د. سيّار الجميل
يبدو العراق مثل غابة يتحكم فيها الضواري والقرود .. ولم يعد في العراق اية مقاييس للغباء والذكاء .. او الحق والباطل .. او الغيرة والنذالة .. او المحافظة والانفلات .. او قيم وطنية ازاء فوضى الانقسامات. اذ يأكل الحكم المتسلط قوة الاحرار من خلال المال والسلطة والترهيب والترغيب ، ومع وجود الكلمة الشجاعة وهموم المعارضين الاخرين من النزهاء المتمدنين والاذكياء والساسة الوطنيين الاشداء ، ولكن المحنة اشد ، وان العراقيين في دوامة ليس باستطاعتهم الخروج منها ..
دعوني اقول : ان لا عدالة ولا نزاهة في الانتخابات التي ستجري ، والتي يلهج بذكرها اغلب العراقيين ، فهي غير دستورية ابدا بحكم الخلل في الدستور ، والاستمرار في عملية سياسية خاطئة ، وبحكم فشل الحكومة في الاداء واخفاقاتها التي لا تعد ولا تحصى ! العراقيون اليوم ينقسمون ازاء الانتخابات الى مصفقين ورافضين ومهادنين .. مصفقون لها لضمان ابقاء النظام الحالي مهما كان الثمن ، او لإنهاء النظام بهدف تغييره الى نظام سياسي آخر . ورافضون للانتخابات بحكم مخالفتهم للنهج والدستور والعملية السياسية برمتها . ومهادنون للأقوى وهم الاكثرية ، وهم يبصمون لكل متسلط يجدون مصلحتهم قد تحققت عنده !
ان " العملية السياسية " الحالية قد جرّت على العراق نكبات وكوارث وبلايا ، وقد اختبأت وراء شعارات "الديمقراطية" اوبئة خطيرة كالمحاصصة والطائفية والانفراد بالسلطة . وعليه ، فمن الخطورة جعل ماراثون الانتخابات هدفا تاريخيا ، وان لا تعلق الامال العريضة عليه ابدا من دون ثورة وتغيير حقيقي .
ان تحقيق حلم الشرفاء الوطنيين في هذه الانتخابات يعد من رابع المستحيلات ، ليس لأن المالكي سيبقى في السلطة ، فسواء بقي ام رحل ، فأن نوعيات المرشحين حتى الان هي مخيبة للآمال ! ومن اخطاء العراقيين ، انهم لم يتعلموا اي درس من تجربتين انتخابيتين فاشلتين سابقتين ، ولم يفكروا في معادلة غير مستقيمة الابعاد ابدا بين وعاة وجهلة ، بين متمدنين ومتزمتين ، بين وطنيين وانقساميين ، بين طائفيين وعراقيين.. بين دينيين ودنيويين .. بين ملالي ومتنورين ، بين فاشلين مفضوحين وجدد غير معروفين .. الفاسدون حكموا فملكوا المال والقوة والكل يدرك افتقادهم الوطنية والكفاءة والمهنية والذكاء السياسي .. العدالة غائبة ، قوة الاخلاق منهارة ، القيم منحلة ، وكلها هي الحلقات الاضعف للفاسدين المهيمنين على العراق !
لقد فتحت الانتخابات كل الابواب امام ساسة قدماء وساسة جدد .. خليط من فاشلين في حكم البلاد ، وجدد لا نعرف عنهم شيئا .. وثمة قتلة وعابثين ووصوليين ومرتزقة وعاوين في كل مكان .. لقد بدأ ماراثون شبيه بالذي كان عام 2010 او ذاك الذي سبقه ، اذ يتدافع المرشحون لدفع الاثمان من اجل الوصول الى كرسي النيابة والقفز منها الى سدة الحكم وبقاء السياقات المألوفة دون تغيير جذري ثوري .. الصراع اللا اخلاقي يحتدم بعيدا عن السياسة الحقيقية والتنافس السياسي الشريف .. سياقات تبدو مألوفة عراقيا اليوم : بيع ضمائر وشراء مواقف وتسويق اكاذيب ورشوة متعهدين ورشي فضائيات وتشويه شوارع وتفعيل كواليس وتبويس لحى ورمي نعل وهز عكل وتلميع وجوه وتقليم اظافر .. واندلاع مشادات وعقد اجتماعات مع مشاورات وصرف اموال مع اقامة ولائم وبذخ عزائم .. في حين يستمر مسلسل التفجير والقتل والاقصاء والتهجير والترويع وتشويه سمعة الناس .. وغيرها من الموبقات .
العراق اليوم ساحة تزدحم بطلاب السلطة وتوزيع المال وعشاق الصفقات وتوزيع الادوار وشراء المناصب ورمي الاخرين وقتل الشرفاء وتغييب الاحرار واقصاء المعارضين .. ساحة تزدحم بملالي وسادة وشيوخ دين وشيوخ عشائر وبقايا نظام سابق ولقطاء وسماسرة ومحجبات وبدلاء وحراسات وطفيليين وحواسم وضعفاء نفوس واذلاء وطلاب مناصب وسلطات وجاهات .. مع تافهين وتافهات لم تكن لهم اية تواريخ ولا سير عالية المستويات ولا ثقافة ولا اي نقاط بدايات ! ولا يعرفون الديمقراطية التي يتسلطون باسمها ! وقطعان من الكتّاب المرتزقة والسلبيين يدافعون هذه " الديمقراطية" التي كانت كسيحة واصبحت وباء يأخذ بخناق العراقيين ! وتصفق لها الالاف من المطيعين ذي العضاريط الرعاديد – كما وصفهم المتنبي - !
وهي ساحة يقل فيها ابناء النخب من مثقفين ومبدعين ومناضلين حقيقيين ومستنيرين متمدنين واداريين منضبطين واقتصاديين كفوئين.. ومن ساسة حاذقين في صنع القرارات ، ومن خبراء ومستشارين اذكياء يعرفون مواطن الصواب والخطأ مع تقدميين واناس لهم تواريخ وطنية مجيدة ومواقف مبدئية رائعة ، واغلبهم في حالة ضياع وسط هذا الهيجان والفوضى .. الذي يفتقد فيه الانسان الحضاري حريته وكرامته .. ولا ادري كيف سيتصرف فيه الشرفاء والاحرار والنزهاء والمتمدنين والمبدئيين والوطنيين في سباق لا عدالة فيه ابدا ولا برامج من اجل الخدمة العامة ..
اغلبها ، اسماء مجهولة ليس لها اي ماض سياسي ولا اي تاريخ ناصع ولا اي عمل خيري ولا اي كلمة منشورة .. نسوة مرشحات لا ندري من اين جئن كي يصبحن مشرعات ؟ مع شهادات مزورة وسوء تأهيل .. قبل قليل كنت اتابع على التلفزيون وزيرا عراقيا حاليا والمذيع يخاطبه عدة مرات بلقب ( دكتور ) وهو ساكت من دون ان يصحح للمذيع وصفه ، فالوزير لا يحمل شهادة دكتوراه ابدا ، فكيف تقبل اخلاقه ان ينعت بلقب دكتور امام العالم وهو لا يحمله ابدا ، انني اتحداه ان قدّم للعالم اطروحته الجامعية عن جامعة معترف بها .. فكيف يرشح لدورة قادمة مع سيده الذي يقدمه البعض بهذا اللقب وهو ساكت ! هل يتمتع هذا الوزير بحسن الاهلية والاخلاق ؟
ماذا قدم هؤلاء على مدى ثماني سنين حتى يرشحوا انفسهم من جديد ؟ ان المشكلة العراقية خطيرة ودعونا ننتظر النتائج المرة ! ان من يصّر على ان هذه الانتخابات ستقود الى التغيير ، لا يمكن محاججته ابدا، ولكنني اتمنى ان نبقى احياء لنرى ما ستقود اليه هذه المسرحية الهزلية وموعدنا السنة القادمة لنرى حجم الكارثة الرعناء .. ان العراق في محنة تاريخية صعبة ، وسيمر بمرحلة قاسية ، وربما ثمة مفاجأة تقلب الحالة السياسية رأسا على عقب وذلك تابع لما سيتوالد في المنطقة من احداث .
ان العملية السياسية فاشلة منذ منبتها .. ان الاحزاب السياسية الحقيقية لا يمكنها منافسة كتل وميليشيات وعصابات ! اذا كنا لم نجد حتى الان أية برامج حقيقية للتغيير فما نفع ما يجري ؟ اذا كان العراقيون قد سكتوا على انتهاكات وفساد وجرائم وقرارات وتشريعات تعيسة لثماني سنوات ، او تجدهم ضدها قولا ومعها قلبا وقالبا ! فما سر التناقض الذي يحكم هذه المعادلة اللا اخلاقية ؟ ان من اكثر الامور المثيرة للغرابة ان تسكت المرجعية الدينية على كل الاهوال التي اقترفها نظام الحكم ، ولا نسمع صوتها الا كل اربع سنوات وهي تشجع على الانتخابات !
ان العراق بحاجة الى ثورة تغيير حقيقية تحاكم كل الجناة والفاسدين والطغاة والعابثين والمتواطئين والخونة والقتلة الذين سحقوا العراق وسرقوه ومزقوا شمل العراقيين .. فكيف بهم وهم يرشحون ثانية لدورة جديدة ؟ ثورة تعيد للعراقيين لحمتهم وسداهم . ثورة تبني دستورهم المتمدن وتلغي المحاصصة وتؤسس للامن وتطلق الاحزاب السياسية بديلا عن الاحزاب والميليشيات الطائفية وتعمل على بناء ديمقراطية مقيدة بالقانون والدستور .. وتشترط على المرشحين قاطبة ان يكونوا اكثر التزاما بالقيم والمثل الاخلاقية .. انني لا اريد ان اشكك ببعض المرشحين الوطنيين ، وبعضهم من اصدقائي واتمنى لهم الانتصار والنجاح في مهمتهم النضالية وهم من تيارات سياسية مختلفة ، ولكن ارجوهم مخلصا بأن يؤلفوا جبهة عريضة من المعارضة السياسية في حال عدم فوزهم ، وان لا يشاركوا في اية حكومة قادمة ستبقى القديم على قدمه !
واخيرا ، اسئلة حقيقية اريد ان يجيب عليها كل العراقيين ، وهي اسئلة واقعية ، ولكن اجاباتها تفيد قائلة بأن الانتخابات التي ستجري هي غير شرعية : لماذا يعيد من هو في السلطة ترشيح اسمه ما لم يثبت انه لم يلوث نفسه في الفساد مهما كان نوع ذلك الفساد ؟ وهل قدم اي مرشح برنامجه السياسي والتنموي والخدمي المستقبلي للعراق حتى يمكن ان يدافع عنه امام الناس ؟ وهل باستطاعة كل من يشيع الدعاية لنفسه في الانتخابات ، ان يعلن ويقسم امام الله وامام الملأ ان يكون عمله النيابي خيريا ، ولن يتقاضى اي اجر ولا اي مال خاص او عام لقاء خدماته نائبا في البرلمان ؟
كيف تكون الانتخابات شرعية اذا كانت قد مضت اكثر من ثماني سنوات على دستور تضمن تصويب ما فيه من خلل خلال اشهر ؟ وكيف يتم ضمان اية نزاهة للانتخابات التي ستجري في ظل حكومة يرشح اعضاؤها في الانتخابات من جديد وهم في اعلى هرم السلطة ؟ واية مشروعية لانتخابات برلمانية تجري في ظل غياب او غيبوبة رئيس البلاد ؟
823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع