بغداد في اواخر العهد العثماني..كما وصفها عالي بك في مشاهداته المخطوطة
المدى/أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف
توجد بين مخطوطات المؤرخ العراقي عباس العزاوي (المتوفى سنة 1390هـ/ 1971م) إضمامة من أوراق، كتب عليها أنها (رحلة مترجمة من التركية بقلم المحامي عباس العزاوي)، وقد كتبت الترجمة بخط عادي سريع بقلم الحبر، وتسرَّع مفهرس فظن أنها بخط العزاوي، وعند مقارنتنا الخط الذي كتبت به بخط العزاوي، تبين لنا على الفور أنه ليس له، بل إن الترجمة نفسها ليست من إنشائه؛ فأسلوبها يختلف عن أسلوبه تمامًا، وفيها من الركة والأخطاء الإملائية ما لم يرتكبه في أي مما كتب، ثم إن أحدهم صحح مواضع من النص بقلم من الحبر الجاف، أو بقلم الرصاص، ليس خط العزاوي أيضًا، وفي (تصحيحاته) أخطاء إملائية أخرى.
ولما كان عباس العزاوي معنيًّا في أثناء جمعه مواد كتبه العديدة، بالتقاط كل ما به علاقة بتاريخ العراق في القرون المتأخرة، فقد ضم هذه الترجمة الموجزة للرحلة إلى مكتبته الغنية بأفانين الكتب والمخطوطات؛ عسى أن يفيد منها في دراسة مقبلة، إلا أنه لم يفعل، وبقيت الرحلة بعيدة عن اهتمام الباحثين.
وخلاصة ما كتبه أنه كان واليًا في طربزون، فصار مدير إدارة الديون العامة، وأنه أوفد في مهمة تتعلق بتفتيش الأمور المالية لعدد من الولايات في الدولة العثمانية، فبدأت رحلته بأن غادر إستانبول في يوم الخميس 3 كانون الثاني من سنة 1300 رومية (الموافقة 1301هـ/ 1884م)، مارًّا بـ: (مدللو)، و(أبو النور)، و(أزمير)، و(مرسين)، و(اسكندرونة)، ومنها توجه إلى (حلب)، و(كليس)، و(عينتاب)، و(بيرجك)، و(ديار بكر)، و(سعرد)، و(بتدليس)، و(موش)، وماردين)، حيث كانت له صلات بعشيرة شمر، ومنها ركب (كلكًا) في 2 أيلول 1301 رومية (الموافقة 1302هـ/ 1885م) انحدر به في نهر الفرات، فمر بـ: (حصن كيفا)، و(جزيرة ابن عمر) التابعة لبلدة ماردين، ثم وصل إلى قرية (الحمدات)...
ومن هناك غادر الكلك وذهب برًّا إلى الموصل، وبعد وصوله إليها ركب الكلك أيضًا، فانحدر به إلى تكريت، ثم سامراء، ومنها إلى الأعظمية، ومنها إلى بغداد، حيث أقام بها مدة من الوقت، وبعدها انحدر إلى البصرة، ومنها إلى أبو شهر، فبومباي في الهند، ومن الأخيرة إلى عدن، ومنها السويس، فالقاهرة، ثم الإسكندرية، ومنها إلى إستانبول، وكانت عودته إليها في 1304 رومية (1305هـ/ 1888م،
وواضح أن الرحلة امتدت لتشمل مُدنًا وقصبات ومعالم عديدة، إلا أن المعرب اقتصر منها على ما له صلة بمدينة بغداد فحسب، وحتى هذا جاء مختصرًا، بل إنه سكت عن معلومات تخص أعمال بغداد نفسها، مكتفيًا بالخطوط العريضة لإقامة صاحبها فيها، ومشاهداته لملامح الحياة فيها،ومنهج المعرب في هذه الرحلة يتراوح بين أن يعرض كلام صاحبها منسوبًا إليه، وحينذاك يكون الضمير للمؤلف، أو أن يعرض بنفسه وقائع الرحلة، وفي هذه الحال يكون الضمير للكاتب.
ونظرًا لوجوه الأهمية التي ذكرناها، فقد قمنا بتحقيق هذه الرحلة الفريدة، والتعليق عليها على النحو الذي يراه القارئ الكريم،ومن الواجب القول بأننا أبقينا على نص الترجمة كما أوردها كاتبها دونما تغيير يذكر، إلا أننا اضطررنا في حالات قليلة إلى إعادة صياغة جملة بذاتها لتبدو مفهومة، إذا كانت ثمة ضرورة إلى ذلك، وأضفنا في بعض العبارات كلمات لإتمام السياق، حصرناها بين معقوفين [...]،كما أضفنا عنوانات جانبية، حصرناها بالمعقوفات ذاتها.
وأخيرًا، لا بد لنا بهذه المناسبة أن نشكر الصديق الباحث السيد زين النقشبندي على توفيره نسخة مصورة من أصل الرحلة المحفوظ في دار المخطوطات ببغداد فور طلبنا إليه ذلك، جزاه الله خيرًا،والله تعالى من وراء القصد.
الرحلة
بغداد:
كان عالي بك قد وصل سامراء وزار مراقدها المباركة، ثم مضى في طريقه نهرًا حتى وصل مصب نهر العُظيم، ويسميه الترك (شط أدهم)، وهو غير صحيح ،ومنها تحرك الكلك ووجهته قرية السندية ،ثم وصل إلى قرية (الجديدة)، ومنها وصل إلى قصبة الأعظمية، وسميت بذلك لأن الإمام الأعظم أبا حنيفة قد توفي فيها، ونسبت إلى اسمه، وتقع في الجانب الأيسر من دجلة، وفي الجانب الآخر بلدة الإمام موسى الكاظم، وقد شاهد التربة والجامع الشريف والقبة والمنارات من مسافة بعيدة.
الاعظمية
ولما وصل إلى الأعظمية دخل دار نعمان أفندي متولي وسادن حضرة الإمام الأعظم، فرأى الدار مفتوحة، ورأى الناس يدخلون إليها، فاستقبله مَن في الدار من أعوان، فصعدوا إلى الطابق الثاني، ورأى شيخًا هناك وعلى رأسه عمامة، وكان قد بشر به، وقد أبدى لطفًا وقال له: يظهر أنكم أتيتم من سفر، فاستريحوا ثم توضؤوا، وسنذهب معًا إلى الجامع الشريف، وعلمت أن هذا المحل لم يكن خانًا ولا قهوة.
وأبدى المتولي اعتذاره، وبيَّن أنه سادن، وأن هذا بيته، وأخذني إلى غرفة أخرى فتوضأت، ونفضت الغبار عن أثوابي،ثم إن أعوانه قدَّموا لي طعامًا وافرًا، مع أن الموما اليه لم يعلم مَن أنا، ولا من أين أتيتُ، وكل ما عَلِمَه عني أني ضيف، فأكرمني وأعزَّني، ثم أذَّن المؤذن، فذهبنا لأداء صلاة الجمعة، ففتح نعمان أفندي التربة الشريفة، ووفقنا لزيارة مرقد الإمام الأعظم، وإن الجامع ذو منارة واحدة جسيمة، وله جبهتان على الطريق والسوق، وله ساحة كبيرة، [وهو] ذو بابين.
وفي [هذه] الأثناء رأيت حفيد الوالي الأسبق مجيد باشا، وهو مجيد بك من أحبائي، وكان معه بهجت بك ناظر الديون العمومية في بغداد، فأديت لهم شكري لما قاموا به من التفاتٍ نحوي، كما أني كررت شكري الخاص لنعمان أفندي؛ لما أبداه من حُسن ضيافة، فودعته وركبت عربة مع نجيب بك وبهجت بك، فوصلت بعد نصف ساعة إلى بغداد، وقضيت [النهار] في دار بهجت بك.
سوربغداد
ثم تطرق إلى بغداد، وبين أنها معروفة بـ: (الزوراء) و(دار السلام)، وأن القسم الأعظم من بغداد في يسار الشط، (وضمن سور) (دجلة)، أو (الجانب الشرقي)، والقسم الأصغر في القسم الأيمن من الشط، وأن الجسر المُتخذ من الخشب والمرتكز على جساريات يصل بين الجانبين، وأن الجانب الأيسر من المدينة، وهو القسم الأعظم، يقال له: (الرصافة)، والقسم الأيمن من المدينة يقال له: (الكرخ)، وفي الرصافة دائرتا بلدية، وفي الكرخ دائرة ثالثة للبلدية، وقيل: إن سور المدينة يمنع توسعها؛ ولذا اقتلع وهُدم، واليوم للسور بابان بشكل (بُرج) ، وهما من بقايا ذلك السور.
هذا وقيل: [إن] سور قلعة ديار بكر مانع من توسعها؛ ولذا بُنيَت دارٌ للحكومة خارج القلعة، في حين أن المدينة بقيت على حالها القديم، ومن ثم عادت الحكومة إلى محلها القديم، كما سبق ذكر ذلك،أما بغداد فإن سورها قد هدم منذ ثلاثين سنة[12]، ولكن ذلك لم يُجدِ نفعًا في توسع المدينة، وإن المدينة بقيت مهددة بهجوم العشائر بسهولة، وتسلطهم عليها، وكان [ذلك] قد ولَّد الخوف، ولكن زال الخوف في هذه الأيام، إلا أن المدينة مهددة بمياه الفيضان، وكان السور مانعًا من دخوله إلى المدينة، والآن خطر دخول المياه ملحوظومتوقع[13]، كما أن توسع المدينة يتوقف على زيادة النفوس، والاتصال بالخارج عن طريق وجود التجارة والصناعة وتكاثرهما، ومن جهة أخرى أن المدينة إذا زادت ثروتها تتوسع مطلقًا، وأن سورها لا يمنع من هذا التوسع أبدًا.
من المعالم البارزة في بغداد
1-وعندما يجيء المرء إلى بغداد من طريق الشط من الرصافة يشاهد أولًا قصر النجيبية، الذي أقام فيه المرحوم ناصر الدين شاه (وهو شاه إيران) سنة 1288 (رومية)[14]، حينما ورد للسياحة في بغداد.
2-مكتب الصنائع.
3- دار الحكومة. مع إدارة المشيرية.
4- القشلة الهمايونية.
5 -المكتب الإعدادي العسكري.
ثم يُشاهد الجسر الذي يصل بين الرصافة والكرخ، ثم دائرة الكُمرك التي هي تحت الجسر، والإدارة النهرية العثمانية بين بغداد والبصرة، وشركة لَنج للمراكب البخارية.
وفي أسفل ذلك عدة بيوت ومقاه.
وأما الجانب الآخر من الشط، [حيث] محلة الكرخ، وتجاه دار الحكومة من الجانب الآخر من جهة الكرخ، تشاهد أبنية المستشفى، وهو مستشفى الغرباء، ومعمل الحديد، ومحلات أخرى بين الجنان.
إن طول النهر على امتداد المدينة يبلغ نحو سبعة كيلو مترات، وما فوق المدينة وما تحتها بساتين النخيل تمتد ساعات،وفي أثناء ظهور الأزهار فيها يشاهد رائحة طيبة ولطيفة جدًّا، تنعش الإنسان برائحتها.
ولما دخلت بغداد من طريق البر آتيًا من الأعظمية كان باب الإمام الأعظم متهدما، ورأيت بقاياه ، ولما دخلت المدينة رأيت كثيرًا من المقاهي في طريقي، ثم وصلت إلى محلة الميدان ، وهناك أول ما تعلق النظر به قبة جامع أحمد باشا ومنارته النفيسة المنقوشة بالكاشي الملون، وكانت القبة عظيمة وجميلة، وفي يمين الداخل قبل وصول الجامع باب دائرة المدفعية، ثم يأتي السوق والمحلات الأخرى، والأماكن الأميرية المذكورة، منها: دار الحكومة، ودائرة المشيرية، [و] كانت أبنيتها من أخشاب عتيقة، وباقي الأبنية من أحجار الآجُرِّ.
عناصر السكان وأزياؤهم
إن سكان بغداد يبلغون نحو مائة ألف نسمة ، والقسم الأعظم من المسلمين، ومنهم ستة آلاف بيت لليهود، وقسم منهم من الكلدان والكاثوليك، [و]عدا هؤلاء قد اختار الإقامة في بغداد قسم من التجار، وبعض الزوار، وتكونت منهم مجموعة من الإيرانيين، وإن الأهالي بالنظر لصنوفهم ومذاهبهم تختلف ألبستهم وقيافاتهم، فتظهر الفروق بين بعضها البعض؛ فالأشراف والأعيان مثلًا ممن يعيشون في إيران عقارهم ]يلبسون الزُّبُون والجُبَّة والمشلح ، وبعضهم يلبس في رأسه العمامة، وبعضهم (الفيس)، وإن الموظفين في أشغال الحكومة يلبسون الزبون والمشلح، وفي رؤوسهم كَفيَّة من إبريسم أصفر، وقسم [من] العمال يلبسون الزبون من جثاري وأبيض رماني أو أحمر، وكفية من إبريسم أحمر شطرنجي ،وإن اليهود أيضًا يلبسون الزبون والمشلح وبرؤوسهم عمامة عليها نقوش،والنصارى يلبسون الزبون والمشلح، وعلى رؤوسهم (الفيس) ، ونساء المسلمين تلبس جَرجَف من حرير وكَلَبدُون حينما تخرج إلى السوق، وتلبس في رأسها (بيجة) معمولة من قماش أسود، وتلبس في رجلها حذاء يقال له: جدك (جيبك) أصفر وعال،ونساء اليهود يلبسن جرجف معمول من تيل أصفر، وفيه نقوش بيضاء ولارج وردية (لازوردية)، وتضع على رأسها بيجة من القماش الأسود، وحذاء أصفر،ونساء النصارى يلبسن جرجف كنساء المسلمين، إلا أنهن يكشفن عن وجوههن، وبعضًا يضعن غشاء من تول رقيق أو أسود فيتسترن به، وبأرجلهن يلبسن البوتين في الأكثر، والغالوش (كالوش) .
لغة السكان ولهجاتهم
إن لغة الأهالي - بوجه عام - اللغة العربية، وكثير منهم يتكلم التركية، إلا أن اللغة العربية دخلتها ألفاظ أجنبية كثيرة، [منها:] (يَواش) و(دَرد) و(خوش) و(جاريك) ، وأمثالها من تركية وفارسية، عدا ذلك فإن الإنكليز يقولون بدل قدح: (كلاس)، فهو مستعمل،كما أنهم يتصرفون بالكلمات التركية، فيقولون: (مُجمَّر)؛ أي: أصابه (جامور)، وهو الطين، و(مجرك) من (جرك) ، و(يوجالش) من (جاليشور) .
دور المدينة
وبيوت بغداد مبنية من الآجر الأصفر، ولم يكن عندهم الجص، وإنما يجعلون عوضه ما هو مركب من رمال وعلك أسود ، ويطلون به الحيطان، وهذا ينوب مناب التبييض في الجص، وداخل الغرف يُطلى بالجص الذي يأتون به من هيت الواقعة على نهر الفرات، وهذا لا يستعمله إلا الأغنياء في بيوتهم، والباقون يطلون الحيطان بالطين ويبنون به،وإن أكثر الحيطان تتهدم في السنين التي يكون فيها المطر شديدًا في الشتاء، وإن هذه البيوت لم تكن كما في إستانبول، وإنما تبنى بصورة سريعة، وإن الأبنية تكون من جهتين، أو من ثلاث، أو من أربع جهات ، وكلها ناظرة إلى الساحة، وأحيانًا تبنى السراديب، ويعد البناء في طبقتين، وتكون أمام الغرف ممرات في ساحة يقال لها: (طارمة)، وليس للدور طابق ثالث ، وقد توجد غرفة أشبه بالصندوق، وتقع بين الغرف يقال لها: (كفشكان)، وهي غرفة صغيرة معلقة،وفي ليالي الصيف ينام السكان على السطوح، وهي من تراب، أو مفروشة بآجر.
وفي البيوت لا يوجد ماء جار، وإنما توجد آبار، إلا أن السقائين يأتون بماء الشرب من الشط، عدا ذلك فإن في إدارة البلدية الأولى مضخة ماء تمد بعض المحلات بماء الشط بواسطة أنابيب .
الأزقة ببغداد
إن أزقة بغداد كلها ليست مبلطة؛ ولذا لا تخلو من غبار في الهواء يابس، وفي المطر: من طين لا يمكن أن يجتازه المرء بسهولة،إن المملكة التي ليس لها صخور لا يعمل فيها تبليط، حتى إن الحمامات في مجازاتها ومواطنها تبلط بالقير أو الأسفلت ،فإذا مطرت فإن الأزقة بسبب ما فيها من تراب لزج لا يستطيع الإنسان أن يجتازها دون أن يزلق، أو يقع في الطين بسبب لزوجته،ثم إنه ليس للمملكة.... ؛ ولذا يستعملون (البالوعات) في الأزقة أو في البيوت، فإذا أمطرت السماء تمتلئ البالوعات، وإن الأزقة تعود إلى حالة جيدة، وإن البالوعات توضع في أفواهها طابوقة (آجرة) ذات ثقب، ولم يدم استعمالها، بل في الغالب تكسر أو يوسع فمها، وإن المشاة أو الفرسان العابرين والمارين يكون ذلك تهلكة عليهم .
مياه الشرب
إن مضار السقائين الذين يحملون الماء إلى بغداد وإزعاجهم كثير، وهؤلاء يحملون أوعية من جلد المعز يسمونها قِربة، يحملونها على حميرهم، يأتون إلى الشاطئ وينتهون بالشريعة، فيملؤون تلك القِرب ويضعونها على الحمير، وهذه ليس لها أجلة ولا حبال، وإنما يمسك السقاؤون القِرب على الحمير، ويمرون على الأزقة في جادة أو جادتين، لا يسع المار منها فارسًا، فهي ضيقة، وتلوث المارة بطينها ورطوباتها، فتولد أوساخًا فيهم، وعدا ذلك فإن غالب القِرب فيها ثقوب يظهر منها الماء فيبل المارة.
النقل في بغداد
إن ضيق الأزقة يمنع من مرور العربات واستعمالها؛ ولذا نرى أن للمرء عدة حيوانات في بيته تبعًا لما يملك من قدرة، ولا يوجد حصان أو كديش للكراء، إلا أن حمير الكراء تكون بيضاء جميعها، وإن أصحابها هم الذين يسوقونها، ولا يستعملون عصا أو مقرعة، وإنما يركضون خلفها ويقولون: (خي) (دخي)، ومن ثم وبمجرد سماع ذلك، فإن الحمير تسرع في مشيها،ولما كانت الأزقة خالية من التبليط، فلا يسمع لذلك جرس أو أجراس في رقبتها فتنبه الماشي في الطريق، أو أن ينادي أصحابها بلفظ (بالك) .
إن نقل الأثقال والأحمال في بغداد خاص بهذه الحمير، وعدا ذلك فإن الأكراد من أهل راوندوز وكركوك يكونون حمالين،وإن الحمير وكذا الحمالين يوضع على ظهرهم [شيء] أشبه بجل الدابة يمنع تأثير الحمل على الظهر، وإن أحدهم يمسكها من جهة كقرب السقائين، وإذا كان الحِمل كبيرًا فمن جانبيه، يعتني كل واحد بجانبه، فيمسكونها،وإن أغلب الحمالين لا يضعون ما هو أشبه بالجل، وإنما يستخدمون (كونية) تشبه العباءة، فيضعون الأشياء فيها ويربطونها بظهورهم ورؤوسهم،وإن رؤوس هؤلاء الحمالين قوية جدًّا، وتستدعي الحيرة؛ فإنهم ينقلون نحو خمسين أو ستين قية من الأحمال، ولا يبالون،وفي رؤوس الحمالين (كلاو) ، وفي ظهورهم سترة أعجمية تمتد إلى ركبتهم، ويلبَسون شيئًا أشبه بالعباءة، ولم يكن لهم حذاء ولا لباس، وبعضًا يمتدون وينامون في رؤوس الأزقة، وإن الناظر يستنكره من لون سوقهم؛ لما فيها من منظر مستنكر وقبيح جدًّا، وكذا السقاؤون بهذه القيافة،وإن غالب الأهالي لا يلبسون اللباس الداخلي، ولم يكن الأمر مقصورًا على الحمالين والسقائين.
فإذا أراد المرء أن يعبر من الشط إلى الجانب الآخر، [فإنه] يستخدم (القفة) أو (الكَوفة)، وهي حوض مدور، ونوع [من] زورق، وهذه القفف أشبه بالسبد (السبت)، أو السلة للأثواب، وتتكون من السعف، وتطلى بالقير أو الأسفلت، وليس لها رأس، وإنما هي مدورة، وإن القوَّافين يستخدمون الغرَّافة إلى أي طرف أرادوا أن يسيروا بها،وإن الأهالي يستخدمونها [في] مقام الزورق والبلم عدا المراكب البخارية [و] الكلكات .وبين بغداد من جانب الكرخ وبين [قصبة] حضرة الإمام موسى الكاظم نحو ستة كيلو مترات من المسافة،وهناك خط الترامواي بين قصبة الكاظمية والكرخ، وهذا شيد قبل نحو خمس وعشرين سنة؛ [إذ] تأسست شركة مساهمة ، و[إلى] الآن يشتغل هذا الخط ، وإن الزوار من الإيرانيين في مواسم الزيارة ينتفعون منه.
دكاكين وموازين
وإن الدكاكين القديمة في بغداد أعلى من الأرض بكثير، وإن كل دكان أمامه دكة، وهناك سلسلة في رأسها حلقة يستعين بها صاحب الدكان لصعوده ونزوله، كالبقال وغيره، والباعة يمدحون سلعتهم بغزل وغناء يجذبون به المشتري،[و] في دياربكر (الوقية) أو (الكيلو) تعادل خمسمائة درهم، وفي حصن كيفا ستمائة وأربعون درهم، هكذا رأينا، وكلما صرنا إلى الجنوب يزيد مقدار الوقية، ففي بغداد (الوقية) ألف درهم، وتسمى (قية)، وربعها يقال له: ربع وقية، وإن القية ذات الأربعمائة درهم يقال لها: (قية) إستانبول، فإن الأوزان والأكيال في بغداد متنوعة، وإن هذه تتنوع بنوع المال وجنسه، وتتخالف في نوعها، وكذلك النقود، فكل عشرة متاليك (قرش) أي (غروش)، وعشرين متليك (قمري)، وأربعون بارة (أربعة قروش)،وإن الوارد جديدًا في المدينة من المسافرين لا يعرفون أن كل عشر بارات (غرش)، ولأول وهلة يرى الأشياء غالية جدًّا، حتى إن خدامنا استغلوا هذا الغلط؛ فضاعفوا مصرف الطبخ، فأخذوا منا أربعة أضعافه.
1265 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع