أيام زمان ـ الجزء الرابع عشر - صناعة سعف النخيل.
السَعَفَة وجمعها سَعَف أو سَعْف، وهي ورقة النخل، عبارة عن أوراق شجرة النخيل المركّبة، وهي ريشيّه الشكل، طولها يتراوح ما بين الثلاثة والستة أمتار تقريباً، وتنتج النخلة ما بين العشرة والعشرين سعفة في السنة، ويمتاز سعف النخيل بأنّه القمّة النامية في الشجرة، وبطول أوراقه، ومرونته، وقوّته، ومتانته.
والخُوصَة وجمعها خُوص، وهي الوريقة الواحدة ضمن السَعَفَة، وصناعة الخوص واحدة من أقدم المهن الشعبية في العراق، وتكاد تكون الأولى التي عرفها العراقيون منذ القدم، لا تزال قائمة في المناطق التي تنتشر فيها أشجار النخيل حتى اليوم، ولها زبائنها من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، وتعتمد على أدوات بسيطة بعيداً عن المعدات والمكائن الصناعية، وتعد مهنة الخوّاص واحدة من المهن التراثية القديمة التي ارتبطت بالفلاحين تحديدا، وتقوم على جمع أوراق النخيل التي تُجدل مع بعضها البعض بطريقة تضيق أو تتسع حسب نوعية المنتج، وتقوم بها النساء غالبًا بهذه المهنة، حيث تحرص الأم على تلقين ابنتها أصول الحرفة، وفى بعض المجتمعات يتشارك الرجال في التعلم والعمل، ومهنة توارثها الأبناء من الآباء والأجداد، وصارت مصدرا للمعيشة، لتسد بعض احتياجاتهم اليومية، ويطلق على الشخص الذي يسف النخل اسم السعاف، وهو الذي يقطع السعف من أطرافه، وقد ثابر عليه بعض العجزة المحتاجين، واشتهرت في صناعته يدوياً النساء، فأنتجن وأفدن. ويكاد يقتصر بيع هذه المنتجات حاليا على السياح، أو المعارض التراثية، أو بغرض الزينة؛ حيث لم يعد السكان يستخدمونها بسبب ارتفاع ثمنها كونها "صناعة يدوية" تحتاج لجهد كبير.
يتفاوت انتشارها وإتقان صنعها تبعاً للكثافة في زراعة النخيل، وفي السكان تسمى الصناعة بـ (السعفيات)، ويمكن تسميتها باسم صناعة النخيل لارتباطها بالنخلة، كذلك يصطلح بعض الباحثين على تسميتها بـ (صناعة المنسوجات النباتية)، أما المصادر العربية القديمة فتسمى صناعة الخوص باسم حرفة (الخواصـة).
إن أقدم ما عرف عن النخل كان في بابل، التي يمتد عمرها الى حوالي أربعة آلاف سنة قبل المسيح. فقد خلفت آثاراً لهذه الشجرة في مواضع مختلفة منها. ولا يستبعد أن يكون النخل معروفاً ومألوفاً قبل ذلك التاريخ، فمدينة (أريدو) الواقعة على مسافة 12 ميلاً جنوب (أور) والتي تعتبر من مدن ما قبل الطوفان، كانت قائمة في أوائل الألف الرابع قبل الميلاد، وقد ثبت كونها منطقة رئيسة لزراعة النخل إذ كانت حينذاك على مشارف منطقة الأهوار، وكانت النخلة مقدسة عند السومريين والبابليين والآشوريين لأهميتها المعاشية والاقتصادية. ومما يثبت توغل وجود النخل في القدم بجنوب العراق.
عثر على نقش للنخلة يرجع تاريخه الى العهد السومري، حيث النخلة المقدسة وقد تدلى منها عذقان، وفي كل من جهتي النخلة تقف امرأة، تمد يدها نحو العذق مع أنها تحمل عذقاً بيدها الأخرى، كما نجد احدى المرأتين تناول العذق الذي في يدها ثالثة، والمرأة الثالثة تمد يدها اليسرى لاستلام العذق، في حين أنها تحمل عذقاً آخر في يدها اليمنى، مما يشير الى وفرة غلة النخلة، وكان الأشوريون يقدسون أربع شعارات دينية، أحداها النخلة والثلاثة الباقية هي المحراث والثور والشجرة المقدسة.
تمرّ عملية صنع الخوص واختيار السعف المناسب بعدة مراحل، ويتم فرزه وتصنيفه لعمل كل منتج،
فليس كل سعفة يمكن أن تدخل في الخواصة، ولا يمكن لكل سعفة أن تكون مناسبة لصناعة حصيرة أو طبك أو سفرة الطعام، إذ لكل سعفة شروطها، فصناعة الحصيرة تكون أولا بخرط السعف، ثم يتم وضعه تحت أشعة الشمس يومين أو ثلاثة، ثم يوضع في الماء، ومن ثم يتم صفه وترتيبه بحسب الحجم، وعادة ما تجلس النساء لذلك بشكل متعاقب.
كانت حياة الآباء اليومية مستوحاة من مكونات البيئة المحيطة بهم من صحراء وبحر وأشجار وغيرها، ورغم قلة موارد بيئتهم تمكنوا من تحدي الصعوبات واستحدثوا الطرق المبتكرة، لصناعة الأدوات المنزلية التي تخدمهم في حياتهم اليومية، وخاصة في موسم تلقيح النخيل يقص سعف النخيل ويوجد عمال يتقنون المهنة ومتخصصين بصناعة جريد سعف النخيل.
وأدوات العمل الرئيسية فيها بسيطة وميسورة، وهي اليدان، والعظام، والحجارة المدببة أو المخارز التي تقوم مقام الإبرة بالدرجة الثانية، إلى جانب بعض الأدوات الأخرى كالمقص، ووعاء تغمر فيه أوراق النخيل.
ورق النخيل من النوع المركب، واستعمالاته عديدة حسب موقعه من النخلة، فالذي في القلب تصنع منه السلال والحصران والسفرة والميزات والمهفة (المروحة اليدوية)، والنوع الذي يليه أخضر اللون يستعمل لصناعة الحصير والسلال الكبيرة والمكانس وغيرهم، ومن الجريد تصنع الآسرة والأقفاص والكراسي.
والخوص نوعان الأول هـو لبة الخوص، وتتميز اللبة بنصاعة بياضها وصغر حجمها، وسهولة تشكيلها، وتستخدم لنوعية معينة من الإنتاج، والثاني هو من بقية أوراق النخيل العادية، وهي أوراق أكثر خشونة وطولاً ويتم غمرها بالماء لتطريبيها حتى يسهل تشكيلها، كما يتم تلوين الخوص ولا يكتفي باللون الأبيض أو الحليبي بل يتم صبغ الخوص بالألوان الأخضر، العنابي، والبنفسجي حسب ألوان الطبيعة وتتوافر هذه الأصباغ في محال العطارة.
وتبـدأ الصباغة بغلي الماء في وعاء كبير، وتوضع فيه الصبغة المطلوبة، ثم يتم إسقاط الخوص المطلوب تلوينه ويترك لمدة 5 دقائق، ثم يرفع من الماء ويوضع في الظل، وبالنسبة للخوص الأبيض أو الحليبي فإنه يكتسب هذا اللون نتيجة لتعرضه للشمس فيتحول لونه الأخضر إلى اللون الأبيض. وعند تصنيع الخوص لابد من نقعه في الماء لتلينه، سواء كـان خوصاً عادياً أو ملوناً، لأن الصبغة لا تزول بالماء وبعد تطرية الخوص يسهل تشكيله ويبدأ التصنيع بعمل جديلة طويلة وعريضة متقنة الصنع متناسقة الألوان، ويختلف عرض الجديلة حسب نوع الإنتاج، وكلما زاد العرض كلما زاد عدد أوراق الخوص المستعملة وباتت الصناعة أصعب وبعد صنع الجديلة يتم تشكيل الخوص بالاستعانة بإبرة عريضة وطويلة وخيط قد يكون من الصوف الأسود للتزيين خاصة للسلال.
يأتي الإبداع والفن مما تجود به الأرض وتعطيه، ويتضح جماله حينما يكون العمل نابعا من القلب، والاستفادة من مخلفات ورق النخيل في صناعة منتجات منزلية. واهم الصناعات هي أقفاص نقل الفاكهة من البساتين إلى أسواق البيع بالجملة وتكون أيضاً بأحجام مختلفة.
وأقفاص الدواجن لنقلها من الحقول إلى السوق ويصنع قفص كبير أكبر حجماً لكي يستوعب أكبر عدد ممكن من الدواجن. وأقفاص الطيور من جريد سعف أشجار النخيل الطري وتستخدم لتربية طيور البلابل بأشكال وأحجام مختلفة، ويكثر في منطقة الخالص. وتصنع مظلات أصحاب البسطات من جريد سعف النخيل، ويربط على سطحها قماش أو من المشمع لتقيهم من حرارة الشمس.
وكذلك كراسي المقاهي الشعبية وهي الأكثر شهرة ومعرفة بين الناس ولاتزال تستعمل إلى الوقت الحاضر. بالإضافة إلى أسرة النوم تُصْنَعْ في مناطق الأرياف وضواحي المدن يستخدمونها للنوم على الأسطح في موسم الصيف، لرخص ثمنها ومقاومتها لحرارة شمس الصيف المحرقة.
ومن الصناعات الزنبيل ويسمى أيضاً (المكتل)، لاستعماله سابقاً في الكيل والوزن وفي اللهجة العامية العراقية يسمى (الزبيل). وهو المصنوع أو المنسوج من الخوص أي من سعف النخيل. يعتبر الزنبيل من الأشياء التراثية العراقية الأصيلة، التي سادت في أزمان جميلة لدى ناس الطيبة والعفوية، ويتذكرهم من عايشهم، وبالتأكيد يحتفظ البعض بهذا الموروث الجميل لحد الآن وخاصة في القرى والأرياف.
في الخمسينات من القرن الماضي استخدم الزنبيل للتسوق، وحمل الخضر والفواكه والبضائع من السوق حيث يحمله الرجل المتسوق صباحاً متجولاً بين باعة الخضروات ليضع فيه ما تسوقه واشتراه والعودة به الى البيت، أما المرأة فتضع زنبيل التسوق على رأسها. ويصنع من خوص فسائل النخيل ليخيط الزنبيل بشكل دائري، وبأحجام مختلفة حسب الرغبة ويصنع له يدين تسمى (عراوي) من حبل ليف النخيل أو حمالة توصل بين جانبيه لغرض المسك والحمل.
والحصير تقوم النساء بخياطة السفيف بواسطة (الخلال) المصنوع من الحديد المشابه لإبرة الخياطة ولكن بحجم اكبر وحبل يصنع من سعف خوص فسائل النخيل التي تُسَمْى ( الْصِنَّه ) ويخيط الحصير بِأبْعادٍ هندسية مستطيلة الشكل حسب الرغبة.
وتوجد عاملات متخصصات بصناعة المكانس في المناطق التي تكثر فيها زراعة بساتين النخيل وتدر هذه الصناعة مبالغ مالية تساعد الأسرة على رفع المستوى الاقتصادي نسبياً. وكانت تستخدم المكانس المصنوعة من خوص سعف النخيل في تنظيف شوارع المدن من قبل عمال البلدية يومياً ويختلف شكلها وحجمها عن ويربط في وسطها عمود مشابه لعمود المسحاة طوله متر ونصف يساعد العامل على التنظيف من دون أن يحني ظهره أثناء العمل.
ويصنع الطبك كغطاء العجين، كما يستخدم لوضع خبز التنور أثناء خبره وفي مناطق معينة من مدن العراق، يقدم فيه الطعام بدل من صينية الطعام المعدنية، وكذلك تصنع المروحة وهي الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها عامة الناس في فصل الصيف، للتخفيف عن قيض حر الصيف، وتصنع من خوص سعف النخيل.
ويصنع الخصاف من سفيف خوص سعف النخيل من قبل العاملات، بما يشبه كيس (الكونِيَّة) ويستخدم الخصاف لغرض تعبئة ثمار أشجار النخيل من تمور الزهدي.
تقوم النساء بخياطة السفيف بواسطة (الخلال) وتحيط العلاكة بشكل بيضوي تشبه قدر الطعام البيضوي الذي يستخدم في الجيش، وبأحجام مختلفة حسب الرغبة، ويصنع لها حمالة من حبل ليف النخيل لغرض الحمل وتستخدم العلاكة لغرض جني الفاكهة والخضروات، من قبل عمال البساتين والمزارع ونقل المسواك من السوق إلى البيت من قبل ربات البيوت.
وهناك صناعات شعبية أخرى تستعمل فيها جذوع النخيل، لتسقيف السقوف أو بناء الدور الصغيرة هو البيت الذي يقطنه الناس صيفا، أو غرفة تتكون من أربعة جذوع مرتكزة على الأرض ويغطي الجزء العلوي والجوانـب بالسعف، حيث يتم ربط مجموعه من السعف بالحبـال المصنوعة من الليف. وتستخدم لغرض السكن.
ويستفاد من جذوع النخيل الكبيرة، لعمل القناطر على الأنهر الصغيرة والسواقي في البساتين، لكي تسمح بمرور العجلات، وكذلك تستعمل أجزاء من جذوع النخيل لعمل أعمدة حضائر الحيوانات.
ويوجد أيضا صناعات شعبية من ليف النخيل، أهمها الحبال التي تصنع من نوع الليف الذي يحيط بقلب النخلة الجمار، لكونه طري وأشد قوة من الليف الخارجي، ويستعمل الليف في مقاعد مساطب الجلوس ومقاعد السيارات لتأمين الراحة لعجز الإنسان أثناء الجلوس، وكان سابقاً يستخدم الليف في صناعة الدواشك التي تستخدم في المستشفيات خاصة بدلاً من القطن، ويستخدم الليف لتغليف الأشجار عند قلعها من الأرض في بداية موسم الربيع.
وتقوم النساء في صنع الحذاء من الخوص (نعال) قديماً، لاستخدامها في الحقول أو المناطق الوعرة، عند القيام ببعض الأعمال، كانت النساء قديماً لا يلبسن النعال إلا نادراً في المنزل، وحتى في الحقول التي تعمل المرأة فيها، وإن لبست فـ غالباً ما يكون هذا النعل الخوصي المنسوج من سعف النخل ما عدا القلة من نساء الطبقة الميسورة والتي كن يستخدمن النعل الجلدي.
المصدر
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
الموروث الشعبي العراقــي ــ رحــــيم المبــــارك
الكاردينيا مجلة ثقافية.
4822 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع