قصتي مع مريضي اليهودي ...
في إحدى ظهيرات شمال انجلترا الملبّده بالغيوم... خرجتُ من مكان عملي لأقوم بزيارة لإحدى المرضى في منزله، وهذا ما يفعلهُ الطبيب في العاده إذا كان المريض بحاله صحيه سيئه ولا يقوى على الذهاب إلى الطبيب بنفسه.
توجهتُ إلى بيت المريض، حاملةً معلومات عرفتها من سجله الصحي الإلكتروني .رجل ثمانيني، يعيش وحيدآً مصاب بسرطان متقدم في احد أعضاءه، لا أمل في شفائه، يعيش على المسكنات، رفض كل أنواع المساعده أو الرعاية الاجتماعية وفضل أن يبقى في بيته ويموت فيه.
حين وصلت، أدخلت الرقم السري المعروف لدينا من ضمن السجلات ، لفتح باب البيت. ما أن دخلت، ركضت نحوي كلبته.. كلبه سوداء ، نحيفه، هزيله، بدأ عليها الجوع والتعب. نظرت إلي بعينين سوداوين كبيرتين لم يبقى من بيضاهما شيء يذكر .. نظره فهمتُ منها ما أرادت قوله، رغم أني لستُ من هواة الكلاب ولا من فاهمي نظراتهم. لكن تلك الكلبه.. لم تكن تتكلم، كانت تستنجد بي أن اساعد صديقها المسكين.
مشيتُ نحو اول غرفةٍ صافدتني، كان الرجل يستلقي منزلقاً على كرسي كبير.. يكاد يسقط منه. حال الغرفه كان يرثى له، السجاد ملطخ ببقع من كل الألوان.. الرسائل والجرائد وعلب الطعام الفارغه ملقاة في كل مكان. حتى طعام الكلبه.. منتشر هنا وهناك فوق السجاد .. من الواضح انها كانت تخرجه بنفسها من كيس طعام الكلاب الكبير المتروك في الزاويه قرب المدفئه.. المدفئه نفسها غطاها التراب.. لأن احداً لم يشعلها منذ زمن. كان البيت بارد .. بارد جداً وكئيب.. والحبوب المسكنه للألم كانت منتشره على الأرض.. ادركتُ حين رايتها أنها كانت تسقط من يدي مريضي المرتعشتين قبل أن يوصلها إلى فمه.
من بين كل تلك الفوضى.. لفت انتباهي شيئين.. صوره لام كلثوم معلقه على الحائط.. وكأس نبيذٍ نصف ممتلئ على الطاوله بجانب الرجل.
اقتربي يا دكتوره.. قال لي.. ما اسمكِ ؟ لا أظن اني رأيتك من قبل ؟
ولا انا .. سعيده برؤيتك.. أخبرته باسمي .. وسألته كيف يمكنني أن اساعده اليوم؟!
رغم أني في قرارة نفسي .. أدركت بعد الذي رأيت.. أن ما من طريقةٍ اساعد بها هذا الرجل !!
قال : من أين اسمكَ؟ هل انتي عربيه؟
قلت: نعم . انا عراقية.
قال: هل تعرفين من هذه؟ وأشار إلى صورة ام كلثوم .
قلت: بالطبع اعرف.
قال: ما اسمها؟
قلت : الا تعرف اسمها؟ كيف علقت صورتها من دون أن تعرف؟
قال: انها زوجتي.. زوجتي علقت صورتها.. كانت تحبها كثيراً . زوجتي (حسيبه) عراقيه مثلك. يهوديه عراقيه. ..أجبرت وعائلتها على ترك العراق ، ولأنهم كانوا ضد مبدأ اغتصاب الأرض.. رفضوا العيش في إسرائيل فطلبوا اللجوء في بريطانيا.
وانا يهودي بريطاني،تعرفتُ عليها في المعبد. وعدتها يوم احببتها اني سأعود بها لتعيش في العراق لكني لم أفعل.. لم أجرؤ أن اجازف بها..وهي لم تتوقف عن حلم العوده.. و لم تتوقف عن سماع ذات الاغنيه لهذه المغنيه كل يوم. .. على مدى أربعون عاما ..
سألته: هل تعرف الاغنيه؟ قال للأسف لم احفظ كلماتها.. لكن أخبرتني حسيبه مره أن الجمله الأولى منها تعني(هل سألتقيك غداً؟) . قالها بالإنجليزية.. ففهمت ان زوجته كانت تستمع لأغنية(اغداً القاك؟؟) .
سألني أن كنت عرفتها.. فاجبته اني عرفتها.. توسل الي ان يسمعها.. وعدتهُ بأني ساجعله يسمعها لكن قبل ذلك علي أن أساعده في تخطي آلامه التي يسببها المرض.
طلب مني أن أكتب له المزيد من المسكنات.. وافقت ..لكني أخبرته انه بحاجه الى ممرضة تزوره عدة مرات في اليوم لإعطاءه الدواء لأنه لا يستطيع أخذ دواءه بنفسه ..
رفض الرجل .. وقال: لا تعتقدي أن تلك الحبوب التي على الأرض قد سقطت من يدي .. انا افتح علبة الأدوية وارميها على الأرض متعمداً.. لكي اعدّها كل صباح واعرف التاريخ!!
فارجوكِ اكتبي لي المزيد منها كي لا أفقد حساب الأيام... لكن لا تكتبي الكثير منها .. لا أظن اني ساحتاجها طويلاً!!
وماذا عن ألمك، كيف تسكنه؟ سألته... أشار على قدح نبيذه وابتسم.
استجبت لطلبه .. واخبرته اني سأكتب له المزيد من المسكن واطلب من الصيدليه إيصالها لبيته. أخرجت قطعة ورق صغيره من حقيبتي وكتبت له اسم ام كلثوم بحروف انجليزيه (um Kalthoom)كي لا ينساها. وقبل أن أخرج، قررت أن أحقق له أمنيته الاخيره .. أن اسمعه اغنية (اغداً القاك) قال لي ان حسيبه كانت تسمعها وتهديها لِ(العراق) وأنه يريد أن يسمعها ويهديها ل(حسيبه).
لكن واجهتني هنا مشكله. لم يكن لدا الرجل اي وسيلة تكنولوجيه أو اتصال بالإنترنت.. لم يكن في بيته اي شيء يمت بصله لأجهزة الاتصال الذكيه! ولم أتمكن انا من البقاء عنده لحين انتهاءه من سماع الاغنيه على جهازي الجوال .. فقد كان علي العوده الى العياده لرؤية مرضى آخرين.. وكعادتي.. خرجتُ بحلٍّ ذكي ! أخبرته اني ساتصل على رقمه الأرضي من العياده حال وصولي .. واترك جهازي الجوال بجانب سماعة الجهاز واتركه يسمعها .. وفعلاً وصلت وفي داخلي خوفٌ كبير من أن ينتهي عمر الرجل قبل أن أحقق أمنيته.. اتصلت من الخط الأرضي لإحدى الغرف الفارغه في المجمع الطبي. أجاب... فأعاد قلبي إلى سرعة نبضه الطبيعية باجابته تلك .. ما زال على قيد الحياة..
تركته على الخط مع الاغنيه..
وذهبت انا لرؤية مرضاي الآخرين.
عدتُ إليه بعد ساعه وربع كانت الاغنيه قد انتهت منذ دقائق. شكرني وقال: انتي أفضل مني .. حققتي أمنية انسان على وشك الموت .. أما أنا ، فلم أحقق أمنية زوجتي قبل أن تموت.
تمنيت له ليله سعيده .. وأغلقت.
في اليوم التالي .. بداتُ يومي في العمل كالعاده بالاطلاع على رسائلي الإلكترونية بخصوص المرضى. الرساله الثالثه كان عنوانها اسم ذلك المريض .. فتحتها .. فلم أجد فيها أكثر من ثلاث حروف (R.I.P ) ارقد بسلام.
تحققت أمنية مريضي(جوشوا) بعد ان سمع الاغنيه والتقى ب( حسيبه) .
ومن يومها وانا استمع لام كلثوم كل يوم تغني (اغداً القاك) علي ان أكون أوفر حظّاً من حسيبه .. والتقي ب (العراق) غداً .. أو بعد غد!!!
الگاردينيا: قصة مؤثرة بحق..نشكر كل الأصدقاء الذين أرسلوها لنا ، والله يبارك بالدكتورة علياء الكندي على شعورها الجميل ربي يحفظها ويحقق جميع امنياتها
768 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع