وقلة بضاعة في فقه الدين وفقه المجتمع، ولنقف مع هذه النماذج القرآنية الثلاثة:
      النموذج الأول: عبد بنو إسرائيل العجل، وهذا كفر صريح لا جدال فيه، إلا أن هارون -عليه السلام- وهو نبي ورسول قد رأى البقاء معهم والحفاظ على وحدتهم {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا*أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي*قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} طه 93-94، وهذا مقصد شرعي قلّ من ينتبه له وهو الحفاظ على وحدة المجتمع أيام الفتن إلى حين توفر عناصر الإصلاح أو العلاج، وعليه فلا ينبغي تفسير هجرة الأنبياء تفسيراً عقدياً، فالخلاف العقدي بمفرده لا يقتضي الهجرة، ولذلك عاتب الله يونس –عليه السلام- لأنه ترك قومه مع ما هم عليه من الشرك، فعاد إليهم نادماً ليمارس دوره في الإصلاح من داخل المجتمع وليس من خارجه، وهذا إبراهيم –عليه السلام- الذي كان يعيش مع آزر وقومه ويخاطبهم بكل لطف ولم يقرر الهجرة إلا بعد أن أضرموا عليه النار، ولم تكن هجرة رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- استثناء من هذا، فهو لم يهاجر مع صحبه الكرام إلا بعد ازدياد أذى قريش عليه وعلى أصحابه، وهذا كله يعني أن تعايش المسلمين مع غيرهم على أرض واحدة وفي مجتمع واحد لا غبار عليه وليس له علاقة بموضوع «الولاء والبراء».
      النموذج الثاني: من الواضح في قصة يوسف أنه –عليه السلام- جاء بمهمتين مقترنتين؛ دعوة الناس إلى التوحيد وهذا واضح من حواراته مع المسجونين وغيرهم، ووضع خطة عملية لإنقاذ الناس من الجوع وإن كانوا على دين آخر، وقد تطلبت المهمة الثانية المشاركة في حكومة غير إسلامية ومخالفة لعقيدة التوحيد وقد صرّح القرآن بهذا فقال: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، وهذا يعني صراحة أنه قد اشترك دينان مختلفان في حكومة مصر والغلبة فيها والكثرة لدين الملك وليس لدين يوسف.
     النموذج الثالث: يقول القرآن في العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وأهل الكتاب: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة 5، فلو كانت المفاصلة أو (العداوة) شرطاً في صحة العقيدة فكيف يجوز للمسلم أن يتزوج من يهودية أو نصرانية؟ كيف يتزوجها وهو يفاصلها أو يعاديها؟ وقد قال القرآن عن الزواج بشكل عام {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهو شامل للزوجة الكتابية بلا شك.
           من هذه النماذج وغيرها كثير يتضح أن هناك مساحة واسعة بين الدائرتين، دائرة البراءة الواجبة من المشركين ودائرة الموالاة المحرمة لهم، وفي هذه المساحة تزل أقدام الكثير من الخائضين في هذا الخضم.
          إن عقيدة المسلم متميزة ومتمايزة عن كل العقائد الأخرى، لكن المسلم لم يخلق ليعيش بعيداً عن هذا العالم المركّب والمليء بالديانات والثقافات المختلفة، بل الإسلام يحمّل المسلم رسالة الرحمة بكل جوانبها لكل العالمين، ويخطئ من يظن أن هذه الرسالة محصورة في دعوتهم للحق وترغيبهم فيه، بل القرآن ينص على البر بالمخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} الممتحنة 8، والبر كلمة جامعة لكل معاني الخير، ويدخل فيها صلة الرحم وحسن الجوار ونجدة الملهوف والدفع عن المظلوم ورعاية اليتيم وعلاج المريض.. إلخ وهي كذلك تشمل ما يسمى اليوم «الأخلاق التواصلية» الابتسامة والهدية والزيارة والوفاء وحفظ العهد.. إلخ وهذا كله محفوظ عن رسول الله وصحبه.
      وأما ما ورد من الشدة والغلظة فهو استثناء لضرورة الحرب مثلا {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} الممتحنة 9، أو لضرورة إقامة الحدود على المجرمين {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} النور 2، فهناك أصل وهناك استثناء، وسوق النصوص بطريقة انتقائية ومزاجية يعد مجازفة خطيرة بحق الدين نفسه وبحق المجتمع أيضاً.
    في مقابل كل هذا ينبغي أن لا نغفل حاجة المجتمعات المسلمة نفسها إلى خبرات الآخرين ودعمهم ومساندتهم في مختلف المجالات كالصحة والتعليم والصناعة والزراعة ودفع المخاطر المشتركة كالكوارث الطبيعية والأوبئة وما إلى ذلك، وهناك أيضاً حاجة الجاليات والأقليات المسلمة للنظام العادل ولو كان كافراً حيث يتعذر مطالبتهم بنظام إسلامي، ورفض النظام بالجملة معناه ضياع حقوق الناس وإشاعة الفوضى، ومن هنا فمشاركة المسلمين في السلطات الثلاث لا مناص منه لضمان حقوقهم ورفع الظلم عنهم.
      واليوم هناك تحديات تواجه الدول المسلمة أيضاً في ظل هيمنة ما يمكن تسميته بالحكومة العالمية، فهناك القوى الكبرى والمنظمات العالمية الفاعلة والأعراف الدولية.. إلخ وربما كان خراب أفغانستان ثم العراق وغيرهما بسبب محاولتها الخروج عن هذا السقف العالمي، وهذا كله يعطي الدول فضلا عن الأفراد مرونة تضبط التوازن بين المفاسد والمصالح في هذا الوضع الاستثنائي الخطير.
      إن هذه المساحة الشاسعة والمتموجة لا يمكن أن تضبط باللونين الجامدين الأسود والأبيض ولا بالثوابت والمسلمات، وهنا تتدخل ظروف التاريخ والجغرافية والمجتمع والعلاقات وتوازن القوى أكثر بكثير من دخول الأحكام والنصوص المجردة، وليس كل الناس لديهم القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح في ظل حالة الجهل والضعف العام والانقسامات الحادة، والتكفير بكل الأحوال لا يمكن أن يكون علاجاً أو حلا بل هو أداة أخرى من أدوات الضعف والانقسام والاحتراب الداخلي.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

503 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع