بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني الذي كان ملك صقلية من عام 1198 حتى 1250م (ويكي كومنز)
عاش فريدريك الثاني في هذا العالم المتعدد ليتعلم كل اللغات الموجودة هناك، فكان يتكلم اللاتينية ككل المسيحيين، كما تكلم اليونانية والألمانية لغة والده، والفرنسية-النورمادية لغة أمه، فضلا عن اللغة العربية لتلقيه العلوم على يد بعض العرب.
عرفت صقلية -أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط- بأنها مركز لتبادل الثقافات بين الشاطئين الأوروبي والعربي على المتوسط، وكانت أيضا محضنا لثقافة عربية مزدهرة لم تختف بزوال الحكم العربي عنها وسيطرة الرومان عليها عام 1072.
ولم يقدم دخول العرب إلى صقلية الدين الإسلامي فحسب للجزيرة، بل حمل معه العربية باعتبارها لغة الثقافة والنخبة المرموقة، وحتى بعد سقوط الحكم العربي استمر التفاعل الثقافي بين عرب شمال أفريقيا وسكان جنوب أوروبا عبر الممر الصقلي، وإلى جانب الأندلس وفرت بيئة صقلية المتعددة اللغات وسيلة انتقال لعدد من المفردات العربية إلى مختلف اللغات الأوروبية الحديثة.
ولم يؤد أفول نجم العرب السياسي عن صقلية إلى تغييب الثقافة العربية عن الجزيرة المتوسطية، بل ظل الوجود العربي قويا فيها وظل بلاط ملوك النورمان طوال القرن الـ12 زاخرا بالعديد من الشعراء والعلماء والحرفيين العرب، الذين تولوا مناصب إدارية رفيعة أيضا.
كانت ذروة تلك الحقبة من التعايش بين الثقافات في عهد الملك روجر الثاني الذي خلف والده روجر الأول عام 1101م، فقد كان بلاطه يعجّ بالمثقفين العرب، ورفض الملك الصقلي المشاركة في الحروب الصليبية رغم إلحاح البابا، وشاع استخدام اللغة العربية في إدارته المالية واحتفالاته الفخمة وفي المجالس الأدبية والشعرية وحتى في نقوش القصر.
وفي كتابه "حضارة العرب" لغوستاف لوبون، قال المستشرق الفرنسي إن خلفاء روجر ساروا على طريقته في تقريب الأدباء العرب من بلاطهم، ومنهم الملك غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع لمستشارين عرب في بلاطه، ورأى لوبون أن "إمامة العرب في الفنون والصناعات والعلوم تفسّر سبب حماية ملوك النورمان لهم، وسبب إعجاب الرهبان بحذق العرب وإن كانوا يعزون اكتشافاتهم إلى السحر".
إمبراطور "ألماني" يتحدث العربية
في ذلك السياق التاريخي، لم يكن وجود إمبراطور "ألماني" من أصول صقلية يتحدث اللغة العربية أمرا مفاجئا، ولكن أوروبا عرفت في تلك الأزمان الغابرة إمبراطورية تسمى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حكمها بالفعل إمبراطور يدعى فريدريك الثاني اشتهر بتعدد اللغات التي كان يتحدثها.
وفي التقرير الذي نشرته مجلة "لوبس" (L’Obs) الفرنسية، يروي الصحفي فرانسوا رينارت في بودكاست "قصص غير متوقعة" القصة الفريدة للإمبراطور فريدريك الثاني (1194-1250) الذي كان ملكا من سلالة الملوك الألمان المعروفة باسم هوهنشتاوفن، وكان مولعا بعالم العرب، وترعرع الملك المولود في جيسي، بالقرب من أنكونا الإيطالية، في صقلية، وكان ثمرة زواج بين أمير من ألمانيا وأميرة نورماندية.
والنورمان أو النورمانديون مجموعة عرقية نشأت في نورماندي، المنطقة الشمالية من فرنسا، وتكلموا باللغة الفرنسية النورماندية واضطلعوا بدور في تأسيس مملكة صقلية تحت حكم روجر الثاني، وغزوا جنوب إيطاليا ومالطا وإنجلترا وشبه الجزيرة الإيبيرية، فضلا عن مشاركتهم في تأسيس إمارة أنطاكية الصليبية.
ينبغي التنبه أولا إلى أنه لم يوجد في الحقيقة إمبراطور ولا إمبراطورية ألمانية بالمعنى الحقيقي للكلمة آنذاك، بل كانت هناك في وسط أوروبا في شرق الإمبراطورية الفرنسية كتلة سياسية سميت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، منذ القرن العاشر حتى الـ19، وهي تحسب على ألمانيا وشارلمان ملك الفرنجة (ملك أجزاء من ألمانيا وفرنسا حاليا وحاكم إمبراطوريتهم بين عامي 768 و800 وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية بين عامي 800 و814)، لأن كل أمرائها ينحدرون من العائلات الأرستقراطية الألمانية الكبيرة، وكل أباطرتها ينتخبهم الأمراء الألمان.
وكان البابا يضفي طابعا من القداسة على أباطرة هذه الكتلة السياسية، ولهذا كانوا يرون أنفسهم فوق بقية الملوك المسيحيين، وكانت البلاد التي يحكمونها تتجاوز بكثير حدود العالم الألماني، ففي الحقبة التي يتحدث عنها البودكاست مثلا، في ملتقى القرنين الـ12 والـ13، كانت تشمل إلى جانب ألمانيا والنمسا الحاليتين بلجيكا والمناطق الشرقية من فرنسا وسويسرا وأكثر من نصف إيطاليا.
صقلية العربية
في ذلك الوقت كانت صقلية وعاصمتها باليرمو مثل شبه الجزيرة الإيبيرية تحت سيطرة العرب، فقد أصبحت إمارة إسلامية منذ أواخر القرن التاسع، قبل أن يحتلها النورمانديون في طريق حجّهم إلى القدس، ويؤسسوا فيها مملكة نورماندية معترفا بها من قبل البابا.
ولأن هذه المملكة كانت مزدهرة وغنية، فقد أثار ذلك شهية أمير ألماني يسعى لتوسيع مملكته، فتزوج هانري دو هوينشتافن ملك ألمانيا بابنة ملك صقلية النورماندية، وقد وصل وبصحبته عدد من الأمراء والشخصيات الألمانية الذين سعوا في تولي العديد من الأمور هناك.
https://www.youtube.com/watch?v=3aCgH0oPnlE
ولد للأسرة الجديدة طفل سنة 1194 سموه فريدريك، يتمتع من جهة أبيه بالحق في أن يصبح ذات يوم ملكا على ألمانيا (الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، وبالفعل تُوّج إمبراطورا سنة 1215 باسم فريدريك الثاني، وهو من أشهر أباطرة ذلك العصر، وأيضا من جهة أمه يعدّ أميرا صقليا نورمانديا، ولكنه لم يعرف أيا من والديه اللذين ماتا وهو لا يزال طفلا.
وبقي هذا الطفل في جنوب إيطاليا قبل أن يترعرع في مدينة باليرمو التي كانت وقتئذ متعددة الأعراق والثقافات، متأثرة بعالم اليونان وبالثقافة العربية الإسلامية، حتى إن الأباطرة الجدد كانوا محاطين بعلماء المسلمين كمستشارين، رغم أن الديانة الرسمية كانت المسيحية.
عاش فريدريك الثاني في هذا العالم المتعدد ليتعلم كل اللغات الموجودة هناك، فكان يتكلم اللاتينية ككل المسيحيين، كما يتكلم اليونانية والألمانية لغة والده، والفرنسية-النورمادية لغة أمه، فضلا عن اللغة العربية لتلقيه العلوم على يد بعض العرب.
إمبراطور المسيحيين
وعندما انتخب وتُوّج وأسبغ عليه البابا القداسة كإمبراطور روماني مقدس، لم ير نفسه إمبراطورا لألمانيا وحدها بل رأى نفسه مهيمنا على كل المسيحيين، إمبراطورا لكل العالم، مثل قيصر أو شارلمان، واختار أن يبقى في الجنوب في باليرمو، ولم يقض في ألمانيا من عصره المديد سوى 9 سنوات.
ولفرط شغفه بالعلوم والثقافة، أحاط فريدريك الثاني نفسه بالعلماء من المسيحيين واليهود والمسلمين، وقد كان محبا للرياضيات والعلوم التجريبية إلى درجة أنه قام بأمور فظيعة بسماحه بالتجارب على البشر، ولا غرابة في ذلك، لأن ملكا من تلك العصور لا يستبعد أن تجري على يديه الفظائع.
https://www.youtube.com/watch?v=XHPp9OVHhzo
ورغم أن فريدريك الثاني كان يحترم الإسلام ويحب العرب، فإنه لم يتوان لحظة في التنكيل بالمسلمين عندما ثاروا في صقلية، ورغم أنه قضى حياته في الحروب وقاد المعارك بكل عنف، فإنه أيضا كان يعرف كيف يكون متسامحا إلى درجة مذهلة، حسب تقرير الصحيفة الفرنسية.
وككل ملوك العصور الوسطى كان فريدريك الثاني في تنافس دائم مع البابا الذي يعدّ أيضا رئيسا لكل المسيحيين، وقد وعده من أجل الحصول على بركته أثناء تتويجه بالمشاركة في الحروب الصليبية واستعادة القدس، ولكنه تلكأ مدة طويلة حتى إن البابا طرده من المسيحية.
وعندئذ قرر فريدريك الثاني أن يذهب عام 1228 في حملة أغرب من الخيال، حملة مسيحية يقودها إمبراطور لعنه البابا ليستعيد المدينة المقدسة للمسيحيين الأوربيين، وبالفعل عاد بما عجز عنه سابقوه من الملوك، فقد استعاد القدس من دون إسالة قطرة من الدماء، بتوقيع اتفاق مع صديقه ملك مصر سنة 1229.
وفي معاهدة يافا عام 1229م بين السلطان الأيوبي الكامل والإمبراطور فريدريك الثاني، سلم السلطان الكامل ابن العادل الأيوبي القدس للإمبراطور الروماني الذي جاء على رأس جيش صغير للتفاوض في معاهدة يافا عام 1229م بين السلطان الأيوبي الكامل والإمبراطور فريدريك الثاني. سلم السلطان الكامل بن العادل الأيوبي القدس للإمبراطور الروماني بمقتضى صلح مدته 10 سنوات ودخل الإمبراطور الروماني كنيسة القيامة ليتوّج ملكا على بيت المقدس قبل أن تسترده عشائر الخورازميين وقوات السلطان الصالح أيوب بن الملك الكامل في يوليو/تموز 1244.
المصدر : الجزيرة + لوبس
3894 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع