أيام زمان ـ الجزء الخامس عشر - الصفارين وتبييض النحاس

       

 أيام زمان ـ الجزء الخامس عشر- الصفارين وتبييض النحاس

   

ما أغرب هذه الأسواق التي تتواجد فيها محلات الصفارين ومبيض النحاس، تتكدس السلع من كل الأنواع في حوانيت ضيقة، يجلس وسطها البائع لا تظهر منه إلا العمامة أو الطربوش أو السدارة أو الفيصلية، أو كما يلفظان معاً السدارة الفيصلية العراقية، فمن يريد شراء النحاس أو مصباح علاء الدين السحري، أو أنتيكة تعود إلى الزمن العباسي أو العثماني،

       

عليه أن يقصد أشهر سوق تراثي في المدينة إنه سوق الصفارين أو (سوق الصفافير) كما يطلق عليه باللهجة الدارجة، والذي جاءت تسميته من اشتغال حرفيه على مادة النحاس أو (الصفر). يزور السوق السواح الذي يتسوقون الأنتيكات، وفيه تعرض المنتوجات النحاسية المنتشرة على سلسلة طويلة من الدكاكين الصغيرة والملتصقة الواحدة بالأخرى، وقد أصبحت دكاكينهم (معامل ومعارض) في آن واحد، وان المتجول في أسواق الصفارين لا يسمع إلا أصوات الطرق التي تصم الأذان.

السوق معلم أسسه التاريخ منذ العهد العباسي، في أزقة ضيقة المساحة، كبيرة العطاء بصناعاتها، التي أنشأت أبرز وأقدم الأسواق العراقية، ففي هذا السوق ومنتجاته تتجسد حضارة العراق وتاريخه بمطارق أمهر الصفارين المحترفين، لتشكل مختلف اللوحات والأشكال النحاسية، والتي أصبحت اليوم تواجه خطر الانقراض، يشكل النحاس المادة الأساسية للصناعات التي يشتهر بها السوق، ويسمى أصحاب المهنة الصفارين، وينقسم عملهم بحسب مراحل الإنتاج، فمنهم النحات باستخدام المطرقة والمسمار، ومصمم الزخارف التي ستُنحت على صفائح النحاس، وآخرون يعملون على صقل المنتج بعد زخرفته وتلميعه، أو يلوّن بعض أجزائه لإضفاء لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني، كما يمكن ترصيع تلك الأشكال بالأحجار الكريمة وشبه الكريمة، أو طلائها بمادة المينا، وهذه العملية تحتاج إلى خبراء لا يتواجدون إلا في هذا السوق، لأنها مهنة تتطلب الجهد والصبر، ونتائج العمل هي الإبداع الذي زيّن أغلب البيوت العراقية، وانتقلت مع السواح إلى العالم أجمع في العقود المنصرمة. بالإضافة إلى مبيض النحاس، والذي مهمة تبيض النحاس وتنظيفه من الصدأ والسواد.
كانت الأواني النحاسية تعد جزءا أساسيا من جهاز العروس، وخاصة في الريف، حيث كانت قيمة النحاس تأتي مباشرة لقيمة غرامات الذهب، التي يقدمها العريس لعروسه، وحين يتقدم شاب للزواج بفتاة فالاتفاق علي النحاس، كان يرتبط بالاتفاق مع الذهب، فكما يتم تحديد عدد غرامات الذهب التي سيقدمها لعروسه تتم مفاوضته أيضا علي كم قطعة من النحاس، أو كم حقة (الحقّه = أربعة كيلو ونصف إلا عشرين غرام) ويمكنه أن يشتريها ويتضمنها الجهاز، وذلك لكي يتمكن أهل العروس، من التباهي بالذهب والنحاس معا أمام المجتمع والأقارب والجيران، بأواني الطهو والأباريق والصواني وطشوت الغسيل، وغير ذلك من الأواني النحاسية، كما كان النحاس يمثل مخزونا إستراتيجيا للأزمات، فإذا ألمت بالعائلات أزمات مالية، فيكون الحل هو بيع جزء مما لديها من النحاس، لأنها كانت تمثل مشروعا استثماريا بلغتنا في أيامنا الحالية، وكانت قيمة سعره غالبا ما تزيد، ومن الطرائف القديمة المرتبطة بالنحاس أن الريفيين إذا ضبطوا لصاً أثناء السرقة، يقومون بتحميله نحاس البيت، ويدورون به في شوارع القرية حتى يفضحوه بفعل السرقة، ومن هنا جاءت كلمة زفُّوه بالنحاس دلالة علي فضيحة من يضبط بجريمة ويفتضح أمره بين الناس .
وقد ظل النحاس بمكانته إلى أن تطورت الأواني المنزلية، وظهرت الأواني المصنوعة من الألومنيوم وغيرها من المعادن، رخيصة الثمن وسهلة الاستخدام والتنظيف بديلا عن الأواني المصنوعة من النحاس، كما أصبحت غالبية العائلات تحتفظ بالأواني النحاسية بغرض الديكور والزينة، وانتشرت الأطباق الخزفية وتبدلت الأحوال جذريا وانحصر دور النحاس في الإطار الديكور ، وباتت تصنع منه تحف فنية وتماثيل ومباخر ذات طابع تراثي يشتريها الأجانب والسياح، أو يستخدم ديكورا في بالبيوت كأواني الزراعة، أو في الفنادق لإضفاء جو شرقي على قاعات الاستقبال.
سابقا جميع الأدوات المستعملة في البيوت العراقية للمطبخ، كلها كانت مصنوعة من الصفر (النحاس)، ولا يصلح للاستعمال بدون طلاء، نتيجة لتراكم الصدأ علية بسرعة، وهذا الصدأ أو كما يسميه العراقيين الزنجار يؤدي الى تسمم الأطعمة، وسابقا كانت الطبخ على الحطب مما تسود الأواني النحاسية من الاستعمال ونتيجة لهذه الترسبات المختلفة، وبمرور الزمن يتحول القدر الى اللون الأسود، أو الأخضر وله مضار صحية كثيرة على الطعام، وعملية طلاء الأدوات النحاسية تسمى (بياض) وهناك محلات خاصة للقيام بهذه العملية، ما زالت مهنة مبيّض النحاس في العراق تتحدّى الزمن، وتتّجه نحو لفظ الأنفاس الأخيرة، وهي من المهن والحِرف التي بدأت بالانقراض وتتلاشى، فكانت هذه الحرفـة تُدرُّ ربحاً كبيراً على مَنْ يعمل بها ويحمل اسم مبيّض النحاس.
(مبيض القدور أو النحاس) مهنة تقليدية قديمة، يقوم من خلالها الحرفي بتنظيف الأواني النحاسية، ويعتبر تبييض النحاس إحدى المهن التي توارثها الآباء عن الأجداد، فحافظت بشكل كامل على نسقها والتزامها بأدواتها على الرغم من التطور البسيط الذي طرأ عليها ،كدخول النار بالدرجة الأولى والمواد المنظفة القوية، و قد كثر عدد الأشخاص الذين امتهنوها في الماضي، ولا تزال هذه المهنة موجودة في بعض البلدان العربية مثل سورية والعراق وغيرها حتى وقتنا الحاضر، على الرغم من تراجع عدد مزاوليها لأنها تعتبر من المهن الخطرة وذات الخطورة المرتفعة بالإضافة إلى انخفاض عدد زبائنها، فمع تطور الأواني المنزلية واستعمال المعادن الرخيصة الثمن. ولم ييأس الحرفي ممارسة مهنته في تبييض الأواني النحاسية العتيقة، المستعملة في الديكور.
بعض الحرفين الذين ما زالوا رغم كل ما اجتاح العصر من حداثة، إلا أنّه يواظب على مهنته، فهو يقاوم كل التجاهل الذي أصاب واحدة من أهم المهن الحرفية القديمة، فلا أحد يذكر المبيّض وصوته الشجي الذي يصدح به، وهو يجوب الأزقة والمحلات والقرى، وهو يردّد عبارته الشهيرة (مبيّض... مبيّض)، لا تزال تلك الكلمة تتردّد بين كبار السن من السيدات، يتذكّرن جيداً كيف كن ينتظرن قدوم المبيّض ليبيّض لهن الأواني النحاسية التي تآكلها الصدأ، فتلك الصورة قد دخلت في زمن النسيان، بعد أنْ استباحت قدور التيفال والألمنيوم والفافون، واختفى الطهي بالقدور النحاسية، وبالتالي خسر المبيّض مهنته، ومعها حياته الحرفية.
قبل عدة عقود مضت استخدمت الأواني النحاسية في الطهي، وتسخين وتخزين المياه والشرب وغسيل الملابس، وحتى أطباق تقديم الطعام التي كانت تتكون من الطبق وغطائه، الذي يعمل على حفظ الطعام من التلوث، بالإضافة إلى احتفاظه بدرجة الحرارة أطول وقت ممكن، كانت هذه الأواني رائعة الجمال، توضع خلال عملية الطهي على نار الحطب مما كان يكسب الطعام نكهة خاصة، ومذاق متميز حيث كان من مميزات الطهي على نار الحطب في الأواني النحاسية، أنها تعمل على توزيع الحرارة على كامل الوعاء وبشكل متساو مما يعطي نكهة خاصة للطعام.
وأثناء عملية التبيض يحتاج النحاس إلى جهد كبير في تنظيفه، وسخونته الشديدة تحتاج إلى قدرة هائلة على الاحتمال، كان مبيض النحاس يقاوم الألم بالغناء الشجي، حتى لو كان غير مفهوم، لكنه يتوافق مع حركة جسده، ويكون فعالا في مقاومة حرارة النحاس، ويحرك جسده بحرية وكأنه يؤدى رقصة، ويقبض بيديه على شيء ثابت كشجرة أو عامود خشبي، وإذا أنجز الإناء يقفز قفزتين سريعتين ليعلن اكتمال تبييضه ليبدأ في آخر، حتى يخلَّص الأواني من مخاطر الزنجار الأخضر.
قديما وأيام زمان قد كان مبيض النحاس يتجول في القرى وينادي عن قدومه، لتأتيه النساء بالأواني التي أصابها السواد واخضر لونها، ويحط رحاله في مكان فضاء لعدة أيام، ويعمل بحماس في تبييض الأواني بقوة ليزيل عنها السواد الذي أصابها.
وفي البداية كانت تتم تبيض النحاس بواسطة كمية من الرماد الأحمر، الناتج عن تصنيع الطابوق الأحمر وماء النار ليضعهما داخل الأواني النحاسية، ويضع عليها طبقة كبيرة من الجنفاص، أو الكواني القديمة، ويقوم بالوقوف داخلها ويدعكها بقدميه بحركة دائرية منتظمة، إلى أن يلمع النحاس وتُزال من فوقه طبقة السواد والخضار.

         


تتم تحمية الأداة النحاسية ومن ثم تطلى بروح الملح المضاف له النشادر بقصد تخليص القطعة النحاسية من الأوساخ والشوائب التي قد تكونت عليها أثناء استخدامها بالمنزل، وزيادة في التنظيف يفركها أيضا بالرمل، حتى لا يبقى عليها أي ذرات من الأوساخ، بعد ذلك يستفاد من النشادر الحامي للصق مادة القصدير على القطعة النحاسية، وتبدأ في عملية التبييض من الجدار الخارجي للقطعة
ومن ثم الجدران الداخلية وقعر القطعة وهكذا حتى ينتهي تبييضها، عملية التبييض تستغرق وقتا يناسب حجم القطعة ما بين خمسة دقائق للقطعة الصغيرة، وحتى نصف ساعة للقطعة الكبيرة، والقطعة النحاسية ذات اللون الأحمر التي تكون جديدة، ولم تخضع لعملية تبييض من قبل، تحتاج لجهد أكبر من المبيض من تلك القطعة القديمة التي بيضت سابقا والتي يكون لونها أبيض، فالأولى تحتاج لحرفي تبييض ولكمية أكبر من معدن القصدير بشكل عام، والأدوات النحاسية المطبخية المنزلية تحتاج كل عام لعملية تبييض بالقصدير حتى تعزل المادة السامة الموجودة فيها، والملاحظ أن القصدير يتلاشى بعد مرور عام من عملية التبييض. وحول مواصفات من يعمل في مهنة المبيض يجب أن يكون الحرفي يتحمل التعب والجهد والرائحة غير المستحبة والضجيج، وفي الصيف عليه أن يتحمل حرارة نار التحمية التي يكون وجها لوجه معها، وفي الشتاء عليه تحمل دخان روح الملح الذي ينتشر بشكل كثيف أثناء عملية التبييض، ومرات يصاب الحرفي بعدة حروق في وجهه ويديه، ويتعرض لها خاصة عندما يضطر للنزول داخل وعاء نحاسي كبير مثل قدور غلي الحليب، لطلائها بالنشادر ومن ثم بالقصدير الذي يحرق أيضا عندما يكون حاميا، وحتى عيناه تتعرضان لدخول النشادر إليها أو لنترات القصدير فيبقى عدة ساعات لا يتمكن من فتح عينيه مع ألم شديد.
وحال ظهور الزنجار على الأواني النحاسية يعد دليلا على انتهاء مفعول طبقة القصدير المغلفة للنحاس وإشارة لضرورة إجراء عملية التبييض مرة أخرى ولأن النحاس كان يحتاج إلى جهد كبير في تنظيفه
المصادر
ملاحق جريدة المدى
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع