مقاهي الجعيفر الثانية والعطيفية.. أحياء لوجودها وأدوارها
لا يخفى على أحد أن المقاهي قد وجدت في المحلات الكرخية المختلفة تلبية لحاجات أهلها العديدة منها زيادة التواصل الاجتماعي وتداول الأفكار وتبادل ألأراء المختلفة التي تعكس بالتالي اختلاف ثقافات أهل المناطق الكرخية،
كما أن وجود فائض من الوقت وعدم وجود محلات تسلية أخرى عند أغلب سكنة هذه المحلات فرض أنشاء هذه المقاهي لقتل الوقت والتسلية وتبادل الأخبار وبرزت الحاجة الى ابتكار وممارسة ألعاب معينة في هذه المقاهي كالدومينو والطاولي ومن بعدهما جاءت لعبة الورق ( القمار) لتضيف متعة أخرى ألى متع الألعاب الموجودة سابقاً.
وقد أثرى المؤرخون والباحثون بكتاباتهم وعلى صفحات الصحف والمجلات والدوريات العديدة، تأريخ مقاهي بغداد بشكل عام وبعض من مقاهي الكرخ بشكل خاص، ولكن من خلال متابعتنا لهذه الأبحاث والمقالات لاحظنا أن هناك ثغرة كبيرة في ألقاء الضوء على تأريخ مقاهي منطقة الكرخ بشكل عام والجعيفر الثانية والعطيفية بشكل خاص، حتى أنه لم تردنا أية صور أو معلومات مكتوبة عن أغلبها، وهي التي كان أغلبها مكان تجمّع لرجال وشباب هذه المحلات على اختلاف مشاربهم وآرائهم في فترات مضطربة من تأريخ العراق السياسي والاجتماعي.لقد ألقينا بعض الضوء سابقاً على قسم من هذه المقاهي مثل مقهى ستوري ومقهى أبو عامر ومقهى المشاهدة، وهنا سنلقي الضوء على القسم ألأخر منها:
• مقهى الريف العربي
نقف بإجلال عند المكان الذي كان شاهداً على مقهى شهير من مقاهي الكرخ ومنطقة الجعيفر الثانية ألا وهو مقهى الريف العربي لصاحبها أبو عامر (الحاج محسن) والذي فقد ولده الكبير بحادث دراجة نارية بشكل أفجع جميع الكرخيين وكان جايجي المقهى هو الأخ الكبير للجميع (جبار الجايجي). والمقهى كان قبلة لشباب وشيوخ محلة الجعيفر الثانية والمحلات المجاورة ورواد أخرين من الأعظمية والكاظمية وحي دراغ وغيرها، ذلك أن هذا المقهى قد جمع المتناقضات جميعها في جعبته فترى أن باحته الخارجية المكشوفة والتي تطل بسياجها الحديدي على شارع موسى الكاظم القديم حيث أمست هذه الباحة مجالس لكبار رجال الكرخ وشيوخها ووجهائها كالحاج أحمد الياسين ورشيد دراغ وعيسى أبو الطحين وعبد الحميد شميط وعبد الحميد ألأسحاقي والحاج محمود حمادي والملا حافظ خليل وشفيق القيسي أبو كمال ومزاحم السامرائي وحميد سهيل ومهدي السامرائي وغيرهم كثير.
جلسات الشيوخ المحببة في مقهى الريف العربي أيام زمان
وفي حادثة جرت أمام المقهى أنه أجتمع في أحد الأيام بعض الأصدقاء منهم ( محمد حنتو- أبو زينب وأسماعيل الشيخ أمين ونعمة الجسوم وخالد أحمد الياسين وعلي السامرائي والد بطل قصتنا المعروف (بوليد دية) ووليد اللوز وطاهر حيدة)، وذلك لحضور عقد قران أحد الأصدقاء في أحدى القاعات ولما رآهم (وليد) أصر على الذهاب معهم ولما كان من غير الممكن أن يرافقهم كونه كان يرتدي الدشداشة، فقد ناشده وتوسله الجميع أنهم سيجلبون له الحلوى والجكليت التي ستوزع في الحفلة، ولكنه أبى ألا أن يرافقهم، وتمسك بشدة بسيارة محمد حنتو، الى أن طرأت (لآبي زينب) فكرة بأن يذهب الجميع ويأخذ هو من يتبقى مع وليد، وطلب من وليد أن يدفع السيارة قليلاً بعد أن ركب فيها باقي المدعوين وعندما أستدار (وليد) لدفع السيارة أنطلق بها أبو زينب لا يلوي على شيء وهنا صاح جميع من في المقهى ( هيه .. عافوا) فجن جنونه وصاح بأن تغلق المقهى قبل أن يكسر زجاجها جميعه بالحجارة، وفعلاً خرج جميع الرواد وتجمعوا خارجها وفي هذه الأثناء توقفت سيارة باص المصلحة المتوجهة للكاظمية فصعد بها وليد ليعود الى داره الكائنة في الشالجية فسأله الجابي (يابة ليش الناس متجمهرين .. شكو) فأجابه وليد (هيه .. شلون خلقته متدري مو جمال عبد الناصر جان هنا قبل شوية). بينما ضمّت قاعة مقهى الريف العربي الداخلية المغطاة مناضد وتخوت خشبية توزع عليها شباب المنطقة وبقية الرواد من خارجها يمارسون هواياتهم المحببة في لعب الطاولي والدومينو والورق ونذكر من شباب المنطقة (صادق الياسين وخالد الدليمي وطالب نوفة ومحمد رقيب وعادل المعيدي وسعد عبد الله وأخيه سمير وعادل عبود ورزاق السامرائي وحسن علوان ويوسف شميط وعدنان الخابوري وقاسم أبن أبو الحش وأخيه أحمد وحميد المشهداني والمرحوم زهير عبد الكريم وظهوري وفوزي الجوعي وطه صبري ورزاق درع وأخيه سعدون الجبوري ونوري محمود حمادي وأخيه مثنى وآخرون كثر).
بعض من شباب الجعيفر الثانية في جلسة بمقهى الريف العربي الحديثة
وعلى سطح المقهى في طابقه الثاني كانت هناك مجالس للسياسيين من أبناء المنطقة يتناولون في جلساتهم أخر مستجدات ألأحداث أنذاك وتسمع منهم سجالاتهم السياسية ومنهم (ثامر محسن وجهاد علوان وخالد أحمد الياسين ورؤوف محمود الحمادي ومحسن أبو دية وعبد الوهاب السامرائي وأيوب العبيدي وأحمد صبري وصباح عداي وأمير الحلو، وعبد الحسين الربيعي، والمرحوم الدكتور باسل الكبيسي) الذي أغتالته يد الغدر الصهيونية في باريس العام 73، وأستشهد أبناؤه الثلاثة وزوجته في العام التالي بحادثة سقوط طائرة كانت تقلهم فوق الأراضي السورية حيث أن للشهيد باسل مواقف نضالية عديدة وخاصة مع رفيق نضاله السيد عبد الحسين الربيعي في منطقة الرحمانية في الكرخ، لقد كانت رحلة باسل الكبيسي مع الحياة قصيرة ولكنها طويلة مع النضال الحافل بالأعمال النضالية الجسورة والتضحيات وهناك آخرون كثيرون غيرهم كانت لهم مواقف بطولية اثناء مرحلة حكم عبد الكريم قاسم وتورطه في الصدام مع القوميين من شباب المنطقة الذين كانوا يدافعون عنها ضد المد الأحمر.
صورة الشهيد باسل الكبيسي من أرشيف العائلة
وأذكر أنه وخلال أضراب البنزين المعروف عام 1959 تحرك القوميون العرب في المنطقة بالأشتراك مع البعثيين فيها أيضا بتنظيم تظاهرات كبيرة ، أجبرت الحكومة وحاكمها العسكري العام أحمد صالح العبدي على فرض حالة منع التجول في المنطقة وتم نشر وحدات من الجيش أخذت تفتش الدور بحثا عن أسماء معينة ومن أكثر ممن ذكرت أسماؤهم سابقاً ، فحدث صدام مع الجيش وحرقت أحدى ألياته على شارع موسى الكاظم وتم قتل ومطاردة أفرادها ألذين تسللوا هاربين من حافة نهر دجلة، فأعتقل أثر ذلك أغلب شباب المنطقة وأودع بعضهم كأمير الحلو ومحسن أبو دية وخالد أحمد الياسين في المعتقلات لفترة من الزمن.
وفي حادثة معروفة لشباب الكرخ، أن قام بعض من شبابه بالسب وشتم موكب (فاضل عباس المهداوي) لدى مروره من أمام المقهى ونذكر منهم (صادق الياسين وهشام إسماعيل وفاضل المشهداني وخالد دية وغيرهم) وقد أجبر صاحب المقهى المرحوم (محسن أبو عامر) على أن يعطي أسماء الشباب وأعتقل أحد عشر منهم وتمت محاكمتهم أمام محكمة ألأحداث التي كان مقرها في العيواضية وتترأسها القاضية (صبيحة الشيخ داوود) وتوسط بعض شيوخ وكبار رجالات المنطقة لدى الحاكم العسكري العام آنذاك (أحمد صالح العبدي) لأطلاق سراحهم بعد أن تم أخذ تعهدات منهم بعدم تكرار ألأمر ثانية. لقد اختصرت هذه المقهى تأريخ الجعيفر الثانية ونضالات شبابها طيلة أكثرمن عشرين عاما من عمرها قبل أن تهدم ويقام بدلاً عنها ما يعرف حالياً بساحة حماد شهاب.
• مقهى أبو كامل أطلق عليها لاحقاً مقهى أبو محمد
هذا المقهى لايزال موجوداً في محلة الجعيفر الثانية وفي الشارع المؤدي لملعب الزوراء الرياضي وبجانب معمل كاشي ألأخوين والذي اشتراه السيد محمود سلوم حمادي (أبن حجي جلوب)، والمقهى هو ملتقى شباب ورجال المنطقة وأطرافها وكان يخدمهم العم أبو كامل (رحمه الله)، ولو أن المقهى كان صغيراً جداً إذ كان يشغل دكانا واحدا فقط ولكنه كان كبيرا في ذكرياته وعدد الذين مروا عليه وجلسوا على تخوته ومارسوا لهوهم على مناضده وخلال خمسة عقود من الزمن.
وبعد وفاة المرحوم أبو كامل آلت المقهى الى أبو محمد والذي كان وبحق الراعي والصديق لكل الكرخيين لفترة طويلة، لما عرف عنه من كياسة وأدب جم وثقافة عامة يغلفها حبه الكبير لكل أهل الجعيفر الثانية ولازالت ذكراه العطرة تتناقل بينهم من جيل لأخر وقد مضى على وفاته أكثر من عشرين عاماً وكان رحمه الله لا يقبل أن يجلس أي غريب عن المنطقة بين شبابها وعلى تخوت المقهى وكان يقول دائما أن لشباب الجعيفر الثانية وبيوتها أسراراً وحكايات لا يجوز أن يطلّع عليها الغريب.
محمد صبري والمرحوم أبو محمد وصادق الياسين وعادل عبود والمرحوم غازي وجمال رشيد
بقيت المقهى مغلقة لفترة طويله بعد وفاة المرحوم أبو محمد ألا أن تمكنا من أقناع المرحوم توفيق محمود الحمادي أبو بهاء، باستلامها وأدارتها كونه من رجال المنطقة ويعرف شبابها ولأنها كانت بمثابة الملاذ للجميع من أهل المنطقة ومن المناطق الأخرى المجاورة.
سعد عبد الله وجمال حمزة من محلة الجعيفر الثانية على مقاعد اللهو البريء
مقهى أبو محمد في منطقة الجعيفر الثانية وروادها من شباب المنطقة
• مقهى الوطن
عرفت عن هذه المقهى المنسية من خلال خالي (صادق أحمد الياسين)، إذ كانت تشغل نفس موقع مقهى (أحمد جاكوج)، في خمسينيات القرن الماضي، وكان جّل روادها من شباب المنطقة ذوو التوجه القومي العروبي والعنيف أحياناً، مما كان يثير عليهم حنق السلطات، ألى أن تركها صاحبها المرحوم مهدي السامرائي والد صديقنا العزيز صلاح، وأستأجر المكان بعدها أحمد وأفتتح مطعما ومقهى بقيت لغاية نهاية سبعينيات القرن الماضي.
• مقهى أحمد جاكوج
تشرف المقهى على شارع موسى الكاظم، فبعد انتقال محل نجارة وأثاث السيد محمود الجميلي شغل المكان بهذا المقهى والمطعم وأطلق عليه أحمد جاكوج لكثرة نميمته على الناس فلم يسلم من لسانه أحد، وقد وضع تخوت خشبية خارج المقهى ليكون مقهى صيفياً يقدم فيه المشويات والتشريب وأشتغل في المقهى لخدمة الزبائن المدعو جبار (الملقب بصاروخ) حيث كنا عندما نناديه لجلب الشاي أو الطعام يصيح (جيتك .. صــــــــــــاروخ)، اما القسم الداخلي للمقهى فقد كان شباب المنطقة يؤمونه شتاءاً للعب الدومنة والطاولي والورق. وفي طريفة حدثت أحد أيام الصيف أنه في الشارع العام كانت هناك حفرة في التبليط وصدف أن مرت إحدى سيارات الأجرة تحمل فوقها صناديق الدجاج الحي ودخلت السيارة في الحفرة بشكل عنيف مما جعل اقفاص الدجاج تهتز بقوة ولم يفطن السائق أنه قد ترك وراءه ديكاً سقط من أحد الأقفاص وبقي واقفا في نهر الشارع، بعدها حدثت مشادة كلامية بين أحد الحضور وخليل (ملوح) كلاً يدعي ملكيته للديك ، والديك واقف بين الأثنين لاحول ولا قوة له ، فذهب خليل الى الحاج أحمد الياسين مدعيا ملكيته للديك فحكم له وأمر ألأخر بأعطاء الديك الى خليل. ومن النوادر الأخرى أن المرحوم الحاج (أحمد الياسين) توسط لدى مدير عام مصلحة نقل الركاب آنذاك ( المرحوم يحيى عبد الباقي) لتوظيف حسان الشنوي، أحد سكان المنطقة بصفة سائق في المصلحة، وفعلاً باشر فيها وفي عصر أحد الأيام وبينما كانت تجلس مجموعة من شباب المنطقة على ناصية الرصيف العائد لمقهى أحمد جاكوج تلعب الدومنة، فإذا بباص مصلحة يقف أمام المقهى وينزل منه حسان الشنوي ويبدأ بلعب الدومنة معهم تاركاً الركاب في هرج ومج غير مصدقين ما يحدث، ألى أن أجبروه على العودة للباص ثانية، هذه الحادثة أجبرت المدير العام على طرد حسان من وظيفته، ألا أن توسط الحاج أحمد الياسين كانت جاهزة لتعيده للعمل مع تعهد منه بعدم تكرار ما فعله ثانية. وفي أحد الأيام شاهدنا (حجي عبود أبو كرومي) يحمل قفصاً مليئاً بالرمان وعندما سألناه من أين له به، أجاب أنه هدية وسوف يذهب لباب المعظم لبيعه وفعلا وبعد وصول باص المصلحة تعاون البعض على وضع الصندوق داخله وهنا تصرف حجي عبود على أنه ضرير حتى لا يدفع بطاقة الباص، وكان أن صادف أن كان الجابي ذلك اليوم هو زميلنا (محمد القبطان أبو عماد) فعرفه وطلب من بعض الركاب أن يساعدوا الحجي للصعود للطابق الثاني ووضع الصندوق تحت الدرج، سار الباص ألى أن وصل الى منطقة التكارتة وتوقف أمام مقاهي الباشا وعزاوي ومهدي الدونكي، وصاح أبو عماد على البعض لأستلام الصندوق وتوزيع الرمان على الجميع، سار الباص ثانية الى وجهته باب المعظم وهناك نزل (حجي عبود) ولما لم يجد الصندوق ثارت ثائرته وأخذ يزبد ويعربد فاتحا عينيه وهنا سحبه أبو عماد الى مقر المديرية وغرم بمبلغ خمسة دنانير لكذبه على الجابي وتضاهره بالعمى .. وفوك صندوق الرمان زاع الحجي خمس دنانير. وليس بعيدا عن مقهى أحمد جاكوج، أعاد ألحاج مهدي السامرائي والد السيد صلاح زميلنا العزيز أفتتاح مقهى خاصا به نكاية بأحمد ولجلب رواده الى مقهاه ولكنه أغلقه في النهاية لعدم التفرغ.
في هذا المكان أنشأت مقهى ومطعم أحمد جاكوج ومقهى مهدي السامرائي ومحل حميد الناصري
•مقهى الوحدة العربية
أفتتحه السيد عدنان الذي كان يدعى (عدنان وحدة) نسبة الى المقهى وكان موقعه هو موقع قريب من مديرية تربية الكرخ الحالية وشيد المقهى ليكون مقهى صيفيا فقط حيث كان أغلب رواده من الشباب القومي ومن ذوي النزعة الوطنية والعروبية وفي فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم حيث كان الاستقطاب والتجاذب على أشده بين الطرفين وقد هجم على المقهى الشيوعيين مرات عديدة، وفي أحد المرات تم حرقه من قبلهم ألى أن أندثر المقهى بعد فترة بسبب افتتاح كازينو القبطان التي طغت على باقي المقاهي في ذلك الوقت.
منظر مشابه لما كانت عليه مقهى الوحدة العربية
• مقهى البيروتي
تقع مقهى البيروتي في الجهة الغربية لنهر دجلة "كرخ بغداد" وتحديداً عند نقطة التقاء محلتي الجعيفروالعطيفية، وتم بناؤها عام 78 واختير اسمها نسبة الى مقهى بالاسم نفسه تقع في ساحة الشهداء غرقت بغرق بغداد في خمسينيات القرن الماضي بعد أن كانت ساحة الشهداء مركزاً للكرخ حيث تضم أشهر المقاهي والفنادق، ونقطة لقاء لأغلب الوافدين الى بغداد من محافظات العراق ،والمقهى ببنائها الجميل وموقعها الرائع على شاطئ دجلة تعد اسماً ضمن اسماء مقاهي بغداد القديمة، ولم تعد المقهى بحيوية حالها حال معظم المقاهي التي فقدت أريجها بل واندثر قسم كبير منها مما يجعلنا نشعر بالمرارة والألم ونحن نرى جزءًا لا يستهان به من تاريخ بغداد انتهى والى الابد.
صورة حديثة تظهر مقهى البيروتي الحالية وموقعها في بداية كورنيش العطيفية
والمنطقة التي تقع عندها المقهى الحالية هي من مناطق العاصمة المعروفة منذ عقود بعيدة فقد كان النهر مقسماً الى مجموعة "شرائع" وكل شريعة تحمل اسماً معيناً مثل شريعة النواب وشريعة خضر الياس وغيرهما من هذه المواقع النهرية الصغيرة، اما منطقة البيروتي الحالية على النهر فكانت تدعى "شريعة الجاموس" لأن مربي الجاموس كانوا يصحبون حيواناتهم الى هذا المكان من منطقة النزيزة في الرحمانية ويتركونها في الماء لساعات طويلة للسباحة وتبريد أجسامها، مثلما كانت المنطقة مأوى لربات البيوت لغسل الافرشة قبل ان تعرف بغداد إسالة الماء، بل كانت نسوة البيوت القريبة من الشريعة يعمدن حتى الى غسل الصحون.
شريعة الجاموس في الكرخ
• مقهى القبطان
وجاغ أفتراضي لمقهى القبطان
بعد افتتاح كورنيش العطيفية سنة 1959 شيدت مقهى القبطان في بداية الكورنيش وعلى قطعة من الأرض محصورة بين الشارع ونهر دجلة، والأرض تعود ملكيتها بالأساس لوزارة الري، وكان المرحوم الحاج سليم القبطان هو صاحب الفكرة والتنفيذ عندما خطط لتكون هذه المقهى ملاذ ومتنفساً لأهل الكرخ والعطيفية الأولى على حد سواء، اشتملت المقهى على غرفة ملحق بها جناح صغير لعمل الشاي والقهوة كما استخدمت الغرفة لمقهى شتوي من قبل الزبائن، وقسمت أرضية المقهى الى ثلاثة أقسام، أستخدم القسم ألأول منه لجلوس الشباب والرجال لغرض ممارسة العابهم في التسلية كالدومينو والطاولي والورق، وقسم ثان شغل من قبل العوائل كي تستريح من حر صيف بغداد وتتأمل جمال منظر نهر دجلة الخالد، وقسم ثالث كان مهيئاً بالكامل لراحة الدارسين من الطلبة وتم عزل هذا القسم ليكون في أخر المقهى حيث الصفاء والسكون وبعيداً عن ضجيج رواد المقهى الأخرين. كما تم بناء غرفة خارج المقهى استخدمت لغرض عمل المشويات لخدمة رواد المقهى.
صورة جوية توضح بداية الكورنيش وعلى اليمين موقع مقهى القبطان
كما تم زرع أرضية المقهى بالثيل ألأخضر وأحيطت بالأشجار من جوانبها الثلاثة الشمالي والجنوبي والغربي لتضفي جواً خلابا ولتنعش الهواء بالخضرة الموجودة حتى تنكسر حرارة الجو ويتلطف الهواء في أرجاء المقهى، مع ألأبقاء على الجانب الشرقي من المقهى مفتوحا بعض الشيء على المنظر الخلاب والجميل لنهر دجلة. كما زينت ألأشجار بالمصابيح ووضعت مصابيح الفلورسنت على بعض الأعمدة لتضفي البهجة والحيوية على المكان، كان المكان والزمان ساحرين في تلك
الشهيد جمال هزاع ووليد المشهداني وصلاح مهدي على أرائك القبطان
الأوقات، وكنت تشاهد جموع العوائل تقصد الكورنيش الحديث الأنشاء من مختلف الأماكن وتفترش الأرصفة للتمتع بمساءات الكرخ الجميلة وكما كانت تتجمع العوائل بالمئات على ضفاف نهر دجلة وخاصة أيام الاحتفال السنوي بثورة 14 تموز، حيث تطلق الألعاب النارية وتنطلق المسيرات النهرية بالقوارب المزينة بالإضاءة من نقطة انطلاقها من جسر الصرافية الحديدي ولغاية جسر الجمهورية في الباب الشرقي، كما كان الناس يستمعون الى أوقات متأخرة لأصوات المطربين والمطربات في الحفلات التي تقام آنذاك في دور بعض الميسورين من سكنة شارع العسكري على الجهة الأخرى من نهر دجلة وعلى جانب الرصافة. وعند بلوغنا السن التي يسمح لنا بها اجتماعيا في أرتياد المقاهي أخذنا نتردد على مقهى القبطان لغرض الدراسة والتحضير للأمتحانات، وكان المرحوم أبراهيم اليتيم (أبو خليل) لايألوا جهداً في سبيل أضفاء أجواء الراحة والسكينة لقسم الطلبة، وكان رحمه الله لا يتردد في طرد أي شخص يعكر صفو المكان ويثير الضوضاء التي تؤثر على تركيز الطلبة.
رعد هزاع ومحمد الشرطي وكريم حمدي ووليد عباس ثم ثائر حامد
وعند أنتهاء فترة الامتحانات كنا نرتاد المقهى للقاء الأصدقاء وتجاذب أطراف الأحاديث وسماع النكت الجديدة والفكاهات والقفشات التي كنا نعملها ببعض الأصدقاء وممارسة ألعاب التسلية، كما كان يجمعنا برنامج الرياضة في أسبوع الذي يقدمه مساء كل يوم ثلاثاء نجم التلفزيون الأستاذ مؤيد البدري يوم الثلاثاء كان يوم أبي زيدون واعتقد إنكم حزرتم من أعنى فان كل العراقيين يعرفون من هو أبو زيدون؟ نعم أنه مؤيد البدري شيخ المعلقين وأبو الرياضة في العراق الذي كان صوته يصدح في كل تلفزيون وراديو في العراق وهو يعلق على مباريات كرة القدم التي يعشقها العراقيون وخصوصا عندما يلعب منتخبنا لعبة دولية أو نهائية، فتجد أن الجميع من شباب وأطفال وأمهات وبيبيات تتأجج مشاعرهم ويتعصبون ثم يهدئون ثم يقفزون ثم يفرحون ثم ينفعلون متفاعلين مع نبرة صوته وبناءا عليها وعلى وصفه للمباراة. وكان برنامجه (الرياضة في أسبوع) والذي لا يقل شعبية عن برنامج العلم للجميع بل يفوقه -لأن العراقيين شعب رياضي أكثر من كونهم شعب علمي – يوحد كل أفراد العائلة أمام الشاشة الصغيرة (محطة تلفزيون بغداد وسميت بعد ذلك بالقناة الأولى) التي كانت المنفذ الوحيد للعراقيين لتلقي الأخبار الطازجة ورؤية أعاجيب العلم والرياضة والمباريات والأفلام. كان الجميع ينتظر أن يشاهد تايتل البرنامج وما أن يسمعوا موسيقى البرنامج الافتتاحية (موسيقى افتتاحية أوبرا حلاق اشبيلية لروسيني) اطمأنوا بأن الساعة قد دقت التاسعة وقد حان وقت البرنامج. وفيه يطلع العراقيون على كل أخبار الرياضة وأخبار المنتخبات العراقية والدولية وجداول المباريات ومقاطع من المباريات العالمية ككرة القدم والساحة والميدان وكرة الطاولة والسلة والتنس وغيرها وكذلك اللقاءات مع اللاعبين والمدربين والوفود الرياضية الأجنبية والعربية وتحليلات لألعاب وأهداف كروية وأجمل ما كان يقدم في نهاية البرنامج هو مقطع من احدى عروض الرقص على الجليد.
الأستاذ مؤيد البدري وبرنامجه الناجح الرياضة في أسبوع
لقد أصبح هذا البرنامج وبرنامج العلم للجميع من تراث البغداديين المعاصرين الذين ما أن تذكرهم بالسبعينات حتى يذكرون لك هذا الثنائي الرائع المتمثل بـ (مؤيد البدري وكامل الدباغ). وكان من رواد هذا المقهى شخصيات مهمة أدبية وفنية وسياسية وتراثية كثيرة كانت تتردد بشكل شبه يومي للاستمتاع بجلسات المقهى الرائعة والتواصل مع رفاق المحلة بعد تناثرهم في أرجاء الكرخ.
وبجانب المقهى باتجاه جسر الصرافية وتحت سدرة كبيرة ووارفة حيث كنا نقرأ تحت ظلالها في زمن الدراسة، أتخذ بعض من (بيت رواك) مكاناً لصنع وتصليح الزوارق الخشبية (البلام) والتي تستخدم من قبل البلامة وصيادي الأسماك النهرية وليس ببعيد عنهم يضع (أبو لطيف الكرادي) عربته المليئة برؤوس الخس العملاقة لأننا كنا لا نستطيع أكمال أكل الرأس طيلة النهار لضخامة حجمه، كما أشتغل في المقهى شخص يدعى موسى وكنا نطلق عليه (موس)، أشتغل في مهنة سكف الأسماك تحت المقهى وعلى حافة النهر، حيث نقوم بشراء السمك الحي من الصيادين (السماجة) وهو يقوم بسكفها لقاء مبلغ زهيد مستمتعين بتناول وجبة عشاء لذيذة من سمك دجلة المشهور.
السمك المسكوف الأكلة الشعبية العراقية الأولى
وفي حادثة لا تنسى، وفي مساء أحد الأيام الصيفية الجميلة من عام 1977 وقفت أمام المقهى سيارتي مرسيدس من سيارات الرئاسة ونزل منها بعض من أفراد الحماية وسألوا المرحوم أبراهيم اليتيم عن مكان تواجد (موسى)، فركض وجلبه أمامهم وهو يبكي ويصيح (نعل روحة لأبوية .. والله ما مسوي شي .. أني أصلا اليوم ما لعبت قمار!!)، فطمأنه أحد أفراد الحماية وأبلغه أنه سيطير غدا الى باريس لسكف السمك للسيد النائب صدام حسين!!!.
صدام حسين وجاك شيراك يتبادلان ألأنخاب بعد توقيع اتفاقية التعاون العلمي والفني بين البلدين
وعند عودته أخذ يقص علينا ماذا حصل هناك وأنه كاد يجن من كثرة الأسماك التي سكفت في تلك الليلة وأنه كان أسرع الباقين في أنهاء سمكاته، وقد أرسل له السيد النائب مكافأة، بعثرها لاحقاً في القمار. بعدها عرفنا أن طائرة كاملة أقلعت وهي محمله بسمك الشبوط والكطان فقط وخشب الطرفة والسماجة الذين قاموا بسكف السمك، كما سمح أبو خليل ببيع الفشافيش تحت المقهى على الشط وأستأجر المكان (ستوري) والملقب (كجة) خال صديقنا العزيز سعد عبد الله (أبو مروان) وفي حادثة لازالت حديث الباقين من رواد القبطان، أنه بينما كنا جلوس في مساء أحد الأيام وإذا ب (هوبي وأخيه الصغير ولدي ستوري) يتراكضون في أرجاء المقهى وكلآ منهما يحمل (صيخ) ويصيحون وينه .. وينه ؟؟حتى وصلا الينا وكانوا يبحثون عن كلب سرق من عربة والدهما لحمة كبيرة، واستمكناه تحت قنفاتنا جالس القرفصاء واللحمة بين فكيه وأبتدأ بضربه وغرز الشياش في بطنه والمسكين يتأوه ويعوي (عووووووو) الى ان ترك الغنيمة وفر هاربا لا يلوي على شيء، وأخذا القطعة وتم تشيشها لبيعها للناس وكأن شيئاً لم يحدث.
ستوري (كجة) أبو الفشافيش تحت مقهى القبطان
وفي أحدى الأمسيات حضر الى المقهى الرئيس السابق عبد السلام عارف، وتم استقباله من قبل الكرخيين بالهتاف وبحرارة ، بعدها ألقى (رحمه ألله) خطاباً نارياً ضد ما سماهم قوى الظلام وخفافيش الليل ، وبعد أن أنهى كلماته سأل الحضور إن كان هناك من لديه مشكلة أو سؤال، فتجرأ احد الحاضرين وسأله عن مصير معاملات منح الجنسية للموسويين (المكاصيص)، فأجابه بأنك مكصوصي ولا جنسية للمكصوص، فضج المكان بالضحك والتصفيق، بعدها أنب رواد المقهى على إضاعة وقتهم بالدومينو والطاولي والورق والأهل يعطوكم النقود لتستفيدوا منها لا لتصرفوها على الترهات، وأمر أبراهيم اليتيم أن يجمع كل الألعاب من على المناضد، ثم غادر مودعا من رواد المقهى.
الرئيس السابق عبد السلام محمد عارف
وكان زميلنا قاسم شميط الذي نلقبه (قاسم السيد) دائم الحضور يوميا للمقهى وخاصة بعد انتقالهم الى حي الشرطة بعد أستملاك دارهم في الجعيفر، وكان يجلب معه عشاءه في كيس من القماش وكنا نمازحه ونطلق عليه ها جايبة ل (جيس الحياية يعني الأفاعي).
وفي أمسيات شهر رمضان الكريم كانت تقام لعبة الصينية التي يجيدها الحاج عبد الواحد العياش (أبو معتز) وبعض من أصدقاءه الذين يأتون للمقهى لممارسة هذه اللعبة مع الحاج عبد الواحد.
لعبة الصينية الرمضانية الشهيرة
بدأ نجم المقهى بالأفول بعيد وفاة المرحوم أبراهيم اليتيم (أبو خليل) واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي وتزايد أعداد الشباب المتوجهين الى جبهات القتال واستشهاد البعض منهم، فأنعكس ذلك نفسيا على كثير من الشرائح التي كانت ترتاد المقاهي بصورة عامة والقبطان بصورة خاصة، كما ساهم بعدها تحويل شارع كورنيش العطيفية الى مرفق تجاري والبدء بإنشاء العديد من المطاعم عليه في التعجيل بإطلاق رصاصة الرحمة على مقهى القبطان وتأريخها الزاخر وتم تحويلها هي الأخرى الى مطعم حمل نفس ألأسم يديره ألآن (سلام) ألأبن ألأصغر لأبراهيم اليتيم، فولت أيامها الى غير رجعة ولم يبق منها سوى الذكريات نرويها للأجيال لكي يعرفوا كيف كان تاريخ مقهاهم وأيامها الجميلة. كانت المقاهي الكرخية القديمة ولا زالت ملاذاً لشريحة كبيرة من الناس حيث تطرح وتناقش همومهم وخصوماتهم ونقاشاتهم الادبية والفكرية إلا ان متاعب الحياة لم تنهك الناس فقط وإنما أنهكت المقهى كذلك وجعلته مجرد ذاكرة جميلة وذكريات يتناولها الرجال.
الجراديغ على ضفاف دجلة الخالد
كان كورنيش العطيفية حديث الأنشاء جميلا في بدايته، فكانت تقام على جهته اليمنى وعلى ضفة نهر دجلة (الجراديغ) صيفا، يقيمها العامة أو الدوائر الحكومية كالهندسة العسكرية والقوة الجوية والأعلام وقسم من هذه الجراديغ سمح للعامة بأرتياده حيث تقدم قسم منها المشروبات ووجبات ألأكل والتي تكون أسعارها مدعومة. وحدث أن السيد علي الحيالي الشقي ذو التوجهات القومية المعروفة والملقب ب (علي مامة) وكان له جرداغ بينها،...
وفي تلك السنة حضرتا الى بغداد الأختان (نزهت وهيام يونس) لأحياء حفلات بمناسبة عيد السلامة للزعيم قاسم بعد نجاته من محاولة الاغتيال واحتفالات القطر بمناسبة ثورة 14 تموز 1958، فقام علي مامة ورجاله باختطاف الأخت الصغيرة (هيام) نكاية بالزعيم وبالمغنيتين ووضعها في الجرداغ لعدة أيام، دون أن تتمكن دوائر الشرطة وألأمن من تحديد مكانها، على الرغم من البحث المحموم طيلة عشرة أيام دون جدوى، وأطلق سراحها بعدئذِ وغادرتا العراق دون أن تعودا أليه ثانية.
هيام يونس
بعض من شباب الجعيفر الثانية يسبحون على كورنيش العطيفية صيفاً
وعلى شارع الكورنيش فقد شيدت الدور الحديثة والضخمة وسكنها قسم من الكرخيين الذين أستملكت دورهم كبيت المدلل مثلا وبيت السويدي، أما ألبيوت ألأخرى فسكنها عبد الله الغريب، وأسماعيل بابير والد السادة صلح وجمال وبيت الدكتور العسكري المرحوم مفلح الدليمي طبيب العظام والكسور وهو والد السيدين أنور وأحمد، كما سكن لفترة طويلة القاضي عبد ألأمير العكيلي وسكن كذلك الحاج نعمان وأولاده السيد فالح والمحامي فائق وبيت القاضي محي الدين السعدي وبيت جرجيس وأولاده المرحوم باسل وسعد وجمال وبيت الزنكي كما كان هناك دار أستأجره ألأتحاد العام لنساء العراق وأصبح فرعا له في الكرخ.
منظر يبين كورنيش العطيفية بعد تطوير بعض مرافقه
أما في العطيفية ألأولى فسكن الحاج عباس الدليمي والد خالد والمرحوم زميلنا فاضل ومحمد وأحمد وسعد وكذلك سكنها آل طعمة ومنهم صادق،كما كان فيها ألسيد محمود الخضير أبو أنمار والأستاذ أحمد عبد الستار الجواري طيب الله ثراه، وكذلك أبراهيم الجمعة والد السيدين جمعة ولهيب زميلينا في التربية ألأسلامية وكذلك سكنها ألأستاذ أكرم عبد الرزاق المشهداني قبل أنتقاله للأعظمية ومن القدامى ألذين سكنوا العطيفية الإعلامي د. كاظم المقدادي وبيت السبتي وكثير غيرهم سكنوها من محلات سوق الجديد والست نفيسة وسوق حمادة والفلاحات وخضر الياس بعد أن أستملكت وهدمت دورهم...
هذا ما أسعفتني به ذاكرتي فيما يتعلق بهذه المحلة الكرخية ألأصيلة، عسى ولعل أن ينبري أحد ألأخوة للكتابة عن أهلها بالتفصيل، ومن الله التوفيق.
1203 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع