المس بيل في سنواتها الاخيرة في العراق

              

   المس بيل في سنواتها الاخيرة في العراق

                   نجدة فتحي صفوة
                          مؤارخ راحل

        

لما قررت الحكومة البريطانية تغيير سياستها في العراق، ارتأت اعادة السير  بيرسي كوكس بصفة مندوب سام لتنفيذ هذه السياسة الجديدة، وتأسيس حكومة ذات  واجهة عربية، تدار ـ حسب قول مس بيل ـ بأيد عراقية وأدمغة بريطانية. وعلى  أثر عودة السير بيرسي كوكس الى العراق، غادره آرنولد ويلسن في ايلول  (سبتمبر) 1921،

وكتبت مس بيل: كان الاسبوع الماضي مزدحما بحفلات التوديع لآرنولد ويلسن، وفي الليلة السابقة لمغادرته جاء لتوديعي، وقلت له انني أشعر بخيبة لا استطيع وصفها، وانني آسفة في الواقع لأننا لم نتمكن من جعل علاقاتنا افضل. اجاب انه جاء ليعتذر، فقاطعته قائلة: انني واثقة ان الذنب كان ذنبي بقدر ما كان ذنبه، وانني اتمنى ان لا يغادر حاملا في صدره ضغينة نحوي، فأجابني مبادلا عاطفتي التي ابديتها بالمثل. اما ما كان يدور في فكره عن الأمر كله فعلم ذلك عند الله وحده . ويبدو ان ما كان يدور في فكر ويلسن حقيقة هو نفس ما قاله لها، وانه كان صادقا فيما ابداه لها من عواطف. فقد كانت غيرترود بيل تكتب رسائلها وهي ما تزال تحت تأثير احداث الساعة، وما تتركه من غضب وتأثر، فتعكس بذلك حالتها النفسية الآنية، وقبل ان تبتعد عن الاحداث بدرجة تسمح لها باعادة التفكير في الامور بصورة عقلية هادئة. اما آرنولد ويلسن فقد كتب رأيه في غيرترود بيل بعد ذلك بسنوات، وفي وقت كانت فيه غرترود بيل قد غادرت هذه الدنيا، وذلك في كتابه بلاد ما بين النهرين: بين ولاءين ، فأشاد بمواهبها وخدماتها، وختم ما كتبه عنها بقوله: هل كان ذلك بين أهلها في انكلترا، ام في رياض طهران التي احبتها كثيرا، ان مست شفتيها احلام المسيح للمرة الاولى بنداء حي صادر عن هيكله؟ ذلك ما لا اعلمه، ولكنني مؤمن بأنها كانت موهوبة حقا لتخدم علي حد سواء البلد الذي ولدت فيه، وذلك الذي اتخذته موطنا، بقدرة وحماسة نادرتين بقدر ما هما ثمينتان .
وكتبت مس بيل بعد مغادرة ويلسن، مرة اخرى الى ابيها قائلة: أشعر منذ مغادرة ويلسن كأنني خرجت من كابوس وأشارت في رسائلها التالية الى اخطاء ويلسن في مسؤوليته التاريخية التي أساءت الى مصالح بريطانيا، وأثارت الشعب العراقي ضدها: انني اشعر، بصورة اعمق فأعمق، كم كان ويلسن مخفقا بصورة مفجعة في فهم الوضع، وكم اساء بقصر نظره الى فرص النجاح. انني اعرفه من تجربتي وكان ارنولد ويلسن قد عهد الى المس بيل خلال عملها معه بوضع تقرير شامل عن الوضع العام في العراق وما وقع فيه من احداث منذ الاحتلال البريطاني، فأعدت تقريرا مفصلا بعنوان عرض للادارة المدنية في العراق فلقي هذا التقرير اهتماما زائدا، واحدث ضجة كبيرة، وقدم الى كلا مجلسي العموم واللوردات، ونشر ككتاب ابيض رسمي، وقابلته الصحافة البريطانية بثناء واستحسان، وعلقت عليه احدى الجرائد بقولها:
واخيرا اصبح بوسع امــرأة ان تدبج كتابا ابيض كهذا..
واشارت غيرترود الى هذا التعليق في احدى رسائلها الى أبيها قائلة: تسلمت الان رسالة الوالدة التي تقول فيها ان هناك ضجة كبرى حول تقريري، ويبدو ان الخط العام الذي اتخذته الصحافة هو انه لامر جدير بالاهتمام والتقدير ان يستطيع كلب الوقوف على ساقيه الخلفيتين ـ اي ان تستطيع امرأة تحرير (كتاب أبيض). ليتهم ادركوا مصدر الاستغراب هذا، واهتموا بالتقرير نفسه اذا كان فيه ما يساعدهم على فهم العراق .

                                                                     

واستبشرت مس بيل بعودة السير بيرسي كوكس بطبيعة الحال، واصبحت يده اليمني في كل اعماله، واسهمت مساهمة فعالة في تأسيس الحكومة المؤقتة واقناع السيد عبد الرحمن النقيب بقبول رئاستها، وفي اختيار وزرائها، بهمة لا تعرف الكلل، وحيوية نادرة.

   

وفي شباط (فبراير) 1921 نقل المستر وينستون تشرشل من وزارة الحرب وأصبح وزيرا للمستعمرات، فقرر عقد مؤتمر في القاهرة دعا اليه الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الادنى لاعادة النظر في سياسة بريطانية في المنطقة ودراسة امكانات خفض النفقات البريطانية فيها، وتقرير علاقات الدولة الجديدة المقبلة في العراق ببريطانيا العظمى من حيث النفقات، وشكل الدولة المقبلة، وشخص رئيسها، ونوعية قوات الدفاع فيها، وغير ذلك. فلما ذهب السير بيرسي كوكس لحضور هذا المؤتمر كان من جملة من اصطحبهم معه سكرتيرته الشرقية غيرترود بيل التي كانت المرأة الوحيدة في المؤتمر.

                   

ومن المعروف ان فكرة ترشيح فيصل الاول لعرش العراق كانت قد تقررت بصورة نهائية هناك.
ومنذ نصب فيصل الاول على عرش العراق، وهو قرار كان للمس بيل دور كبير في تبنيه، لم يتمتع احد بثقته مثل تلك المرأة الانكليزية التي كان يدعوها: (أختي). وفي كثير من ساعات الازمات كانت هي الوسيطة المقبولة في تسهيل الاتصالات السرية بين دائرة المندوب السامي والبلاط الملكي. اما في الاوقات الاعتيادية فكان عملها بصورة رئيسية متصلا بشؤون العشائر. على انه لم تكن هنالك اية قضية ادارية لم يستعن فيها فيصل الاول ورجاله، والمندوب السامي واعوانه، بمعونتها، وكانت معرفتها بالبلد وسكانه تفوق معرفتهم دائما.

                                

وقد اظهرت الايام كم كان الجنرال مود مخطئا في اعتراضه على تعيين امرأة في هيئة موظفي المفوض المدني، لأن كون مس بيل امرأة كان على العكس مما توقعه، من اهم اسباب نجاحها في عملها سواء أكان ذلك في تأثيرها على فيصل الاول ورجاله، ام في اتصالاتها بالأسر العراقية، وتعرفها على زوجات الساسة والزعماء، ودخولها بيوتهم، مما لم يكن في امكان أي رجل القيام به.
وكان من جملة واجبات مس بيل، بوصفها السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد، اعداد تقرير استخبارات نصف شهري تضمنه كل احداث البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يدور على ألسنة الناس من اشاعات، وما يتحدث به الناس في المقاهي والاســـواق، او تردده النسوة في مجالسهن، وتحاول اعطاء صورة واضحة لاتجاهات الرأي العام العراقي وانطباعاته خلال اسبوعين. وهذه التقارير محفوظة جميعا في مركز الوثائق العامة بلندن وفي مكتبة المتحف البريطاني، وبامكان الباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها بسهولة.
وكانت مس بيل تضمّن رسائلها الى والديها كثيرا من المعلومات التي تذكرها في تقاريرها الرسمية وما لا تذكره فيها احيانا، وخاصة ما هو طريف او غريب منها، او ما له صفة شخصية. وكان يتساوي لديها ـ في رسائلها ـ اهتمامها بحديث لها مع الملك، او حدوث ازمة وزارية خطيرة، او حديث مع طباخها صباحا قبل ذهابها الى عملها.

                                     

وانقل ـ على سبيل المثال ـ فقرة من رسالة لها الى أبيها مؤرخة في 7 كانون الاول (ديسمبر) 1919:
.. وكذلك طباخي الجديد ـ آه يا أبتي كم ستعجبك رؤيته وهو يتجول مزهوا بعباءته. وهو على الرغم من اجادته الطبخ الى حد بعيد، وصنعه كيكات ممتازة، فانه لا يستطيع ان يقرأ او يكتب، وذاكرته معطوبة. ان حسابات الصباح مثال على ذلك، فهي تجري كالاتي:
غيرترود: يلله مهدي، الحساب، لازم اروح للدائرة.
مهدي: خادمج، خاتون، اشتريت.. شسمه
غيرترود: زين، شسمه؟
مهدي: تّمن، قرانين
غيرترود: ثمان آنات. وبعد؟
مهدي: بعد اشتريت شسمه
غيرترود: شنو؟ يلله
مهدي: خبز، ست آنات
غيرترود: زين، داوم
مهدي: بعدين اشتريت شسمه
غيرترود: يا فاطر السماوات ـ شنو؟
مهدي: شكر.. روبيتين
غيرترود: روبيتين؟ زين
مهدي: بعدين خاتون، نسيت البيض مال البارحة
غيرترود: زين، بعد؟
مهدي: بعدين اشتريت لحم. روبية
غيرترود: وبعد؟
مهدي: والله اشتريت ـ خاتون احضّر لجنابج لحم للعشاء؟
غيرترود: كيفك.. خلّص الحساب
مهدي: على راسي، وبعد اشتريت شسمه
وهكذا دواليك حتى اصل الى حالة بين الهستيريا والضحك..
وبعد ان تطلب الى أبيها ارسال بعض الحاجيات تقول:
هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين. وآخر من كان يلقب بهذا اللقب عائشة زوجة الرسول. وهكذا ترى لماذا لا استطيع ان اترك هذا البلد..

    

المتحف العراقي
هنالك ناحية مهمة اخرى في حياة غيرترود بيل في العراق تستحق اشارة خاصة، وهي اهتمامها بالآثار القديمة وتأسيسها المتحف العراقي.
كانت غيرترود بيل بحكم خبرتها الطويلة السابقة في شؤون الاثار، وولعها بالتنقيبات الآركيلوجية، كبير الاهتمام بآثار العراق القديمة، ولكن انشغالها الكثيرة خلال السنوات الاولى من قيام الادارة الجديدة في العراق لم تسمح لها باعارة هذه الناحية ما تستحقه من وقتها وعنايتها. فلما انتهت المفاوضات الطويلة والصعبة لعقد المعاهدة العراقية ـ البريطانية في سنة 1925، تمكنت مس بيل، على الرغم من بقائها في منصبها سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد، ان تخصص مزيدا من الوقت لشؤون الآثار، فعملت على تأسيس ادارة للآثار القديمة وعُيّنت مديرة فخرية لها وبقيت تشغل هذه المديرية حتى وفاتها.
وقد مشت مس بيل في تشجيع البعثات الأثرية على القدوم الى العراق واجراء الحفريات والتنقيبات في مواقعه الأثرية الغنية بالاثار، وخاصة في (اور)، وعملت على تحقيق مشروع انشاء متحف وطني، واتخذت له مكانا دائما في بغداد، في البناية التي شغلها المتحف العراقي حوالي أربعين عاما، في شارع الامين ببغداد.
 الرحلة الأخيرة
 قضت غيرترود بيل في العراق عشر سنوات كاملات لم تقطعها سوى ثلاث اجازات قصيرة في اوروبا وانكلترا، وبلغت الثامنة والخمسين من عمرها وهي في عمل دائب، وحركة لا تنقطع، مما استنفد رصيدها من القوة الجسمية، وكان الأطباء قد نصحوها بعدم قضاء صيف آخر في بغداد، ولكنها رفضت مغادرة العراق حتى تنتهي من تأسيس المتحف.
وفي مساء الاحد، 11 تموز (يوليو) اوت الى فراشها وطلبت الى خادمتها (ماري) ان توقظها في السادسة صباحا. وكانت (ماري)، كسائر المحيطين بغيرترود، قلقة على صحتها، فتسللت الى غرفتها ليلا لتطمئن عليها فوجدتها على ما يرام. ولكنها حين دخلت لايقاظها في السادسة صباحا كانت غيرترود في رقدة ابدية. وعلم فيما بعد انها تناولت جرعة كبيرة من حبوب منومة تدعي Dial حسبما كتب الدكتور دنلوب مدير المستشفى الملكي في بغداد، في تقريره عن وفاتها. وكانت وفاتها قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والخمسين.

           

وهكذا انتهت حياة حافلة بالمغامرات والمنجزات وانطوت صفحة ملونة طريفة من تاريخ العراق الحديث، كما فقد الاستعمار البريطاني ركنا مهما من اركانه.
جرى للمس بيل في اليوم التالي تشييع رسمي حضره الملك علي مندوبا عن اخيه الملك فيصل الاول، والمعتمد السامي البريطاني، ورئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، والوزراء، ورئيس المجلس النيابي، وعدد كبير من الاعيان والنواب والوجهاء والمستشارين البريطانيين،

       

ودفنت في مقبرة المسيحيين في الباب الشرقي (قرب ساحة الطيران).
يصف الذين كانوا على معرفة بالمس بيل شكلها ومظهرها بانها كانت ذات شعر نحاسي اللـــــون، وعينين عسليتين تميلان الى الخضرة. وبشرة براقة، وانف مدبب وطويل بشكل غريب. ويقال ان الرجال الاوروبيين ـ ومنهم لورانس ـ كانوا يجدونها جذابة. وعلى الرغم من انها كانت متوسطة الطول، منتصبة القامة، وتتمتع بكثير من الانـــوثة في مظهرها وملبسها، فان النسوة المحافظات ـ فيما يقال ـ كن، لأمر ما، لا يرتحن اليها.
وكانت كثيرة الاهتمام بملابسها، تخترق ازقة بغداد الضيقة، وغير المبلطة، وهي مرتدية اخر الازياء الباريسية. وفي رسائلها الى والديها نقرأ طلبات مستمرة لمختلف الملابس والقمصان وغيرها من مخازن لندن وباريس المشهورة.
وكانت غيرترود بيل يوم وصولها الى العراق في الثانية والخمسين من عمرها، وكانت امرأة نحيفة جدا، ولم تكن من النوع الذي يميل اليه الرجال العراقيون، وخاصة في ذلك العهد، لنحافتها المفرطة، ولكن اثرها فيهم كان مع ذلك كبيرا بسبب شخصيتها القوية ولباقتها وحركتها الدائبة، وكانوا يخاطبونها قائلين: خاتون، حتى اصبح ذلك لقبا لها تعرف به، فاذا تحدثوا عنها قالوا: الخاتون، وكانت ألف لام التعريف تغني عن ذكر اسمها.
وكان بيتها موئل كثير من الرؤساء والاعيان، كما زارها وتناول العشاء معها الملك فيصل الاول غير مرة. وكان من اكثر رؤساء العشائر ترددا عليها: فهد الهــــذال، شيخ مشايخ عنزة، وعلي السليمان، شيخ الدليم، وحسن السهيل، شيخ بني تميم.
وكان لها اصدقاء من الوجهاء المحليين، اقربهم الى قلبها الحاج ناجي في الجادرية، وجعفر عطيفة في الكاظمية، وفائق بك (والد المرحومين ماهر فائق وباهر فائق) في الفحامة. وكانت كلما ضاق صدرها، او رغبت في القيام بنزهة، قصدت احدهم في بستانه بسيارة او زورق بخاري او على صهوة جوادها الذي كانت تحتفظ به في اسطبل صغير في حديقة دارها. وكانت غيرترود تأنس اليهم بعيدا عن جو عملها اليومي والموضوعات التي تشغلها، وقد تردد ذكرهم كثيرا في رسائلها.

     

ولم يكن مجتمع بغداد في ذلك الوقت قد تعود اختلاط الجنسين، ولم يكن من المألوف لدى الناس ان تسلك امرأة مثل سلوكها، او تمارس مثل نفوذها، او تشغل مثل منصبها. ولذلك اصبحت (الخاتون) موضوع احاديث الناس في المقاهي والدواوين والبيوت. فهي تسير سافرة في الشوارع، وتحيي الرجال، وتزورهم في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية، وتستقبلهم في بيتها. وعلى الرغم من كونها في العقد السادس من عمرها لم تنج من بعض اقاويل السوء التي نشرت عنها. وصار الناس يتحدثون عن علاقات لها مع هذا الرجل او ذاك من الشخصيات العراقية او البريطانية.

                              
 
الزهاوي وذات العيون الزرق
وكان الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي في ايام الاحتلال البريطاني ينشر من حين لآخر، في احدى الصحف المحلية، رباعيات شعرية تضمنت غزلا في عيون زرقاء، فاستغل خصومه ـ وهم يعرفون تردده وقلقه ـ هذه المناسبة لاحراجه فاطلقوا في الاندية والمجالس اشاعة فحواها ان هذه الرباعيات تضمنت غزلا بعيون مس بيل، وما كادت هذه الشائعة تبلغ سمع الزهاوي حتى طار هلعا وامتلأ رعبا، واسرع يبعث الرسل اليها ويقسم اغلظ الايمان بين يديها ان ليس لتلك الرباعية اي صلة بعينيها.
ولكن الشيخ تقي الخاصي كان اشجع من الزهاوي حين نظم في مس بيل قصيدة تهكمية اشتهرت في حينها، وتناقلها الناس لطرافتها، ومن ابياتها:
وافت الينا مس بيل
راكبة طرمبيل
تحكي البدور وجها
وشعرها يحكي الليل
ترنو غزال نجد
وتشرئب كالخيل
فما رأتها عين
الا وقالت: كيل كيل
عرج علينا نقضي
عشية في الاوتيل

                                            

وكان اول من فطن الى اهمية رسائل مس بيل في العراق هو الصحافي القدير رفائيل بطي بما أوتي من حس صحافي مرهف وثقافة عصرية ومتابعة لما ينشر في الغرب بصورة لم تتح لغيره من الصحافيين في عهده. فعني بنشر ترجمة لرسائل مس بيل في جريدته (البلاد) يوميا بصورة متسلسلة ابتداء من عددها الاول. وعلى الرغم من ان الجريدة لم تذكر اسم المترجم إلا أن رفائيل بطي أخبرني انه كان يونس السبعاوي.
على ان بعض ما جاء في تلك الرسائل من صراحة غير مألوفة في العراق في ذلك الوقت، وما احتواه بعضها من مساس برجال الدين، وخاصة من الشيعة، اثار استياء بعض القراء. وبادر الشيخ باقر الشبيبي الى كتابة مقالة في جريدة (البلاد) نفسها (في عددها الصادر في 20 كانون الثاني ـ يناير 1930) حمل فيها على مس بيل ورسائلها بشدة.

                                   

وكذلك انبري شاعر شاب، كان سيقدر له ان يكون من اكبر شعراء العراق فيما بعد، وهو محمد مهدي الجواهري، الى نظم قصيدة موجهة الى مس بيل، او الى روحها، قال فيها انها كانت ترمي الى التفرقة بين اهل العراق، جاء فيها:
قل للمس الموفورة العرض التي
لبست لحكم الناس خير لباس
لي قيلة تلقي عليك بمسمع
وبمحضر من زمرة السواس
ان كل سرك في العراق بان تري
ناسا له مضروبة باناس
فلك التعزي في سياستك التي
عادت عليك بصفقة الافلاس
خطط وقفت لها حياتك اصبحت
شؤما عليك وانت في الارماس
وقد فات منتقدي مس بيل على ما جاء في تلك الرسائل والذين اتهموها بمحاولة زرع الفرقة في صفوف العراقيين ـ كما ورد في المثالين السابقين ـ ان مس بيل لم تكتب رسائلها للنشر، لكي يقال انها كانت تحاول ذلك، بل انها كانت رسائل شخصية لم تتوقع نشرها، ولم تفكر فيه.
واخيرا لا بد لنا ان نتساءل، كما يتساءل الكثيرون، هل كانت مس بيل صديقة للعراق حقا، كما اشتهرت، تعد العراق وطنها الثاني وتسعى لاجل خيره وتقدمه؟ ام كانت مجرد اداة من ادوات الاستعمار لا تهمها غير مصالح بريطانية؟ ام كانت ـ كما وصفها البعض ـ جاسوسة تتظاهر بمحبة البلد الذي تعمل فيه ولا تهمها مصلحته، ولا تهدف الا الى خدمة بلادها؟
كانت مس بيل في البداية ضابطة استخبارات مع جيش الاحتلال، ثم اصبحت سكرتيرة شرقية للمعتمد البريطاني في عهد الانتداب. وهي لم تتظاهر بأية صفة اخرى، ولم تخف طبيعة عملها موظفة في حكومة بلادها بصورة رسمية لا يشوبها الكتمان تخدم بلدها بكل نشاط.
وليس هنالك شك في ان مس بيل كانت مخلصة لوطنها كل الاخلاص، ولو لم تكن كذلك لما استحقت الاحترام، ومن لا يكون مخلصا لوطنه لا يمكن ان يكون مخلصا لوطن آخر مهما تظاهر بمحبته وصداقته.
ولكنها الى جانب ذلك كانت امرأة عاطفية، عاشت في العراق سنوات طويلة، وكونت لنفسها فيه اصدقاء ومحبين، وكانت اذا وجدت الفرصة للقيام بخدمة للعراق واهله، بما لا يتعارض مع مصالح بلادها، وان تنجز بعض الاعمال الطيبة فيه، فلا شك انها كانت تبادر الى القيام بذلك.
والواقع ان الذين كانوا يتصلون بها من ابناء البلد، ويزودونها بالاخبار والمعلومات ـ مأجورين او متبرعين ـ وينفذون ما يكون مخالفا لمصلحة بلادهم من طلباتها، هم اقرب الى صفة الجاسوسية منها.
كتب المرحوم يوسف غنيمة، وزير المالية العراقي السابق، والبحاثة المعروف، مقالة عن مس بيل في مجلة (لغة العرب) الصادرة في ايلول (سبتمبر) 1926 (اي بعد وفاتها بشهرين) عبر فيها عن هذا المعنى بقدر ما تسمح به الظروف في تلك الفترة من الهيمنة البريطانية، قال فيها: اما الخطة التي انتهجتها في سياستها في العراق فهي انها تسعى السعي المتواصل للتوفيق بين السيادة القومية العراقية واستقلال البلاد، وبين مصالح بريطانيا العظمى في هذا القطر. فهي بريطانية مخلصــــة لبلادها، وصديق حميم للعرب والعراقيين .
وكان امين الريحاني، اديب المهجر الكبير، قد زار العراق حينما كانت مس بيل على قيد الحياة وفي اوج نشاطها السياسي، وتحدث عنها بأسلوبه المعروف في فصل طريف من كتابه ملوك العرب ختمه بقوله: حدثني احد المستشارين قال: طريقة المس بيل السياسية قديمة، وهي مع ذلك لا تركن في الامور لا لعقلها دائما ولا لقلبها. وقال اخر: الناس يأبون التأديب سواء اكانوا عراقيين ام انكليز.
ولكن المس بيل لا تجابه العراقيين دائما بالقاعدة والعصا كالمعلمة المرشدة، بل تجيئهم مرارا وهي تحمل هدية بدل العصا. هو ذا قلبها عربون اخلاصها ايها الزعيم الوطني، هي ام المؤمنين يقــــينا. واذا رفضت الهدية والمشورة، اذا ابيت النصح والامتثال، فهوذا الســـجل، وفيه سيرة حياتك منذ دببت ودرجت، الى يوم وقفت مستعطفا او محتجا في دار الانتداب .
لذلك لا يبادلها العراقيون الحب والوداد، ولكنهم يحترمونها ويعجبون بها، ويودون لها ما يوده المرء لعمته، او الفتاة لخالتها. لا تحبينا كثيرا، عافاك الله، ولا تتدخلي كثيرا في امورنا .
وبعد، فان مس بيل تمثل في تأريخ العراق عهدا مضى وانقضى، وسيرتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمرحلة من مراحل تأريخنا القريب. وان اهتمامنا بها، ودراستنا لسيرتها ورسائلها ينبعان بطبيعة الحال من اهتمامنا بدراسة تأريخنا بكل صفحاته المشرقة والمظلمة، والافادة من دراسة الماضي وتجاربه الحلوة والمرة، لبناء مستقبل افضل. فالتاريخ قبس من الماضي ينير الطريق الى المستقبل.

مستل من بحث طويل بعنوان
(مس بيل في العراق)

المصدر: المدى

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

800 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع