د. خالد السلطاني:عندما عرض الإخوان "لوميير" The Lumière Brothers ، شريطهم السينمائي المدهش في سرداب (الطابق التحتاني) لمبنى "غراند كافيه" Crand Cafe، بالقرب من ساحة الأوبرا في وسط باريس، اعتبر ذلك العرض الذي تم في أواخر عام 1895، (وتحديدا في 28 كانون الاول)، أول عرض سينمائي في التاريخ.
ومع ان "أمكنة" العروض السينمائية، تمت لاحقا في فضاءات مباني المسارح المشيدة، المتسمة عمارتها بثراء التفاصيل وتنوعها، العاكس لمزاج خصوصية العروض المسرحية وطبيعتها التمثيلية، فان نوعا مبتكرا من المباني، سيظهر لاحقا، ليؤشر ميلاد حدث "تايبولوجي" جديد،
سيتكفل به المعمار الألماني الشهير "اريخ مندلسون" (1887-1953)، عندما صمم ونفذ مبنى سينما "يونفيرزوم" في برلين (1927-31)، ذلك المبنى، الذي نأى مندلسون، ذو التوجه التعبيري، به عن الأساليب العادية المستخدمة في تكوينات قاعات العرض، طارحاً لنا مفهوماً مبتكراً في تنويع المباني الجديدة.
ففي تلك "السينما"، لا توجد عناصر تقليدية مثل الأروقة والاطناف، كما لا توجد مصابيح بلورية، وليس هناك مخمل او أجزاء مذهبة. واتسمت جدران السينما على سطوح عارية، والإنارة خفيضة، وشكل القاعة وترتيب مقاعدها يختلف عن ما هو مألوف في الأبنية المسرحية، اي ان المبنى يؤدي وظيفته المستحدثة بأكمل وجه، وبالتالي فان الشكل المبتكر يرسي تفسيرا معماريا غير مسبوق لمفهوم "فورم" مبنى العرض السينمائي. ومن مندلسون ومبناه البرليني، بدأت تظهر بالمشهد المعماري في مدن عديدة، أبنية العروض السينمائية التي تحاكي عمارتها عمارة ذلك المبنى الرائد الذي ابتكره يوما ما المعمار الألماني التعبيري الشهير. (وبالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، فان مندلسون ذاته كان أستاذاً لرائدي عمارة الحداثة في العراق وهما المرحومين: قحطان عوني، وحازم التك).
ولئن امسى أمرا عادياً،ان تكون طبيعة عمارة مباني السينما،بعد "يونفيرزوم" حافلة بالتقشف والاختزال، وبعيدة عن مسلك "مسرحة" العمارة، انسجاماً مع خصوصية العرض السينمائي المنطوي على "تعتيم" القاعة، وخفوت الإنارة فيها، فان مصمم "سينما الزوراء" في منطقة المربعة، بشارع الرشيد ببغداد، اتخذ لنفسه مقاربة تصميمية أخرى، مقاربة زاخرة بثراء العناصر التصميمية وازدحامها في واجهة مبناه، معلناً تمسكه بنهج تصميمي مخالف لما أرساه المعمار الألماني المعروف.
دعونا، لفرط أهمية مبنى سينما الزوراء في الخطاب المعماري الحداثي العراقي، ان نحدد، اولاً، اسم مصمم دار السينما ونعين تاريخ إنشائها، قبل الحديث عن مقاربه المعمار التصميمية واجتهاده في تنطيق لغة تلك المقاربة وتبيان أهمية عناصرها التكوينية.
تشير بعض المصادر الشحيحة الخاصة بتاريخ المبنى، واطلاعي عن بعض الوثائق الخاصة به، التي تابعتها شخصيا لفترة طويلة من الزمن، من إن مبنى السينما تم تشييده في 1937، اي في عقد الثلاثينات؛ العقد الذي دعوته مرة، في احدى دراساتي المعمارية، بعقد الآمال المرجوة.. والمؤجلة. انه، عقد الأحلام الواعدة والجريئة، التي من خلالها تغير وجه بغداد العمراني تغييراً جذرياً، واكتسبت العاصمة روائعها المعمارية التي لاتزال مجال فخر واعتزاز كثر من العراقيين: معماريين، وغير معماريين. هذا من ناحية "تاريخ" المبنى.
ماذا عن مصمم المبنى؟ اعترف بان مثل هذا التساؤل يؤرقني كثيراً. فانا، الذي اعتبر نفسي مهتما بعمارة العراق الحداثية، وقارئاً لمنجزها، لا اجد أحدا يسعفني في الاستدلال عن اسم مصمم المبنى، كما لا امتلك وثيقة ذات مصداقية تشير اليه؛ رغم اني طرقت أبوابا عديدة، مستفسرا عن مصمم هذا المبنى الفريد، او الاطلاع عن سيرته الذاتية. وباشتغالي على مقارنات مع الأسلوب التصميمي المنطوي عليه مبنى السينما، ومن دراسة بعض التفاصيل المعمارية المستخدمة في المبنى، فضلاً على معرفتي للكثير من بنائيّ ومعماريّ تلك الفترة، أكاد أخمن بان مصمم سينما الزوراء هو المرحوم "نعمان منيب المتولي" (1898-1961)، معمار "مبنى الرشيد"، الذي تحدثت عنه في هذه الزاوية من قبل، ومصمم لمبانٍ مميزة أخرى نفذها في مناطق مختلفة من شارع الرشيد أيضاً. لا أدعي بان معلوماتي هذه "نهائية"، او قاطعة وحاسمة. وسأكون ممتنا كثيراً، أن صحح لي تلك المعلومات احدُ ما من المهتمين بعمارة العراق او بمباني السينما.
يكاد معمار سينما الزوراء، ان يتماهى مع "فكرة"، تسعى وراء تجسيد الأحداث السينمائية المرتقبة، وعوالمها الخيالية المفترضة، الى "واقع" معماري ملموس، تشي عناصر الواجهة التزيينية الغزيرة والعجائبية بتمثلات تلك الفكرة وتحولاتها..ايضاً. كما لو أن حضور تزيينات تلك الواجهة الغريبة الأشكال، يراد به الإيماء عن واقع سينمائي متخيل، كما لو ان مفرداتها المدهشة تشي بعجائبية الأحداث المرتقبة، التي يعول عليها المتلقي في القاعة السينمائية، كما لو أن "الخيال" السينمائي يمكن له ان يتمثل معمارياً. يعي المعمار أهمية وضرورة مراعاة خصوصية المكان وطبيعته الاشغالية.
فالمبنى يقع عند زاوية يتفرع عن احد جوانبها زقاق متواضع، ومن الجانب الآخر شارع الرشيد الفخم. ولعل هذا الأمر، هو الذي سوغ وجود "بلوك" تجاري يشرف على شارع الرشيد، بطابقه الأرضي المخصص للاستخدام التجاري، والمطل على رواق الشارع المميز، وطابقيه العلويين المخصصيّن للشأن الإداري والمكتبي. ان معالجة هذا البلوك التصميمية وان بدت متساوقة مع عمارة الشارع، الا انها امتازت برهافة التفاصيل وثراء المعالجات التكوينية. ويظل اهتمام المعمار منصبا على واجهة السينما، الواجهة التي تعكس خصوصية المبنى وفقا للتأويل الخاص الذي يطمح المعمار إيصاله لنا. ثمة إطناب في التفاصيل. وثمة غرائبية بصرية تضفي بظلالها القوية على أسلوب اصطفاء نوعية تلك التفاصيل ومعالجاتها التزيينة.
يعرف المعمار ان حضور غزارة التفاصيل التشكيلية في الواجهة، بمقدوره ان يسهل عليه تحقيق مهمته التصميمية. ولهذا، فانه يستدعي طراز "الارت نوفو" Art Nouveau ، بخصائصة المميزة، وأشكاله الديناميكية ذات الخطوط المنحنية المتدفقة، وولع ذلك الطراز في توظيف الفنون التشكيلية كجزء من منظومة الحل التصميمي ليكون اداة رئيسية في تعزيز ذلك الحضور. ومع انه يعلم بان أسلوب "الارت نوفو"، وإسرافه في استخدام الفن التشكيلي معماريا، لم يعد رائجاً في الخطاب المعماري، لكنه يرى في غرائبية "الثيمة" التي بحوزته، ونوعية الفكرة التصميمية التي "تتلبسه" باعثين أساسيين لاختياراته التصميمية. ثمة قاعة علوية في واجهة مبناه، يضفي عليها المصمم جل اهتمامه، ويجعل منها المفردة الرئيسية في الحل التكويني لواجهته. انها تبرز عن مستوى سطح الواجهة، مستثمرا تطليعتها الناتئة "الكابولية" Cantilever المتدرجة والجريئة، وكذلك المساند التي ترفعها، ليجعل منها "ضربة" التكوين، ومفردته الأساسية في "تأثيث" واجهته المعبرة. ففي أعلاها، وهي ايضاً قمة المبنى، يختار المصمم قطعة نحتية قوامها "إلهان"، او "ملكان مجنحان" بصيغة امرأتين مضطجعتين، تحرسان، بأمان وحرص كبيرين، <التاج الملكي>، الذي يرتفع عاليا من منتصف المجموعة النحتية.
(تمت إزالة التاج من مكانه سنة 1958، بصورة فظة وغير مهنية، وظل مكانه، منذاك الوقت، خرباً وشاغرا). لكن اجتهاد المصمم، يبقى واضحاً في مسعاه "لتجسيد" سطح واجهة المبنى، وجعله كتلة ثلاثية الأبعاد، حتى يضفي قوة تعبيرية مضافة الى معالجاته الواجهية. كما انه يستثمر تباين أمكنة أقسام الكتل التي خلقها في الواجهة، ليعزز من تناوب واختلاف صيغ تشكيلاتها الفنية. وهو لئن اعتمد، أساساً، على وجود العناصر المعمارية في القسم الأعلى البارز من الواجهة، والمتمثل باختياره لأشكال الأعمدة وتيجانها الكورنثية، بالإضافة الى أسلوب التدرج الكتلوي الذي يسم هذا الجزء من الواجهة، فانه اتكل على حضور الفن التشكيلي بصيغة رسوم جدارية، غطت بتزييناتها "عقد" المدخل الرئيس للسينما، معززا ذلك الحضور برسوم اخرى، تغطي مساحة سطح اسفل الكتلة الناتئة، مع باطن مستطيلين غائرين على جانبي المدخل ذاته. كما وظف المعمار، وكما هو شائع، لدى انصار الطراز "الارت نوفوي"، الخطوط الكتابية الدالة على اسم دار السينما، كجزء من الحضور التزييني لواجهة المبنى. هذا عدا ما تمنحه "مقرنصات" المساند الحاملة للكتلة العلوية، من قيمة فنية عالية لمفردات الواجهة، والتي اتت معالجاتها على كثير من التعبيرية والثراء الزخرفي.
وفي العموم، فأننا أمام نموذج استثنائي في أهميته المعمارية بالنسبة الى عمارة الحداثة البغدادية. انه يستقي تلك الأهمية من خصوصية المبنى الذي يتعاطي المعمار مع "تابولوجيته" المتفردة، كما انه يستقيها من المناخ الصحي للمزاج العام المفعم بالآمال الواعدة التي وسمت العقد الثلاثيني.
وتظل عمارة سينما الزوراء، تمثل بواجهتها المعبرة وكتلتها المميزة، احد اهم شواهد بغداد البصرية، والحافظة لذاكرتها المعمارية. واذ انشر صورة المبنى في الخمسينات وصورته في الوقت الحاضر، فاني "اقصر"مطالبتي المتواضعة، ليس على ضرورة ترميم المبنى او الحفاظ على نموذجه المعماري المدهش، (فهذا طلب يبدو عسير المنال في الوقت الراهن!)، وإنما إزالة أكوام الأوساخ، التي "اختار" مسؤولو النظافة في تلك المنطقة، باب السينما التي تعد من اجمل المباني البغدادية <وربما العراقية!>، مكاناً لها. فهل نطمح نحن، محبيّ بغداد، وعمارة بغداد، بإزالة تلك الأكوام، ليتسنى، في الأقل، رؤية هذا المبنى المميز بدون "إضافات" مستحدثة؟!.
ولد "نعمان منيب المتولي" (معمار المبنى المفترض) في 1898، بإسطنبول، وتوفي في بغداد سنة 1961. عمل كمساعد الى المعمار الإنكليزي ولسون، عندما كان الأخير منهمكاً في تنفيذ مباني جامعة آل البيت بالأعظمية (1922-24). صمم عدة مبان عامة في بغداد وفي كافة أرجاء العراق،
كما صمم الكثير من الدور السكنية في الأعظمية وفي مناطق مختلفة من بغداد. منها "مبنى شارع الرشيد" بالسنك (الذي اتينا على عمارته في حلقة من هذه الزاوية، كما اسلفنا)، كما صمم سينما الأعظمية، التي ازيلت، مع الأسف، مؤخراً.
صمم واشرف على دار توفيق السويدي بالصالحية، ودار ناجي الخضيري في الأعظمية، ودار سلمان الشيخ داود في شارع ابو نؤاس، كما صمم سوق الأمانة بشارع الرشيد، (بالقرب من شارع المثقفين العراقيين شارع المتبني)، وكذلك فندق الأمير، ومبنى "جمعية الطيران" في بغداد (الذي أزيل، واحتفظت الساحة، التي كان يطل عليها، لاحقاً، باسم مبناها المميز: ساحة الطيران). عين مدير أشغال المنطقة الوسطى في لواء الحلة، بعدها عين كمهندس معماري في أمانة العاصمة. أحيل التي التقاعد في بدء الخمسينات.
749 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع