أيام زمان - الجزء / الجزء الثامن - سباق الخيل ( الريسز)
كانت الفروسية شائعة في بغداد، وكانت تعتبر المرحلة التالية الراقية للفتوة (الشقاوة)، وكانوا يمارسون الفروسية ويلعبون الساس، وهي رقصة تجري بين متبارين حاملين السيوف. وفي الأعياد والمناسبات كان هناك ميدان للخيل والسباق، بالقرب من الباب الوسطاني لبغداد القديمة، ويسمون ميدان السباق ب (المنطرد) فمن يأت بجواده العربي الأصيل للسباق، ومن يأت راجلا فسيجد أمامه عدد من أصحاب الخيول فيستأجر واحدا منهم ليشترك به في السباق، الذي عادة ما ينتهي في ساحة قريبة من باب المعظم. هناك كان يجلس الشيوخ ووجهاء المحلات القريبة على تخوت شعبية، ويقوم أبرز الوجهاء فيهم بتوزيع الجوائز النقدية على الفائزين.
ومن يحب ويهوى الخيول العربية كان يلبسها أجمل الملابس ويزينها بأجمل الزينة من مخاش وجبد ودناديش وأربطة غير عادية، أو سيور حتى وأن كانت من الجلد.
وأصول تربية الخيول فن خاص بها، حيث أن ترويضها وخباها وهدها يحتاج إلى شخص يتقن هذه المهن، وأن عملية التدريب في ساعات محدودة من اليوم، حيث أن إطعامها وسقيها له أصول خاصة وأن السايس له من الأجر الشيء الكبير في نفس الوقت، حيث كلما كان ماهرا في عمله كان أجره أكبر من سواه.
وصاحب الخيول يصرف مبالغ طائلة على تربيتها، ولكن ليس كل الأوقات يجني صاحب الفرس أو المهرة ما أنفقه لذلك، في بعض الأحيان يلجأ أصحابهم إلى أتفاق بين مجموعة من الجاكية (الذي يمتطي الخيول) أثناء السباق إلى سحب الفرس التي تركض، ويسمح لواحدة مغمورة ولا أحد يعرفها كي تفوز، حيث أن البطاقات المبيوعة على هذا الفرس تكون قليلة قياسا ببقية الخيول المعروفة لذلك تكون قيمة هذا الشوط كبير جدا فيجنوا أرباحا طائلة جدا.
ويذكر أن السلطة البريطانية، في عشرينات القرن الماضي، اهتمت بسباقات الخيل، فهي هواية وتسلية وتجارة، وكان الضابط البريطاني البيطار (الميجور جادويك) أول من اهتم بتأسيس مضمار السباق في بغداد، وفق نظام المراهنات، ومن ثم ربط تجارة الخيل به، وأنشئت ساحة السباق في باب المعظم في بادئ الأمر، ثم أنشئ ميدان السباق في منطقة (العلوية) في بغداد، وهي منطقة قريبة من بيوت غالبية الضباط الإنكليز، وتم وضع نظام خاص للسباق، يشترط مشاركة الخيول العربية الأصيلة فقط، وكانت كلمة الميجور (جادويك) هي النافذة، وكان يعاونه عدد من العراقيين، واقبل أبناء الشعب وخاصة الطبقة الفقيرة وبالأخص الحفاة منهم على مراهنات سباق الخيل.
احتاجت السلطة البريطانية للخيول العربية الأصيلة، وشجعت أصحابها على بيعها، ووضعت خطة بدأت بالإعلان عن سباق للخيل من قبل الحاكم العسكري البريطاني عام 1918 جاء فيه: "سيجري في بغداد سباق للخيل في يومي 23 و25 من شهر مايو سنة 1918 الموافق 11و 13 شعبان سنة 1336 ه - وسيكون السباق في كلا اليومين لجياد عربية يركبها عرب، ومسافة السباق في يوم 23 مايو هي ميل واحد، ولا تتسابق فيه سوى الخيل التي لم تنخرط (تشترك) في سباق ما. أما مسافة السباق في يوم 25 مايو فهي ميلان والمضمار (خط الشرط) مفتوح لجميع الجياد. وستعطى في السباق ثلاث جوائز عن كل سباق، الأولى قدرها 500 روبية والثانية 100 روبية والثالثة 50 روبية. ورسم الدخول 15 روبية عن كل جواد متسابق، فالمأمول أن يحضر العرب جيادهم لهذين السباقين. ويجب على العموم يعرفوا أن الحكومة البريطانية لا تغتصب في أي حال من الأحوال، أي جواد كان من الجياد التي تتسابق في بغداد، إما إذا أراد أصحابها بيعها فلا شك في انهم يعطون عنها أثمانا مرضية. وبيع الجياد اختياري محض. فعلى الراغبين في المسابقة إن يقيدوا أسماءهم وأسماء جيادهم عند الحاكم السياسي الذي في قضائهم (مدينتهم)، وهذا يعطيهم الجوازات. (الباصات) الى بغداد. (توقيع: اللفتنت كولونيل - أي. أي. هول الحاكم العسكري في بغداد).
من الجدير بالذكر أن العراق كان ينتج ويصدر الخيول العربية الأصيلة إلى الخارج بشكل نظامي منذ العام 1920، أما سباقات الخيول فكانت تجري تحت رعاية نادي الترف العراقي (شركة السباق العراقية) وكان لها اتصال وثيق بنادي الجوكي البريطاني، ذلك النادي الذي له تنسيق وعمل مع دول كثيرة من بينها أمريكا وفرنسا وألمانيا والسويد والعراق وغيرها.
وكان الهدف من إجراء السباق تحسين نوعية الخيول، وكان عدد الخيول التي تجلب إلى العاصمة في موسم السباق يتراوح بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف لتمرينها وتدريبها على الاشتراك بالسباق، أما الخيول التي سجلت فعليا للاشتراك والدخول في السباق فكان 850 حصان في بغداد سنة 1933.
رواج تربية خيول وإنتاجها جعل من العراق دولة مصدرة للخيول العربية الأصيلة، وما بين سنوات 1920-1933 صدر العراق خيول بقيمة 562.778 ألف دينار عراقي وكانت صادرات العراق بحدود 2000 راس من الخيول الأصيلة سنويا، منها ما وصل سعره إلى 30 ألف روبية للفرس الأصيلة، ومنها ما كان سعره 15 ألف للفرس عرب كوين، ومنها ما كان بـ 5 آلاف.
صدرت إلى الخارج الخيول بهذي الأسعار المرتفعة، لأنها اشتركت في السباق وعرفوها، ولو بقت مجهولة بدون سباق كان سعرها يتراوح بين 400-500 روبية فقط، أما الشركة الخاصة بالسباقات فكانت توزع أكثر من 200 دينار في كل يوم من أيام السباق على أصحاب الخيول بصيغة جوائز، ومنذ تاريخ تأسيسها ولغاية سنة 1933 وزعت نصف مليون دينار جوائز، هذه الجوائز والمصاريف كانت تشكل نسبة 10% فقط من عوائد الشركة و90% من العوائد يرجع إلى الجمهور المشترك بالمراهنات.
نادي الفروسية ببغداد هو نادي مختص بسباقات الخيل، وهو أقدم نادي للفروسية في العراق يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1922م. يضم النادي مضمار لسباق الخيل ذو مواصفات دولية. بلغ عدد الخيول الأصيلة التي كانت إسطبلات النادي تضمها حوالي 6000 حصان قبل حرب العراق عام 2003، لكن الإسطبلات تعرضت لعمليات نهب وسرقة واسعة بسبب الفلتان الأمني، الذي أعقب احتلال العراق فلم يبقى في النادي عام 2007م سوى حوالي ألف حصان. يذكر أن النادي تم غلقه عام 1958م ثم أعيد افتتاحه عام 1978م، وقد كان مقره يقع في منطقة المنصور غرب بغداد إلى أن تم نقله إلى العامرية. يعدّ النادي مكان التقاء لمحبي الخيول والمراهنين على حد سواء.
سباق الخيل في بغداد كان من اهم الأحداث التي شغلت جمهورا واسعا من سكان العاصمة بغداد إبان العهد الملكي في العراق. أدخله الإنكليز وأقاموه نادي طبق الأصل لتلك اللعبة التي عهدوها في بلادهم، دخلت المفردات والمصطلحات الإنكليزية لهذه اللعبة، وأزاحت جانباً الكثير من مرادفاتها العربية واحتلت مكان الصدارة لدى عامة الجماهير البغدادية، التي ما انفكت تستعملها حتى بعد إبطال سباق الخيول في عهد عبد الكريم قاسم، الذي أطاح بالحكم الملكي في الرابع عشر من شهر تموز من عام 1958.
جاءت كوارث السباقات وجاءت النكبات التي تصيب بعض السذج من المواطنين، حيث أن الولع بها كبير جدا، حيث بعضهم يحب فرسه أكثر بكثير من ولده أو زوجته أو حتى داره، لذلك كان خراب البيوت يأتي من الإدمان على شراء البطاقات في السباقات، وكثير من الأشخاص باع بيته من أجل سباق الخيول أو وصل به الحال إلى أن يطلق زوجته، ويرمي بأطفاله على أهل الزوجة لأنه لم يبق لديه أي مبلغ من المال، يدير أمره أو حتى أن يشتري رغيف خبز إلى أهله.
بعد غلق المضمار أصبح حديقة عامة، كان موقعه في منطقة المشتل أي في الجهة الثانية من قناة الجيش، حيث كان يشرف عليه طاقم هندي وإنكليزي، ولكن بعد 8 شباط من عام 1963 أعيد سباق الخيول في المنصور وعادت الإسطبلات في أبو غريب.
كانت العائلة المالكة الأولية في مشاركة وخاصة جياد الوصي على عرش العراق، الأمير عبد الإله الذي كان مغرماً بسباق الخيل، وأثناء السباق يجلس في اللوج مع حاشيته وبيده منظار (دربين) يتابع من خلاله مجرى السباق عندما كان أحد جياده مشتركاً فيه.
والثاني هو شلاّل الذي ذاع صيته في بغداد كفارس ماهر. وكانت أسماء فرسان الخيول تتعالى في صراخ صاخب ينطلق من حناجر الجمهور الذي راهن على الجواد الذي يمتطيه ذلك الفارس عند وصول الخيول المتسابقة إلى المرحلة الأخيرة من حلبة السباق. كان صراخ المراهن يرتفع أكثر، لدى سماعه صوت مراهن أخر بجانبه، ينادي على اسم فارس منافس له، مشجعا إياه على سرعة العدو وكأن هناك دافع أو شعور داخلي لا يمكن كبحه، يقول له أن المنافسة بقوة وبشدة الصراخ ستحث الفارس على الفوز.
وحلت في بغداد كارثة سباق الخيل فكان مقامرة كبيرة، استنزفت أموال الناس وأصبحت مثل الوباء اجتاح المجتمع البغدادي فكثر اللصوص والمجرمون الذين راحوا يرتكبون الجرائم للحصول على الأموال من اجل المقامرة. وعاشت بغداد (زمن الريسسز) الذي كان سببا في التفكك الاجتماعي والأسري.
أشهر مربي الخيول على مقربة من باب المعظم وفي محلة (السور) يقع إسطبل خيول الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني، الذي كان نائبا لوالي بغداد للفترة من (1912- 1914). كان هذا الرجل مولعا بتربية الخيول الأصيلة وقد اتخذ لها إسطبلا واسعا أمام داره، وكانت تضم أنواعا من الخيول العربية الأصيلة مثل (الاعبيان، والحمدانية والكحيلان والمعنكية والصقلاوية والتكليف وغيرها)، وهي من أشهر الخيول الأصيلة وكان آصف عارف أغا والد صاحب مقهى عارف أغا في شارع الرشيد قرب الحيدرخانة يملك إسطبلا كبيرا للخيول. وفي مقاهي عكيل بجانب الكرخ نسبة لعشائر العكيل كان تجار الخيول الأصيلة يجتمعون في هذه المقاهي ويتاجرون بالخيول التي ترسل لسباقات الخيل في مدينة بونا الهندية قرب بومباي.
وعند إنشاء مضماري السباق في العلوية، ومن ثم في بغداد الجديدة، عرف أشهر مالكي الخيول في ذلك الوقت مثل (المستر مردوخ) مدير شركة مردوخ وبروكس البريطانية واليهودي 'منشي شعشوع' وسعدون الشاوي وسلمان الباجةجي وقدري الارضروملي وغيرهم فيما بعد حين تكاثرت إسطبلات الخيول في جانبي الكرخ والرصافة، فقد باتت تربية الخيول من اجل المشاركة في الريسز تجارة تدر أموالا طائلة.
حكايات ووقائع وطرائف كثيرة يرويها النادمون نادمون الذين شاركوا في سباق الخيل أشد الندم على ما فات اليوم وقد تجاوزوا من العمر الكثير يتحدثون بمرارة بالغة وهم يصفون كيف كان حالهم وبؤسهم آنذاك والحديث عن السباق يحمل شجونا كبيرة لما سببه من أذى ودمار لبعض المولعين به فكثير منهم قد مات معدوما فقيرا بعد أن خسر أقرب الناس أليه إضافة إلى الآثار الخطيرة التي سببها سباق الخيول للحياة والعلاقات الاجتماعية لكثير من المولعين بالمقامرة ووصل الحد بالكثير إلى بيع ممتلكات داره وقوته اليومي.
المصادر:
إيلاف ـ وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
جريدة القبس الإلكتروني زهير الدجيلي
ريم هاشم العبودي
3429 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع