اذاعة بغداد في أيامها الأولى..قصة الساعات الاولى من انطلاق أول اذاعة عراقية

          

اذاعة بغداد في أيامها الأولى..قصة الساعات الاولى من انطلاق أول اذاعة عراقية

  

محاولات البث للإذاعة العراقية:
أعلنت  دائرة البريد والبرق العامة في السابع والعشرين من كانون الاول 1935في  الصحف المحلية عن موعد البث الاختباري مع تعيين طول الموجة(، والوقت المحدد  له، وطلبت من المواطنين إبداء آراءهم حول الإذاعة وعن مدى وضوح استماعهم  لها، وأكدت بأن تأسيس المحطة سيتوقف على نتائج ذلك البث الاختباري.

وقامت بالاتفاق مع الملا مهدي وبعض الموسيقيين في بغداد للمساهمة في ذلك البث الاختباري، وحسب التوقيتات الآتية:
• الساعة السابعة:  موسيقى إفرنجية (غربية) واسطوانات.
• الساعة الثامنة:  موسيقى عربية (الأستاذ عزوري وتخته).
• الساعة التاسعة:  قران كريم - الملا مهدي.
 وقد أشارت إلى إن البث سيكون مساءاً على موجة قصيرة، ودعت كل من يمتلك جهاز مذياع إلى الإستماع إلى ذلك البث وإرسال ملاحظاتهم عنه.
كانت نتائج البث الاختباري(حسنة للغاية)، إذ سمع صوت الإذاعة بوضوح من قبل المواطنين الذين لديهم أجهزة راديو، ومن الجدير بالإشارة هنا إلى إن معظم أجهزة الراديو الموجودة في بغداد آنذاك، كانت من ذوات الموجات الطويلة، والمتوسطة, (لأنها هي التي غزت أسواق بغداد للمرة الأولى وحازت على إقبال الناس عليها). بعدها بأيام قليلة، توقفت مديرية البرق والبريد العامة عن مواصلة البث الإذاعي بعد أجراء التجارب الاختبارية لرفع تقريرها إلى وزارة الاقتصاد والمواصلات عن نتائج البث.

              

بدأ البث التجريبي الثاني يوم السابع من شباط 1935, حين قامت مديرية البريد والبرق العامة بنصب جهاز مذياع في الميناء الجوي(المطار) الواقع بجانب الكرخ, وأعدت قاعة للإستماع بعد أنْ قامت بتوجيه دعوة إلى أرباب الصحف فقط, وأعلنت أن منهج الإذاعة ليوم السابع من شباط 1935، سيبدأ في الساعة(السادسة والنصف) مساءاً.
إما التجربة الثالثة فأجرتها دائرة البرق المركزية، يوم الحادي والعشرين شباط 1935، وقد تضمن منهاجها موسيقى وأغاني ومحاضرات، وفي يوم الرابع والعشرين حزيران 1935 وجه رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، كتاباً إلى الوزارات ذات الشأن (وزارة المعارف، والإقتصاد والمواصلات، والداخلية)، طلب فيه آرائهم حول مشروع تأسيس إذاعة، فلاقت الفكرة استحسانا من جميع الجهات وعلى أثر ذلك تألفت لجنة لذلك الغرض برئاسة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي وعضوية كل من وزير المعارف وغيرهما ممن يمثلون وزارات الاقتصاد والمواصلات والداخلية، الهدف من تشكيل تلك اللجنة وضع أسس متينة لمشروع وتنظيم منهاج واسع للدعاية.
نظمت دائرة البرق المركزية يوم الثامن من أيلول 1935 منهاجاً خاصاً بمناسبة عيد تتويج الملك غازي، لكنه أيضاً كان منهاجاً ترفيهياً محضاً وخلا من الأخبارأو البرامج ذات الطابع السياسي والثقافي. ومع ذلك كان للإذاعة صدى عظيم في جميع الأوساط المثقفة، وسمعت في مدن الموصل والديوانية وكركوك أكثر وضوحاً من الجهات الأخرى، كذلك سمعت في مدينة بيروت أيضاً، مما دفع لجنة البث اللاسلكي،إلى الاجتماع في الثامن عشرمن أيلول 1935 وتقرر تنظيم بث إذاعي مرة كل خمسة عشر يوما، ريثما يتم بناء المحطة اللاسلكية.
استحوذت تلك التجربة على إهتمام الكثير من العراقيين الذين أنصتوا بإهتمام بالغ لها، بل أنهم اقترحوا إن تكون لجنة الإذاعة من ذوي المكانة الأدبية والاجتماعية لتنظيم مناهجها، وان تكون فترة البث أسبوعية بدلا من مرة واحدة كل خمسة عشر يوماً.

          

كان نتيجة التقدم الذي أحرزته تلك المحاولات إن دفع وزارة الاقتصاد والمواصلات إلى أن تقدم على اختيار المكان المناسب وتهيئة شتى المعدات والآلات الضرورية لتلك الإذاعة، على إثر قرار الحكومة القاضي بإنشاء محطة إذاعية صغيرة في جانب الكرخ على طريق الصالحية بشكل مؤقت، تكون كافية للبث داخل العراق وربما يصل صوتها إلى البلدان الأخرى كسوريا وفلسطين، ريثما يتم بناء محطة إذاعية ومتكاملة، فأحالت إنشاء البناية الصغيرة إلى متعهد اشترطت عليه إكمال البناء بمدة لاتزيد عن (45) يوما، وبكلفة (1800) دينار.
في الوقت الذي بدأت الحكومة بإنشاء محطة الإذاعة المؤقتة بدأت في الوقت نفسه الإستعدادات لمشروع الإذاعة الكبرى، إذ كتبت وزارة المعارف إلى وزارة الاقتصاد والمواصلات، طالبة المباشرة بتشييد البناية الخاصة لمحطة الإذاعة اللاسلكية الكبرى، وقد أوصت في كتابها ضرورة الإسراع بتشييد بناية المحطة الكبرى، فاستعان العراق بالمهندس البريطاني الأول في إدارة البريد والبرق (المستر بيلي) Billy، الذي أجرى دراسة مستفيضة للمشروع من الناحية الفنية والتكاليف المترتبة عليها، وقد وضع تقريرين عام 1935، ضم التقرير الأول الجانب الفني، وضم التقرير الثاني تكاليف المشروع ورواتب الموظفين.
كان من المقرر أن يبدأ البث من محطة الإذاعة المؤقتة في آذار 1936، إلا أنَّ لجنة تنظيم منهاج الإذاعات اللاسلكية واجهت صعوبات عدة حالت دون ذلك منها:  صعوبة إيجاد الخطباء، والموسيقيين، والشعراء، والمطربين، واختيار المحاضرين. والعامل المهم في التأخر هو عدم إكتمال الإعمال البنائية خلال الـ (45) يوماً، وتأخرها حال دون افتتاحها فتم تمديد انجاز العمل إلى آيار 1936، إما السبب الحقيقي بعدم إنجاز المحطة، هولأنها صبت كل اهتمامها بمشروع الإذاعة الكبرى الذي كان من المقرر إن يبدأ العمل به بعد إن تمت تهيئة كل السبل لانجازه، غير انه حتى مشروع الإذاعة الكبرى تم تأجيله, لعدم وجود مخصصات في الميزانية الاعتيادية لتدارك نفقات المشروع.
نتيجة لذلك أوصت وزارة الاقتصاد والمواصلات إلى وزارة المالية برصد الاعتمادات المقتضية على السنة المالية 1937، في ميزانية البريد والبرق الاعتيادية تحت فصل خاص بالمشروع. وبعد إن تم انجاز بناء دار الإذاعة العراقية, انحلت تلك اللجنة، وتشكلت لجنة إدارية أخرى، مهمتها دراسة ما تتطلبه الإذاعة.
قررت وزارة الاقتصاد والمواصلات أستناداً إلى موافقة لجنة الإذاعة اللاسلكية العراقية على أنْ يتولى يونس بحري أدارة محطة (الإذاعة اللاسلكية العراقية)، وفؤاد جميل سكرتيرا للإذاعة العراقية، كما استوردت الحكومة العراقية عام 1936 مرسلة أخرى من بريطانيا، لتأمين مخابرات (الطيران المدني)، إلا أنها استعملت للبث التجريبي في الإذاعة اللاسلكية.الذي تقرر إن يكون موعده يوم الأربعاء العاشر من حزيران 1936، بعد اكتمال نصب الأجهزة والمعدات الخاصة بالإذاعة بعد نجاح (التجربة النهائية) وقررت اللجنة أنْ يكون البث في الأول من تموز 1936، وكذلك قررت أنْ يكون البث وبنحو مبدئي لمدة(6) مرات في الشهر.
بعد إكتمال نصب الأجهزة والمعدات الخاصة بالإذاعة, أفتتحت إذاعة بغداد بنحو تجريبي يوم الأربعاء المصادف الأول من تموز 1936. بحضور رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير المعارف صادق البصام.

                                

احتشدت الجماهيررغم أرتفاع درجات الحرارة، في المقاهي والمحلات العامة التي نصبت فيها أجهزة الراديو للإستماع والإطلاع, بعضهم لم يكن مصدقاً أن ذلك الصندوق الخشبي الأنيق الذي ضم بضعة أزرار عاجية ولوحة زجاجية مستطيلة تشع بلون أخضر باهت يتحرك فيها مؤشر نحيف يمكن أن ينطق بمجرد تحريك ذلك المؤشر فيأتيك بأنباء الدنيا، وهم يصغون الى صوت الإذاعة ينبعث من مذياعهم وبنحوٍ رسمي لأول مرة في العراق, وسادت الجماهير نشوة فرح غامرة بميلاد شيء جديد في حياتهم مثلما حدث، يوم دخلت الكهرباء مدينة بغداد بعد ظلام القرون, وقدعد ذلك اليوم يوماً تأريخياً في حياتهم وكم كانت فرحتهم, وهم يستمعون الى صوت البلبل (بلبل الإذاعة). وهو إشارة المحطة وبصوت يقول (هنا... بغداد).
قام المشرفون على الإحتفال, بتزيين واجهة البناية بسعف النخيل الذي إمتد على مسافة طويلة ولحرص المشرفين على إسماع أكبر عدد من المواطنين الى الإذاعة, جلبت ووضعت أجهزة (الراديو), في الساحات والمقاهي المجاورة لسماع البرنامج الاول لافتتاح الاذاعة. وفي ادناه جدولاً للبث الرسمي المنتظم للاذاعة بعد نجاح البث التجريبي.

         


دقيقة      ساعة      المادة
10    8 مساءاً    تلاوة القران الكريم للمقرىء عبد العزيز الخياط
40    8 مساءاً    نشرة الأخبار الداخلية والخارجية والتجارية المهمة قدمها  ابراهيم حلمي العمر وكيل مدير الدعاية والنشر
00    9 مساءاً    عزف على آلة الكمنجة للموسيقار العراقي صالح الكويتي
25    9 مساءاً    محاضرة مكافحة الامراض الشائعة في العراق للدكتور خليل المصفى
40    9 مساءاً    اسطوانة عراقية, سورية, تركية
00    10 مساءاً    جوق المطربة سليمة باشا
00    11 مساءا    الختام بالسلام الملكي

قرأ وكيل مدير الدعاية والنشر السيد ابراهيم حلمي العمر النشرة الاخبارية الاولى لعدم وجود من يشغل وظيفة مذيع, ثم القى وزير المعارف انذاك محمد صادق البصام، كلمة الافتتاح التي أشار فيها الى أهمية الاذاعة ودورها في رفع المستوى الثقافي للشعب العراقي, وأشار الى الجهود التي بذلت لانجازها, و سلط فيها الضوء على الجهود التي بذلتها اللجنة العليا وفروعها لتنظيم شؤون الاذاعة, والتجارب التي قامت بها, لإخراج البث الإذاعي الى حيز الوجود. وعدت تلك الخطبة أول وثيقة بينت السياسة الإذاعية في العراق, واضاف ان امله ان يكون ذلك المشروع:
((مقدمة عهد جديد في ثقافته العامة وأن يكون خير وسيلة لإبراز المواهب بالقاء ماتجود به القرائح وتفيض به النفوس, وعرض مايمكن عرضه من صور الحياة الحقة التي تعمل في اثارة الشعور, وبث روح الطموح, وتمجيد أعمال البر بالوطن, والتفاني في خدمة الجميع...أما كون المحطة الحالية (داخلية) في الوقت الحاضر فلا يعني انها ستبقى كذلك فنحن ننظر اليها كنواة للمحطة الكبيرة التي رصدت المبالغ لتشييدها تحت إشراف وزارة المعارف)).
لما كانت الحكومة العراقية شاعرة بلزوم رفع المستوى العلمي للشعب العراقي كي يتبوء مكانته من الناحية الثقافية, إذ بذلت كل مافي وسعها من الجهود لتأدية ما عليها من فروض وطنية في ذلك المضمار, وما الإذاعة اللاسلكية الا أحدى الوسائل التي تأمل أن تكون محققة للهدف الذي توخته الحكومة من ذلك التأسيس كمدرسة في أستطاعتها أفهام جمهور الشعب كل ما يتعلق بشؤونه الثقافية والاجتماعية. ومن ذلك يتضحان الهدف الأول للإذاعة هو تنوير الأفكار وخلق وعي فكري، والمساعدة على تطوير المجتمع وتسليحه بالثقافة التي حرم منها الكثيرين على مقاعد الدراسة،كذلك بث الاخلاق السامية من خلال الإستماع الى القران الكريم.
ألقى الشاعرعبد الرحمن البنا في حفلة الإفتتاح قصيدة من محطة الاذاعة العراقية بتلك المناسبة. نذكر بعض الابيات منها:
تناول أصداء الكلام مقلدا
        ورجع مايتلى عليه ورددا

أطل على الأفواه يخطف كل
    مانقول فيلقى ماتخطف كالصدى

أخف من الوهم الدقيق على النهى
    وأسرع من البرق الجنوح إذا بدا

يبث على الأسماع منه إذاعة
    فلا لامست عينا ولاصافحت يدا

ولكنها جاءت من الفن آية
        بقرب لاسلكيهاماتبعدا

أرتبطت الاذاعة العراقية منذ أفتتاحها بوزارة الاقتصاد والمواصلات مالياً، بعد أنْ أمر رئيس الوزراء, ياسين الهاشمي, بترك أمور تعيين موظفي الاذاعة لتلك الوزارة كما تم احتساب مصروفات الاذاعة بما في ذلك كلفة الملاك وأجور المحاضرين مع المصروفات الأخرى على أنْ تتخذ الاجراءات اللازمة لرصد الاعتمادات المقتضية للسنين القادمة في ميزانية البريد والبرق الاعتيادية.

            

سارع أهالي بغداد لشراء أجهزة  الراديو, التي وصل عدد مابيع منها في الأيام التي تلت افتتاح الاذاعة الى حوالي(5000) جهازاً خلال مدة  قصيرة على الرغم من أن ثمن جهاز الراديو ((لازال مرتفعا لدرجة لاتتمكن الطبقات المتوسطة, من اقتناءه, زيادة على ذلك إنَّ أكثر الدور لم تكن تعرف الكهرباء بعد)).
فاذا كانت الطبقات المتوسطة لاتستطيع إقتناء اجهزة الراديو, فما هو حال الطبقات الفقيرة وهي التي كانت تشكل قاعدة الشعب العريضة, ولنا ان نتصور أسعار الأجهزة في تلك المدة, قياسا الى متوسط دخل الفرد آنذاك الذي لايتجاوز ديناراً واحداً شهرياً.
كانت الاذاعة تبث في بدايتها كل خمسة أيام مرة واحدة, وفي شهر اب 1936 أصبحت تبث يومين فقط في الأسبوع, هما يوم الأحد ويوم الأربعاء, ولمدة ساعتين، لذا كان المستمع العراقي يلجأ الى اذاعة القاهرة لقضاء بقية السهرة, لاسيما وإنَّ اذاعة بغداد تنهي ارسالها في الساعة الحادية عشر مساءاً, ثم أصبح البث لثلاث مرات في الاسبوع ولمدة نصف ساعة فقط. وكانت عملية البث من دار الإذاعة غير منتظمة منذ افتتاحها في الأول من  تموز 1936, الى ان توقفت عن البث يوم 16 ايلول 1936. برغبة من رئيس الوزراء.
إغلاق الإذاعة العراقية:
لم يمض شهران على افتتاح الإذاعة حتى فوجىء الناس بقرار اغلاقها الى اجل غير مسمى. بناءً على رغبة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، بحجة تنظيم المناهج بصورة تنسجم ورغبات الجمهور, وتبع اغلاق الاذاعة الغاء  جميع اللجان الخاصة بها.
ان الاسباب المعلنة لتوقف الاذاعة تعود الى عدم تغطية البث الاذاعي لمناطق كثيرة في القطر ولاسيما مدينتي الموصل والبصرة, فهي مقتصرة على مدينة بغداد والمناطق القريبة منها. كذلك ان البرامج الاذاعية لم تكن موفقة في نيل رضا الجمهور, والحاجة الى اختصاصيين بشؤون العمل الاذاعي، وإنتشار الفساد الإداري والإضطراب الأمني والذي لحق بوزارة ياسين الهاشمي الثانية، فضلا عن المشاكل المادية نظراً لقلة وارداتها وأنعدام التخصيصات الحكومية اللازمة لها،الامر الذي جعل وزارة المعارف غير قادرة على دفع رواتب العاملين فيها, كما ان الخلافات الحادة بين الوزراء والبرلمان في عام 1936 قد أنعكس بدوره سلبا على الاذاعة التي كان يرأس اللجنة المشرفة على شؤونها رئيس الوزراء نفسه, فأُضطر الى توقيفها تحاشيا لتأجيج تلك الخلافات وإتساعها, الا أنه لايفهم بأن اغلاق الاذاعة تم بصورة نهائية, بل توقفت عن اذاعة المناهج فقط, واقتصر استعمال الإذاعة على إذاعة الاخبارالرسمية للحكومة.
المدى/سندس حسين علي
عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية 1936ــ 1958)

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع