أيام زمان - الجزء / ٣١ - السدو

                        

                أيام زمان .... الجزء ٣١ -السدو

         

يعتبر الموروث الشعبي بمثابة خيط يربط الحاضر بالماضي، ويشتد هذا الخيط متانة ويصبح نافذة تطلّ على تراث الأجداد، عندما يسعى الإنسان إلى المحافظة على الجميل والناصع منه، إن كان فناً أو حرفة وصنعة أو نهج حياة. واليوم لا يزالون سكان البادية متمسكين بموروثهم الشعبي؛ رغم انتقالهم إلى المدن، في الوقت الذي كانوا البدويين يصارعون للبقاء بحثاً عن موارد الماء والكلأ، تميزت الحياة البدوية بعادات وتقاليد وأنماط مهنية أملتها طبيعة البيئة الصحراوية، بحيث تعكس هذه الحياة قدرة البدوي على التكيف مع بيئته القاسية واستغلال مواردها الطبيعية والانتفاع بها لصالحه.
حرفة عكست مضمون الموروث الشعبي لأهل البادية (السدو) من الحرف اليدوية التقليدية التي ازدهرت في البادية منذ القدم، ولا تزال صامدة حتى يومنا هذا ولم تتأثر بالتطور التكنولوجي والحداثة ورفاهية المدينة، على العكس من مهن أخرى كثيرة اندثرت وأصبحت جزءًا من الماضي، يستمد السدو رونقه وعراقته من وضعه الخاص في قلوب أهل البادية، المُتمسكين بتراثهم ومورثهم الشعبي.
وكلمة (السدو) في اللغة تعنى المد والاتساع، وهذا المعنى الفصيح يتناسب مع الحرفة، التي يتم من خلالها مد خيوط الصوف، وتحتاج الى جهد بدني كبير ودقة، ويعتبر من التقاليد الأصيلة للجماعات البدوية الممارسة له، لا سيما تلك التي عاشت في الصحاري والواحات، وشكل السدو بتصاميمه المختلفة وزخارفه وألوانه الزاهية، لوحات تراثية جميلة يتجلى فيها إبداع المرأة البدوية في أبهى صوره، والسدو هو أحد أنواع النسيج المُطرز البدوي التقليدي، الذي ينتشر في التقاليد البدوية، غالباً ما يستخدم وبر الجمل أو شعر الماعز أو صوف الغنم لحياكته، يستعمل السدو أيضا لحياكة الخيمة البدوية المعروفة ببيت الشَعَر، التي تحمي البدويين من حرارة الشمس وبرد الصحراء في الليل.

            

ارتبطت حياكة السدو منذ عقود طوال مع المرأة البدوية، نشاهدها تمد أمامها بساطا من الألوان تشد خيوطها بقوة أناملها المخضبة بالحناء، ويكفي التأمل في ألوان قطع السدو المنجزة ونقوشها الهندسية لمشاهدة صورة صادقة عن أولئك الذين عاشوا في ظلال البيئة الصحراوية، وعرفوا جيدا كيف يستغلون مواردها الطبيعية على قلتها وتطويعها لصالحهم.

  السدو لغوياً هو كل ما هو منسوج على طراز أفقي، إلا أن البدو لديهم تعريف أكثر تخصيصاً، فالسدو بالنسبة للبدو هو نسيج مطرز، تمثل خطوطه الملونة الممتدة على نسق واحد، فناً من فنونهم العتيقة، وهذا النسيج الصوفي الذي يحيكون به سجادهم، صار تراثاً مادياً معترفاً به من قبل كبرى المؤسسات الثقافية الدولية اليونيسكو، إذ أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، قبولها تسجيل تراث (حياكة السدو) ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي ضمن قوائمها الرسمية.
وتذكر النصوص الواردة من المدن السومرية، أن كميات الصوف المخصصة لعمليات النسج ، تصل الى عدة آلاف من الأطنان المشغولة في مدينة أور، ومن الملاحظات حول صناعة الأصواف في العصور البابلية القديمة، وجود نصوص عديدة تشير الى ضرورة غسل الخراف والماعز، قبل يومين أو ثلاث من جز أصوافها أو شعرها، ويتم ذلك مرة واحدة كل عام، حيث يجري تغطيسها في النهر للتخلص من الأتربة والطين، ومن الطبيعي أن لون الصوف لا يظهر إلا بعد غسله وتنظيفه جيدا، ويتم غزله ليصبح خيوطا ذات مطاطية ولمعان وقابلة لاكتساب الألوان بصورة سريعة، وتجري عملية التنظيف والتمشيط والغزل والقصر والتبيض ثم الصباغة وبعدها النسج، وهذا الامتياز لم يكن وليد ظروف أو صدفة، وإنما شكلت صناعة تاريخ وتراث على مدى الزمن، فالإنسان البابلي هو أول إنسان عرف هذه الصناعة ثم توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل.

      

السدو وحياكته حرفة إبداعية متناهية، توارثتها المرأة البدوية من أمهاتهن وجداتهن، وتعبر المرأة من خلالها عن مهارة يدوية فائقة، فالفتاة تبدأ بمزاولة الحرفة منذ نعومة أظفارها، وتعمل على مساعدة أمها في الغزل والصباغة وحياكة أجزاء بيت الشعر، وعند بلوغها سن السادسة عشر غالبا ما تكون قد ألمت بحياكة أغلب النقوش، وتحظى بكثير من إعجاب وتقدير جماعتها.
والبدويات مازلن يحافظن على الموروث الشعبي والاجتماعي، وتحديثه ليتلاءم مع متطلبات العصر، ويعتبرونه فناً مترفاً في ألوانه وأشكاله الهندسية، إلا أنهم كما نجحن في التكيف مع ظروف الصحراء القاسية بالحد الأدنى من الموارد، وكانت لديهن القدرة على التكيف مع شح المواد الأولية لخلق فنهن الخاص، فالبدويات تأخذن خيوطه من وبر الإبل وشعر الماعز وصوف الأغنام، التي كانت موردهن الفني لحياكة منسوجاتهن وما يتوزع على جدران خيمة العائلة البدوية ويفترش على أرضها، وفي الماضي كانت تُستخدم الأصباغ الطبيعية المستخرجة من الأعشاب الصحراوية، وكان مصدر الأصباغ التي تعطي خيوط الصوف الأبيض على المغزل ألوانها المتداخلة، حيث كانت النساء يستخرجن الألوان من الزرع والنباتات المتوفرة، وهي في غالبيتها نباتات صحراوية، على سبيل المثال النباتات الملونة كالحناء والكركم والزعفران والصبار والعرجون ذي اللون البرتقالي، أما الآن فقد تطورت طريقة تلوين الصوف حيث توجد الكثير من الأصباغ الملونة، فيشتري البدو الأصباغ الكيماوية، التي على الرغم من سهولة استعمالها إلا أنها ليست ثابتة، أما الوبر والشعر والقطن فتظل بألوانها الطبيعية من دون صبغ، تزين الأغطية والسجاد والوسائد، وتسجى على ظهور الإبل وسروج خيول المترفين منهم.
تعتمد صناعة (السدو) على جهد المرأة في المقام الأول، ويتجلى إبداع البدوية في زخرفة وإنتاج منسوجات غنية، برموز وأشكال هندسية، بألوان زاهية متنوعة وزخارف جميلة، تحمل دلالات اجتماعية مختلفة، مستوحاة من طبيعة أبناء البادية، ونقوش مستوحاة من البيئة الصحراوية، ذات دلالات شعبية مرتبطة بعادات وتقاليد أهل البادية، وتعبر من خلالها عن تقاليد فنية عريقة، ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، حيث تتفنن المرأة البدوية في زخرفة ونقش (السدو) بنقوش كثيفة، هي عبارة عن رموز ومعان مختلفة يدركها أهل البادية ويعرفون ما تحمله من قيم، فبعضها يعبر عن وسم القبيلة وبعضها عن المواسم ، وعكست رموزها ونقوشها الفنية الكثير من عناصر البيئة المحيطة بها، كأشجار النخيل والزهور والجمال والأغنام والصقور، بالإضافة إلى أدوات القهوة، والآيات القرآنية، فمثلا نجد استخداماً لأهرامات صغيرة والهلال والقباب، وأشكال هندسية في صورة مثلثات ومربعات.
تبدأ العملية بغزل الصوف بعد إزالة ما يشوب خيوطه من أوساخ وعوالق، والتي يسهل أن يلتقطها الصوف، عن طريق مشطها بأمشاط خشب حتى تمتد خيوطها وتفك تشابكها، إلا أن فك ارتباط خيوط الصوف بشكل مستقيم يصعب تخزينه، لذا تعمد البدويات اللاتي كن يتولين عادة مهمة حياكة هذا النوع من النسيج إلى لفه على ما يسمى المغزل، وهي أشبه بعصا خشب يلف حولها الخيط حين استخدامه.
ويأتي دور آخر للمغزل غير التخزين، ففي أولى مراحل الحياكة تساعد هذه الأداة في فتل الخيوط من دون أن تتشابك، ليبدأ بعدها عملية برم المغزل في سحب الخيوط والنسج في اتجاه واحد من الغزل، إلى إنهاء النسيج باتجاه عقارب الساعة أو بعكسها، ويحدد عدد البرمات أثناء الغزل قوة الفتلة وسماكتها في مظهر النسيج، فكلما زاد عدد البرمات أنتجت خيوط أكثر سماكة وقوة، وكلما قلت أعطت نسيجاً ناعماً وخفيفاً، لتأخذ بعدها دورها على (المدرة) المقبض الخشبي الذي يعلوه ذراع حديدية، طُور في فترة متأخرة ليساعد في عملية الغزل، وبعد ذلك تأتي مرحلة الصباغة، ويستخدم الصوف الأبيض دائما للصباغة، ويُلف الصوف المغزول على شكل (شيعة) كما يسميها البدو قبل صباغتها.
وتستخدم المرأة البدوية والتي تقوم بنسج السدو، عدة أدوات بسيطة في عملية غزل وحياكة الصوف، أهمها
(التغزالة) وهي عبارة عن عصا يلف عليها الصوف غير المغزول، والمغزل وهو يصنع من الخشب ويتكون من عصا ينتهي أحد طرفيها بخشبتين، طول الواحدة منها 5 سم تقريبا، مصلبة الشكل، يتوسطها خُطاف لبرم الصوف الملفوف، وتحويله إلى خيوط تُجمع على شكل كرات، والنول وهو آلة الحياكة ويسمى أيضاً السدو وهو عبارة عن خيوط ممتدة على الأرض، تربط بأربعة أوتاد على شكل مستطيل، و(المنشزة) وهي قطعة خشبية مستطيلة الشكل ذات طرفين حادين، وتُستعمل لرصف الخيوط بعد تشكيلها، ثم (الميشع) وهو عبارة عن عصا خشبية يُلف حولها الخيط على شكل مروحي، ويُفك جزء منه بطول مناسب قبل إدخال لقطة لُحمة جديدة، و(القرن) وهو عبارة عن قرن غزال، يستخدم في فصل خيوط السدو بعضها عن بعض ووضعها في ترتيب صحيح أثناء حياكة الزخارف والنقوش، أما المدراة فهي أداة مصنوعة من الحديد أو الخشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه ويُرجّل به الشعر الخام المستخدم في حرفة السدو، ويعتبر الصوف من أكثر الخيوط شيوعا لوفرته ولسهولة غزله وصباغته ونسجه.
من أهم المنتجات التي تُصنع من الصوف (بيت الشعر)، وهو مسكن أهل البادية في الصحراء، و(العدول) وهي عبارة عن أكياس كبيرة لحفظ الأرز، و(المزواد) وهي عبارة عن أكياس أصغر حجما من العدول وأكبر من (الخروج)، وتستخدم لحفظ الملابس، و(السفايف) وهي عبارة عن خيوط مُحاكة بطريقة جميلة وألوان زاهية لتزيين الجمال والخيول، ومن هذه المنتجات أيضاً البُسط أو الساحة وتعني المفارش التي تستخدم في فرش الديوانية، وتصنع عادة من الخيوط المبرومة، أما (العقل) فهو عبارة عن عدة خيوط تبرم باليد تستخدم في ربط الجمال والخراف والماعز، ثم (الشف) وهي قطعة من السدو من نوع المفرشة، مصنوعة من لون واحد وعلى أطرافها نقشة الضلعة بلون مختلف، وهي تُفرش على الجمال للزينة.
كما يتم في هذه الحرفة صناعة المساند المعروفة، وهي بمثابة تكأة يستند إليها الجالسون في الديوانية، وتسمى الخياطة الموجودة على أطراف المسند بالخشام، وتكون خيوط اللُحمة المستخدمة في الحياكة غالبا من القطن، الذي رغم افتقاره لمرونة الصوف إلا أنه متين وسهل الاستعمال للنسيج، ولا يتلف بسهولة، وقد اعتاد النساجون في الماضي على غزل القطن المستورد من الهند ومصر، ولكنهم الآن يشترون خيوطا جاهزة من الأسواق المحلية.
هناك ثلاثة ألوان رئيسية للسدو، سواء كان جاهزًا أم مفصلًا، وهي اللون الأحمر والعنابي والبيج، ويعتبر اللون الأحمر أكثر الألوان المفضلة لدى البدو، حيث أن الإقبال على شرائه يطغى على غيره من الألوان المختلفة، بالإضافة إلى الألوان بجانب جودة القماش والنقشات المنسوجة على السدو ومواصفاته، تتحكم بشكل كبير في سعره، خاصة في ما يخص التفصيل، مؤكدا أن الإقبال على شراء السدو واسع، ويزداد شيئاً فشيئاً مع دخول فصل الشتاء، حيث يفضل العديد من البدو، استبدال السدو القديم بآخر جديد، وأن طقم السدو يأتي بمرتبتين وأربع وسادات ومسندين، والبعض يشتري أكثر من طقم للمجالس الكبيرة.
للحديث تكملة يتبع في العدد القادم
المصدر:
وكالات –تواصل اجتماعي–نشر محرري الموقع

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/mochtaratt/54539-2022-07-01-09-42-23.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4248 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع